مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

عرفت عند تفسير الجهة أنّه لا يجب على من لم يشاهد الكعبة حقيقة أو حكما إلّا استقبال السمت الذي يحتمل وجود الكعبة فيه ، ويقطع بعدم خروجها منه ، متحرّيا في تشخيصه الأقرب فالأقرب ، وهذا ممّا يتّسع بحسب الأحوال والأشخاص بحيث قد يكون ما بين المشرق والمغرب قبلة ، كما يشهد له الصحيحتان الآتيتان (١).

ويؤيّده ما يستفاد من النصوص والفتاوى من جواز التعويل على الأمارات الظنّيّة التي من أوضحها الرياح الأربع ، كما مثّلوا بها ؛ فإنّ من الواضح أنّه قلّما تتشخّص جهة القبلة بمثل هذه الأمارات في أقلّ من ربع الدائرة ، ولا يخفى عليك أنّه متى أحرز جهة القبلة بشي من العلائم المعتبرة يعامل مع تلك الجهة معاملة عين الكعبة عند مشاهدتها ، فلا يلاحظ حينئذ مقدار الانحراف عن العين ، كي يقال : إنّ الانحراف عن الكعبة بمقدار ثمن الدائرة مضرّ أو غير مضرّ ، لا لكون الجهة من حيث هي قبلة للبعيد ، بل لكونها عند إجمال خصوص الجهة المحاذية لها بمنزلتها من باب التوسعة والتسهيل بشهادة العرف والشرع.

وثانيا : أنّه لا خلاف في أنّه لا يجب على من لم يتمكّن من معرفة القبلة أزيد من أن يصلّي الفريضة الواحدة إلى الجهات الأربع لكلّ جهة مرّة ، فلنا أن نقول : لا يجوز الاجتزاء بأقلّ من ذلك ؛ لقاعدة الاشتغال ، ولا يجب أزيد من ذلك ؛ إذ لا خلاف في كفاية هذا المقدار من الاحتياط ، فهو مبرئ يقينيّ لما اشتغلت به ذمّة المكلّف.

__________________

(١) في ص ٨٣ و ٨٧.

٨١

وما يقال ـ من أنّ الإجماع في مثل المقام لا يكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام حتّى يكون موجبا للقطع بفراغ الذمّة ، فإنّه مركّب من قول المشهور ومن قول من اكتفى بصلاة واحدة زاعما اختصاص شرطيّة الاستقبال بصورة العلم ، فلا يجدي إجماعهم على عدم وجوب الزائد في مثل الفرض ـ مدفوع بما تقدّمت الإشارة إليه من أنّه لو انحصرت جهة القبلة في إحدى الجهات لا يقول أحد بسقوط شرطيّة الاستقبال ، ولا يوجب أزيد من صلاة واحدة إلى تلك الجهة ، فهذا دليل على اتّساع جهة القبلة لغير المتمكّن من تشخيص جهتها الخاصّة بحيث يجزئه صلاة واحدة إلى السمت الواقع فيه الكعبة واحتملها في كلّ جزء منه وإن انحرف عن محاذاتها بمقدار لو علم به أو أمكنه تشخيص جهتها في أقلّ من ذلك لم يكن يجزئه ذلك.

لا يقال : إنّ هذا لا يكشف عن اتّساع الجهة لغير المتمكّن ؛ لجواز أن يكون الاكتفاء بصلاة واحدة إلى الجهة التي علم إجمالا بوجود الكعبة فيها ؛ لاكتفاء الشارع في مثل الفرض بالموافقة الاحتماليّة ، وحيث يحصل احتمال الموافقة بصلاة واحدة إلى أيّ جهة تكون عند اشتباه القبلة في الجهات كلّها ، فلا مقتضي لوجوب الأزيد ؛ فإنّ للإطاعة مرتبتين : الأولى : وجوب الموافقة القطعيّة ، والثانية : حرمة المخالفة القطعيّة ، فمتى تعذّر القطع بالموافقة أو دلّ الدليل على عدم وجوبه ، لم يجب إلّا التحرّز عن المخالفة القطعيّة ، وهو حاصل في الفرض.

لأنّا نقول ـ بعد الغضّ عن ظهور فتاوى الأصحاب بل صريح كثير منها في أنّ الصلاة إلى الجهة التي احتمل وجود الكعبة في كلّ جزء منها ليست من باب

٨٢

العمل بالاحتياط ، بل لكونها صلاة إلى القبلة ـ : إنّه يكفي في إثبات المدّعى انعقاد الإجماع المعتضد بأدلّة نفي الحرج وغيرها ـ ممّا ستسمعه ـ على عدم وجوب أزيد من صلاة واحدة إلى كلّ جهة ، سواء كان منشؤه اتّساع الجهة أو عدم وجوب مراعاة الاحتياط بأزيد من ذلك.

