مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

لكنّك سمعت (١) أنّه حكي عن بعضهم نقل الإجماع على عدم الجواز ، فعلى هذا يكون النزاع قليل الجدوى ، خصوصا لو أوجبوا التحرّي إلى جهة الكعبة مهما أمكن ، ومنعوا من المخالفة القطعيّة لدى التعذّر من تحصيل العلم بجهتها ، فيعود النزاع حينئذ لفظيّا.

وكيف كان فنقول : لا شبهة بل لا خلاف ظاهرا في أنّه يجب عند مشاهدة الكعبة أو العلم بجهتها الخاصّة المحاذية لها من استقبالها حقيقة بنظر العرف