وما قيل ـ من أنّه متى تعذّر القطع بالموافقة لم يجب إلّا التحرّز عن المخالفة القطعيّة ـ ففيه : ما ستعرف في الفرع الآتي من أنّه لا يجوز رفع اليد عمّا يقتضيه الاحتياط في الواجب إلّا بقدر ما تقتضيه الضرورة ، أو يدلّ عليه دليل خاصّ ، فلا يجوز عند تعذّر تحصيل العلم الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة ، بل تجب رعاية الواجب بقدر الإمكان ، كما سنوضّحه.

حجّة القول بكفاية صلاة واحدة : صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم ـ المرويّة عن الفقيه ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إنّه قال : «يجزئ المتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (١).

ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قبلة المتحيّر ، فقال : «يصلّي حيث يشاء» (٢).

وصحيحة معاوية بن عمّار ـ المرويّة عن الفقيه ـ قال : قلت : الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا ، فقال : «قد مضت صلاته ، فما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في المتحيّر

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٣.

٨٣

(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١)» (٢).

ونوقش فيها : أمّا في صحيح (٣) زرارة ومحمّد بن مسلم : فبأنّه ليس إلّا في الفقيه دون الكافي والتهذيب والاستبصار ، التي علم من عادتها التعرّض لما في الفقيه ، سيّما الأخير الذي دأبه ذكر النصوص المتعارضة ، فعدم ذكره ذلك معارضا لمرسل (٤) خراش ممّا يؤيّد عدم كونه كذلك فيما عندهم من نسخ الفقيه ، وأنّه محرّف بقلم النسّاخ عن الصحيح الآخر : «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (٥) المعروف في كتب الأصحاب.

وقد حكي عن المحدّث المجلسي رحمه‌الله الجزم بذلك مؤيّدا له بتأييدات كثيرة (٦).

وقد يناقش في دلالتها أيضا باحتمال إرادة الاجتهاد منها على معنى أينما توجّه ممّا قوي في ظنّه ، فتتّحد مع الصحيحة السابقة ، كما أنّه قد يناقش في دلالة مرسلة ابن أبي عمير بإبداء مثل هذا الاحتمال.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١٥.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ١ ، وليس فيه قوله : «ونزلت هذه ..». وأوردها بتمامها العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٣٦ ، والظاهر أنّ الذيل من كلام الصدوق رحمه‌الله.

(٣) في «ض ١٤» : «صحيحة».

(٤) تقدّم المرسل في ص ٦٧.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٦٦ ، الهامش (٤).

(٦) روضة المتّقين ٢ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، وكما في جواهر الكلام ٧ : ٤١٣.

٨٤

وفيه ما لا يخفى.

وأمّا في الصحيحة الأخيرة : فبأنّ الظاهر أنّ ما في ذيلها ـ أعني قوله : «ونزلت هذه الآية» إلى آخره ، الذي هو محلّ الشاهد ـ من عبارة الصدوق ، مع معارضته بما في كثير من النصوص بأنّ الآية نزلت في النوافل.

مثل ما عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) : «إنّها ليست منسوخة ، وإنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر» (٢).

وعن الشيخ في النهاية عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣) قال : «هذا في النوافل خاصّة في حال السفر ، وأمّا الفرائض فلا بدّ فيها من استقبال القبلة» (٤).

وعن عليّ بن إبراهيم رحمه‌الله في تفسيره في قوله تعالى (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٥) قال : قال العالم عليه‌السلام : «فإنّها نزلت في صلاة النافلة ، فصلّها حيث توجّهت إذا كنت في سفر ، فأمّا الفرائض فقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٦) يعني الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١٥.

(٢) مجمع البيان ١ ـ ٢ : ٢٢٨ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٨.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) النهاية : ٦٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٩.

(٥) البقرة ٢ : ١١٥.

(٦) البقرة ٢ : ١٤٤ و ١٥٠.

٨٥

القبلة» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه ، فهذه الأخبار بظاهرها تناقض ما في ذيل الصحيحة المتقدّمة (٢) من أنّها نزلت في المتحيّر سواء جعلناه من تتمّة الرواية أو من كلام الصدوق.

والحمل على الثاني أوفق بظواهر هذه الأخبار ، كما يؤيّده سوق التعبير ، وعدم المناسبة بينه وبين ما قبله من تحديد القبلة بما بين المشرق والمغرب.

ولكن مع ذلك لا يظنّ بالصدوق أن يتكلّم بمثل هذا الكلام لا عن مأخذ صحيح ، كما يؤيّده ما روي مرسلا من أنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يهتدوا إلى القبلة في بعض الأسفار ، فصلّى كلّ منهم إلى جهة وخطّ ، فلما أصبحوا ظهر أنّ صلاة الجميع وقعت على غير القبلة ، فنزلت هذه الآية (٣).

فالإنصاف أنّ هذا الاحتمال وإن كان قويّا كاحتمال اتّحاد الصحيح السابق مع الصحيحة الأخرى التي تقدّمت الإشارة إليها ، إلّا أنّ الاعتناء بمثل هذه الاحتمالات في رفع اليد عن الأخبار مشكل.

هذا ، مع أنّ في مرسل ابن أبي عمير ـ الذي هو عند الأصحاب كالصحيح ـ غنى وكفاية لولا وهنها بمخالفة المشهور ومعارضتها بمرسلة خراش ، وغيرها المنجبر ضعفها بما عرفت.

فالأولى ردّ علم مرسلة ابن أبي عمير ونظائرها ـ بعد إعراض المشهور عن

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٤٠١.

(٢) في ص ٨٣.

(٣) مجمع البيان ١ ـ ٢ : ١٩١.

٨٦

ظاهرها ، ومخالفتها للأصول والقواعد ، خصوصا مع معارضتها بما سمعت ـ إلى أهله.

ويحتمل قويّا جريها مجرى الغالب من اشتباه القبلة في سمت واحد ، كما هو مورد الصحيحة الثالثة الدالّة على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة.

ولكن لا يخفى عليك أنّ مقتضى ما في هذه الصحيحة ـ من تحديد القبلة بما بين المشرق والمغرب ـ كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» (١) : حصول الفراغ اليقيني عن الصلاة إلى القبلة بثلاث صلوات إلى ثلاث جهات متباعدة على وجه قطع بوقوع بعضها فيما بين المشرق والمغرب ، الذي هو قبلة لمن لم يتمكّن من تشخيص جهتها في أقلّ من ذلك بشهادة الصحيحتين المتقدّمتين المحمولتين ـ صرفا أو انصرافا ـ على ذلك ، كما تقدّمت الإشارة إليه عند التكلّم في تفسير الجهة.

فهذا ـ أي الاكتفاء بثلاث صلوات ـ أحد المحتملات في المسألة ، بل ربما يظهر من بعض الميل أو القول بذلك ؛ نظرا إلى ما عرفت.

وهو لا يخلو من قوّة وإن كان الأحوط بل الأقوى اعتبار الأربع ؛ فإنّ رفع اليد عن النصّ الخاصّ ـ أي خبر خراش ـ المعتضد بالشهرة والإجماعات المنقولة بواسطة إطلاق الصحيحتين ـ اللّتين لم يقصد بهما إلّا بيان الجهة التي يجتزأ باستقبالها في الجملة من باب التوسعة والتسهيل ، لا القبلة الواقعيّة التي

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٥ ، الوسائل ، الباب ٩ و ١٠ من أبواب القبلة ، ح ٢.

٨٧

يجب استقبالها من حيث هي ـ مشكل ؛ لإمكان أن يكون حكمة اكتفاء الشارع بصلاة واحدة إلى مطلق السمت الواقع فيه الكعبة ـ أي ما بين المشرق والمغرب ـ لكون التوجّه إلى ذلك السمت عند تميّزه مفصّلا توجّها إلى الكعبة بنحو من الاعتبار العرفي ، بخلاف ما لو اشتبه عليه الجهات ؛ فإنّ التوجّه إلى سمتها الذي هو بمنزلة التوجّه إليها لدى الضرورة لا يتحقّق بنظر العرف إلّا بالتوجّه إلى الجهات الأربع.

وعن ابن طاوس الاجتزاء بالقرعة (١).

وفيه : أنّ مورد استعمال القرعة إنّما هو الموضوعات الخارجيّة التي لا يمكن معرفة حكمها باستعمال شي‌ء من الأصول والقواعد المقرّرة في الشريعة ، التي منها قاعدة الاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، والبراءة لدى الشكّ في التكليف.

وسرّه أنّ الشارع جعل القرعة لكلّ أمر مشكل ، أي ملتبس أمره في مرحلة الظاهر بحيث يتحيّر فيه المكلّف في مقام عمله ، لا مطلق ما كان مشتبها في الواقع ، وإلّا فجلّ الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشرعيّة كذلك ، فيلزمه تخصيص الأكثر المستهجن ، فهي لا تجري في مثل المقام خصوصا بعد ورود نصّ خاصّ فيه.

وهل يشترط في الصلاة إلى الجهات الأربع تقابل الجهات وانقسامها إلى خطّ مستقيم بحيث يحدث منها زوايا قوائم ، أم لا يشترط إلّا تباعد بعضها عن

__________________

(١) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ٩٤ ، وحكاه عنه الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥١٩.

٨٨

بعض بحيث لا يكون بين الجهة الثانية والأولى ما يعدّ قبلة واحدة؟ وجهان بل قولان : من أنّ المنساق إلى الذهن من النصّ والفتوى هو الأوّل ، ومن أنّ المقصود بالتكرار إحراز وقوع الصلاة إلى جهة القبلة ، وهو يحصل بمطلق الصلاة إلى الجهات الأربع ولو لا على جهة المقابلة المزبورة.

والأوّل أحوط بل أقوى ؛ إذ لو جاز تباعد بعضها عن البعض بأزيد من ربع الدائرة لاتّجه الاجتزاء بثلاث صلوات.

اللهمّ إلّا أن يراد نفي المقابلة الحقيقيّة على سبيل التدقيق ، لا جواز التباعد بمقدار الثلاث كي يتوجّه عليه ما ذكر ، فعلى هذا لا يخلو قوله من وجه.

ولو صلّى الظهر إلى الجهات الأربع ، لم يجب عليه إيقاع العصر موافقة لها في الجهات ؛ لأنّ كلّ صلاة في حدّ ذاتها تكليف مستقلّ يراعى فيها ما يقتضيه تكليفه.

ولو صلّى الظهر إلى جهة ، هل له فعل العصر إلى تلك الجهة قبل الإتيان بباقي محتملات الظهر ، أم يجب تأخير العصر حتّى يفرغ عن جميع محتملات الأولى؟ قولان مبنيّان على أنّه هل تجب مراعاة الجزم في النيّة مهما أمكن ، وأنّه إذا تعذّر من جهة لا يعذر في إهماله من سائر الجهات ، فالعاجز عن تشخيص القبلة أو معرفة كون الصلاة قصرا أو تماما يجب عليه تحصيل العلم التفصيلي حال الإتيان بكلّ من محتملات العصر بوقوعه مرتّبا على الظهر ، ولا يكفي علمه إجمالا بترتّبه على الظهر على تقدير صحّته ومطابقته للواقع ، أم لا يجب عليه إلّا العلم بترتّبه على الظهر على تقدير مطابقته للواقع ، أي كون هذه الجهة قبلة؟

٨٩

وهذا هو الأقوى ؛ فإنّا لو سلّمنا اعتبار الجزم في النيّة في صحّة العبادة مع الإمكان وأنّه إذا تعذّر من جهة لا يعذر من سائر الجهات ، فإنّما هو فيما إذا كان إهماله موجبا لترديد في التكليف بأن يأتي بما يحتمل وجوبه احتياطا ، كالدعاء عند رؤية الهلال مع تمكّنه من معرفة حكمه تفصيلا ، أو في المكلّف به بأن يأتي بما هو واجب عليه في ضمن أمرين أو أمور مع تمكّنه من تمييز الواجب عن غيره ، أو تقليل محتملاته ، لا في مثل المقام الذي لا نرى لجزمه ربطا بصحّة عبادته عقلا أو عرفا أو شرعا ؛ لأنّ الترتّب ليس معتبرا إلّا بين الواجبين في الواقع ، وهو يعلم من أوّل الأمر أنّ العصر التي قصد امتثالها في ضمن محتملاتها تقع مرتّبة على الظهر الواقعيّة ، فترديده ليس إلّا في تشخيص العصر الصحيحة عن غيرها ، لا في ترتّبها على الظهر.

وبهذا ظهر لك ضعف الاستدلال لعدم مشروعيّة الإتيان بمحتملات العصر قبل القطع بفراغ ذمّته من الظهر : باستصحاب شغل ذمّته بالظهر وعدم تحقّق الفراغ الذي هو شرط في صحّة العصر ، فإنّ أثر هذا الاستصحاب ليس إلّا عدم جواز الإتيان بالعصر الواقعيّة بأن يصلّيها إلى جميع الجهات أو في مكان يعلم بالقبلة تفصيلا ، لا عدم الإتيان بهذا المحتمل الذي يأتي به من باب الاحتياط ، ولا يحتمل كونه عصرا إلّا على تقدير يعلم بكونها واجدة لشرطها على ذلك التقدير ، فالمصحّح لشرعيّة هذا الفعل ليس إلّا الاحتمال المقرون بالعلم بكونه واجدا لشرط الصحّة ، فلا يعارضه الاستصحاب.

وربّما يتخيّل أنّه عند اشتباه القبلة أو الثوب الطاهر بالنجس أو غير ذلك يختصّ أوّل الوقت بالفريضة الأولى إلى أن يمضي بمقدار الإتيان بجميع

٩٠

محتملاتها ، أي بمقدار أربع صلوات عند اشتباه القبلة ، إلّا أن تبرأ ذمّته عنها قبل مضيّ هذا المقدار بأن أتى ببعض محتملاتها في أوّل الوقت وصادف الواقع ، فحينئذ يدخل وقت العصر ويتنجّز التكليف بفعلها ، فمن هنا قد يفصّل فيما نحن فيه بين الوقت المختصّ والمشترك ، فيصحّ في الثاني ؛ لأنّه أتى بمحتمل العصر في وقت علم بكونه مكلّفا بفعلها ، بخلاف الأوّل ؛ فإنّه لا يعلم حين الإتيان بالمحتمل بدخول وقت العصر ، الذي هو شرط في تنجّز التكليف بها ، فيكون بمنزلة ما لو أتى ببعض محتملات الظهر قبل أن يتحقّق عنده الزوال.

وفيه ـ بعد الغضّ عمّا حقّقناه في محلّه من مشاركة الصلاتين في الوقت ، وأنّ الاختصاص ينشأ من الترتيب بين الصلاتين ، فالمكلّف من أوّل الوقت مأمور بإيقاعهما مرتّبتين ، مع أنّه على تقدير القول بالاختصاص فإنّما هو بمقدار أداء الفريضة من حيث هي أو مع مقدّماتها الوجوديّة ، لا ما يتوقّف عليه العلم بأدائها ، فالجهل بجهة القبلة ، المانع (١) عن تأدية الفريضة الواقعيّة في أوّل وقتها ـ كغيره من الأعذار المانعة عن ذلك ـ لا يوجب امتداد وقتها المختصّ المقدّر في النصّ والفتوى بمقدار أربع ركعات أو بمقدار أدائها ـ : أنّه يرد عليه ما عرفت من أنّ المصحّح لشرعيّة هذا الفعل ليس إلّا الاحتمال المقرون بالعلم بتنجّز التكليف بذلك الفعل على تقدير مصادفته للواقع ، فهو يعلم بأنّه إن كان ما يأتي به مصداقا للعصر الواجبة في الشريعة ، التي يجب عليه الخروج عن عهدتها في ضمن محتملاتها ، فقد تنجّز الأمر بها ، وإلّا فلا يجديه هذا الفعل.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «المانعة». والصحيح ما أثبتناه.

٩١

ولا يعتبر فيما يأتي به من باب الاحتياط أزيد من ذلك جزما ، فمن علم بأنّه يجب عليه كفّارة مردّدة بين الصوم والعتق ، لا يجب عليه تأخير العتق إلى اليوم كي يعلم بتنجّز التكليف بالخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم بالإجمال ، بل عليه أن يأتي بكلّ من طرفي الشبهة في وقته الذي يعلم بكونه وقتا له على تقدير كونه هو المكلّف به.

ودعوى أنّه يجب أن يكون حين الإتيان بكلّ من أطراف الشبهة عالما بتنجّز التكليف بذلك الواجب المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، عريّة عن الشاهد ، بل الشواهد قاضية بخلافه.

ولو نوى من أوّل الأمر الاقتصار على بعض الجهات ، صرّح غير واحد ببطلان صلاته وإن انكشف بعد الصلاة مطابقته للواقع ، بل ظاهرهم كونه من المسلّمات ؛ لانتفاء الجزم في النيّة ، المعتبر في صحّة العبادة.

وفيه تأمّل يظهر وجهه ممّا أسلفناه في نيّة الوضوء عند البحث عن اعتبار الجزم في النيّة ، فراجع (١).

ولو قصد الإتيان بالكلّ وانكشف بعد الإتيان ببعض المحتملات مصادفته للواقع ، أجزأه ذلك ، ولا تجب إعادته ، كما لا يجب الإتيان بباقي المحتملات ، بل لا يشرع.

وعن بعض أنّه لا يجزئ ؛ مستدلّا عليه بأنّ امتثال الأمر بالصلاة إلى القبلة

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٦٠ وما بعدها.

٩٢

إمّا يحصل بالصلاة إلى أربع جهات أو إلى جهة يعلم تفصيلا أنّها قبلة (١).

وفيه ما لا يخفى.

تنبيه : المتردّد بين جهتين أو ثلاث يجب عليه أن يكرّر الصلاة لكلّ جهة من تلك الجهات مرّة.

وقيل : لا تجب إلّا صلاة واحدة ؛ تمسّكا بإطلاق الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ المتحيّر يصلّي حيث يشاء مقتصرا في تخصيصها على من اشتبه عليه الجهات مطلقا ؛ للنصّ (٢).

والأوّل أظهر ، كما يظهر وجهه ممّا مرّ.

ولو فرض حصول الظنّ له مردّدا بين جهتين مثلا ، فهل هو بمنزلة العلم بذلك في الاكتفاء بالصلاة إلى هاتين الجهتين؟ فيه تردّد : من أنّ الظنّ بالقبلة عند تعذّر العلم معتبر نصّا وفتوى ، ومن أنّ المتبادر منهما اعتبار الظنّ المتعلّق بكون القبلة في جهة معيّنة ، لا في مثل الفرض الذي مرجعه إلى الظنّ بعدم كونها في بعض الجهات ، فهذا الظنّ ممّا لا دليل على اعتباره ، ومقتضى الأصل عدم حجّيّته.

وهذا مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة.

وهل يجب على الجاهل بالقبلة تأخير الصلاة مع رجاء زوال الجهل ، أم تجوز المبادرة إلى الصلاة إلى الجهات الأربع؟ وجهان ، أوجههما : الأخير ؛ بناء على المختار من كون الصلوات الأربع محصّلة للاستقبال المعتبر في الصلاة ، و

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٧٧ عن بعض معاصريه ، وراجع مستند الشيعة ٤ : ٢٠٠.

(٢) قاله الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٩٣

عدم لزوم رعاية الجزم في النيّة مع عدم التمكّن منه حال الفعل بل مطلقا في وجه قويّ.

وأمّا إن قلنا بلزوم رعاية الجزم مهما أمكن ، وعدم سقوط شرطيّته إلّا على تقدير عدم القدرة على الامتثال التفصيلي ، أو قلنا بأنّ الصلاة إلى كلّ جهة مرّة ليست محصّلة للقبلة ، ولكنّها تكليف عذريّ سوّغته الضرورة ، فالمتّجه وجوب التأخير ، كما هو الشأن في كلّ تكليف اضطراريّ.

اللهمّ إلّا أن يدلّ الدليل الدالّ عليه على كفاية الضرورة حال الفعل في شرعيّته ، كما في العبادات الصادرة تقيّة ونظائرها على حسب ما عرفته في باب الوضوء.

ولكن استفادة ذلك فيما نحن فيه من الأدلّة الدالّة عليه لا تخلو من تأمّل ، والله العالم.

(فإن ضاق) الوقت (عن ذلك) أي الصلاة إلى الجهات الأربع (صلّى من الجهات ما يحتمله الوقت) وكذا لو منعه مانع عن الصلاة إلى بعض الجهات عينا أو تخييرا.

(وإن ضاق إلّا عن صلاة واحدة صلّاها إلى أيّ جهة شاء) واكتفى بها بلا شبهة ما لم يكن عن تقصير ، بل في الجواهر : بلا خلاف صريح أجده في شي‌ء من ذلك مع عدم تقصيره في التأخير (١) ، انتهى ؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال ، والاستقبال شرط في حال التمكّن ، فتنتفي شرطيّته عند عدم القدرة عليه ولو

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ٤١٨.

٩٤

بواسطة الجهل بجهة القبلة وعدم التمكّن من الاحتياط ، كما في الفرض.

وأمّا مع التقصير : ففي الاكتفاء بها نوع تردّد يظهر وجهه ممّا أسلفناه في باب التيمّم في مسألة من قصّر في طلب الماء حتّى ضاق الوقت ، فراجع (١).

وهل يلغى شرطيّة الاستقبال رأسا عند عدم التمكّن إلّا من صلاة واحدة ، أو أنّها مرعيّة على جهة الاحتمال ، كما أنّه كذلك عند التمكّن من أزيد من صلاة واحدة؟ وجهان ، أوجههما : الأخير ، كما يظهر وجهه ممّا سيأتي.

ويتفرّع عليه أنّه لو ظنّ بعدم كون القبلة في جهة ، ليس له اختيارها وإن لم نقل بأنّ الظنّ بذلك كالظنّ بجهة القبلة حجّة في حدّ ذاته ؛ لأنّ الحاكم بكون المكلّف مخيّرا في أن يصلّي أيّ جهة شاء في الصورة المفروضة إمّا العقل أو الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ المتحيّر يصلّي حيث يشاء.

أمّا العقل فلا يحكم بالتخيير بين المحتملات المختلفة في قوّة الاحتمال وضعفه ، بل يحكم بوجوب اختيار البعض الذي يتمكّن منه ممّا لا يكون أضعف احتمالا من غيره.

وأمّا الأخبار ـ فبعد تسليم دلالتها على المدّعى ، والغضّ عن الخدشات المتقدّمة فيما سبق ـ فهي منصرفة عن الجهة التي يظنّ بعدم كونها قبلة.

اللهمّ إلّا أن يدّعى دلالتها على سقوط شرطيّة الاستقبال للمتحيّر ، فيتّجه حينئذ جواز استقبال تلك الجهة التي ظنّ بأنّها ليست بقبلة ، بل وإن علم بذلك ؛ فإنّ هذا ـ أي العلم بعدم كونها في خصوص جهة ـ لا ينافي كونه متحيّرا في القبلة ،

__________________

(١) ج ٦ ، ص ١٠٢ وما بعدها.

٩٥

كما هو المفروض موضوعا في تلك الأخبار ، فيجوز له استقبال أيّ جهة أحبّ ، فليتأمّل.

ثمّ إنّا قد أشرنا إلى أنّ القول بأنّه يصلّي من الجهات ما يحتمله الوقت مبنيّ على عدم سقوط التكليف عند تردّد المكلّف به بين أمور لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بجميعها ، ووجوب مراعاته في ضمن محتملاته مهما أمكن ـ كما هو الأقوى ـ من غير فرق بين كون الواجب غيريّا كما فيما نحن فيه ، أو نفسيّا.

ولكن في كلتا المقدّمتين ـ أي عدم سقوط التكليف ، ووجوب رعايته مهما أمكن ـ كلام ؛ فإنّه ربما يقال بسقوط التكليف في الفرض ؛ لأنّ القدرة على الامتثال شرط في حسن الطلب ، وهي منتفية. وكونه قادرا على الإتيان ببعض المحتملات غير مجد في جواز التكليف بالواقع الذي قد يتخطّى عن ذلك المحتمل.

وفيه : أنّ شرط صحّة التكليف إنّما هو القدرة على نفس الفعل ، وهي حاصلة في الفرض ؛ إذ الواجب ليس في الواقع إلّا أحد المحتملات الذي هو في حدّ ذاته مقدور بحيث لو تمكّن من تشخيصه لا يعذر في مخالفته ، ولا يصلح أن يكون عجزه عن تشخيص الواجب مانعا إلّا عن وجوب الموافقة القطعيّة عند تعذّر الاحتياط بفعل جميع المحتملات ، حيث إنّ مقتضاه ليس إلّا كون المكلّف معذورا في ترك الواجب على تقدير مصادفته للمحتمل الذي عجز عن الإتيان به.

وبهذا ظهر لك ضعف الخدشة في المقدّمة الثانية : بأنّه متى لم يجب القطع بالموافقة لا تجب رعاية الواجب مهما أمكن ، بدعوى : أنّ للإطاعة مرتبتين

٩٦

إحداهما : وجوب الموافقة القطعيّة ، والأخرى : حرمة المخالفة القطعيّة ، فإذا تعذّرت الأولى ، يندفع محذور المخالفة بفعل البعض ، أي الصلاة إلى جهة من الجهات المحتمل كونها قبلة ، فلا مقتضي لوجوب أزيد من ذلك.

وقد يقرّب المناقشة ببيان آخر ، وهو : أنّ الإتيان بجميع المحتملات ليس إلّا مقدّمة للقطع بحصول الواجب ، فمتى لم يجب تحصيل القطع لا يعقل بقاء مقدّماته بصفة الوجوب.

توضيح الضعف : أنّ المقتضي لوجوب إيجاد كلّ من المحتملات إنّما هو احتمال مصادفته للواجب الذي تعلّق التكليف به ؛ فإنّ قضيّة تعلّق التكليف بشي‌ء : عدم معذوريّة المكلّف في مخالفته على تقدير تمكّنه من الخروج عن عهدته ، ومقتضاه وجوب الإتيان بكلّ ما يحتمل كونه ذلك الواجب ، فكلّ واحد من المحتملات بنفسه موضوع مستقلّ بنظر العقل للحكم بوجوب إيجاده ؛ لما في تركه من احتمال استحقاق العقاب المترتّب على ترك الواجب ، فإلزام العقل بوجوب إيجاده (١) جميع المحتملات إنّما هو للأمن من العقاب الذي يحتمله في ترك كلّ واحد منها ، فالموافقة الاحتماليّة الحاصلة بفعل كلّ واحد من المحتملات هي المقتضية لوجوب إيجاد ذلك المحتمل ، وعجزه عن بعض منها لا يصلح مانعا إلّا عن وجوب ذلك البعض.

والحاصل : أنّه متى علم تعلّق التكليف بشي‌ء مردّد بين أمور يجب القطع بالخروج عن عهدته إمّا بإيجاد تلك الأمور لدى التمكّن من ذلك ، أو بإيجاد ما

__________________

(١) في «ض ١٤ ، ١٦» : «إيجاد».

٩٧

يتمكّن منها ، فإنّ هذا أيضا كفعل الجميع موجب للقطع ببراءة الذمّة عن الواجب ، فإنّه وإن لم يوجب القطع بحصول نفس الواجب لكنّه موجب للقطع بسقوط التكليف إمّا بالعجز أو بالامتثال.

وربّما يفصّل في المسألة بين ما لو تعلّق العجز ببعض غير معيّن من محتملات الواجب ، فحكمه ما عرفت ، أو ببعض معيّن ، فينتفي التكليف رأسا من غير فرق بين كون الواجب غيريّا ، كما فيما نحن فيه ، فينتفي حينئذ وجوب الصلاة إلى القبلة ، وأمّا نفس الصلاة فهي لا تسقط بحال ، أو نفسيّا ، كما لو تردّدت الصلاة الواجبة بين كونها ظهرا أو جمعة ؛ نظرا إلى أنّ القدرة على الفعل شرط في صحّة التكليف ، وهي غير محرزة في الفرض ؛ لجواز كون القبلة في تلك الجهة التي تعذّر استقبالها ، فيشكّ حينئذ في أصل التكليف ، فيرجع إلى البراءة ، وهذا بخلاف ما لو تعلّق العجز ببعض غير معيّن ، فإنّه قادر على الفعل من حيث هو ، ولكن بواسطة عروض الاشتباه وعدم التمكّن من الإتيان بمجموع المحتملات تعذّر تحصيل القطع بالموافقة ، فينتفي وجوب ذلك ، لا أصل التكليف.

واستوجه بعض (١) هذا التفصيل فيما إذا تحقّق العجز عن البعض المعيّن قبل تنجّز التكليف بالفعل لا بعده ، تنظيرا على الشبهة المحصورة التي اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب بعض أطرافها حيث إنّ مقتضى التحقيق فيها التفصيل بين ما لو تحقّق الاضطرار قبل تنجّز التكليف فلا يجب الاجتناب عن سائر الأطراف ، أو بعده فيجب.

__________________

(١) لم نتحقّقه.

٩٨

والأقوى ما عرفت من عدم سقوط التكليف رأسا ، ووجوب الإتيان بسائر المحتملات التي تمكّن من فعلها من غير تفصيل بين تعلّق العجز ببعض غير معيّن أو معيّن قبل تنجّز التكليف أو بعده ، كما نسب ذلك إلى المشهور (١) ؛ لأنّ معذوريّة المكلّف في ترك امتثال الواجب على تقدير مصادفته للبعض الممنوع عنه عقليّ.

وقد أشرنا ـ في صدر كتاب الطهارة (٢) وفي مبحث الماءين المشتبه طاهرهما بنجسهما (٣) ، بل في غير مورد من الكتاب المزبور ـ إلى أنّ العقل لا يحكم إلّا بكون العجز الواقعي عذرا مقبولا في مخالفة التكاليف ، لا احتماله ، وهذا وإن كان مرجعه إلى شرطيّة القدرة في التكاليف واختصاص أدلّتها بغير العاجز إلّا أنّ المخصّص إذا كان عقليّا ، تخرج ذوات المصاديق عن تحت إطلاقات الأدلّة لا بعناوينها الخاصّة ، فلو شكّ المكلّف بعد دخول الوقت في أنّه متمكّن من فعل الصلاة تامّة الأجزاء والشرائط ، يجب عليه الاشتغال بفعل الصلاة حتّى ينكشف الحال إمّا بحصول الامتثال أو ظهور العجز ، وليس له ترك الصلاة معتذرا بعدم علمه تنجّز (٤) التكليف بالصلاة بواسطة الشكّ في القدرة التي هي شرط في ذلك ، لا لما توهّم من قاعدة ظنّ السلامة ، أو استصحاب القدرة ، أو نحو ذلك ، بل لما أشرنا إليه من أنّ عجزه عن الامتثال في الواقع هو العذر بنظر العقل

__________________

(١) لاحظ ذخيرة المعاد : ٢١٩.

(٢) ج ١ ، ص ٢٢ وما بعدها.

(٣) ج ١ ، ص ٢٥٧.

(٤) في «ض ١٤ ، ١٦» : «بتنجّز».

٩٩

في رفع اليد عن الخطاب المتوجّه إليه ، فمن كان عاجزا في الواقع معذور في مخالفة التكليف ، دون من لم يكن كذلك ، فإنّ من الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عن الخطاب المتوجّه إلى المكلّف بمجرّد احتمال كونه معذورا في مخالفته ، بل يجب عقلا السعي في الخروج عن عهدته ما لم ينكشف العجز رعاية لاحتمال القدرة الموجبة لجواز المؤاخذة على مخالفته تفصّيا عن العقاب المحتمل.

وإن شئت قلت : إنّ من كان عاجزا في الواقع عن أداء الواجب يراه العقل معذورا في مخالفته ، فهو خارج عن زمرة المكلّفين بهذا الفعل ، وإن شمله إطلاق دليله أو عمومه ، فالإطلاق أو العموم مخصّص بالنسبة إليه ، لكن لا على وجه يكون للمخصّص عنوان عامّ حتّى يقال عند الشكّ في كون شخص قادرا أو عاجزا : إنّ دخوله في عنوان العامّ ليس بأولى من اندراجه تحت المخصّص بالنظر إلى ظاهر الدليل ، فإنّ العقل لا يحكم بخروج من عجز عن الامتثال بلحاظ اندراجه تحت مفهوم العاجز ، بل بلحاظ كونه بذاته غير قابل لأن يتوجّه عليه التكليف بواسطة عجزه ، فالخارج عن تحت أدلّة التكاليف إنّما هو مصداق العاجز ، لا مفهومه ، فكلّ فرد فرد من مصاديق العاجز تخصيص مستقلّ ، فمتى شكّ في عجز شخص يشكّ في تخصيص الحكم بالنسبة إليه ، فيجب التمسّك حينئذ بأصالة العموم أو الإطلاق إلى أن يعلم بالتخصيص ، أعني عجزه.

والحاصل : أنّ تعذّر بعض الأطراف لا يوجب بنظر العقل إلّا معذوريّته في مخالفة الواجب على تقدير مصادفته لما تعذّر ، لا معذوريّته في ترك امتثاله على تقدير حصوله بما تيسّر فعله.

١٠٠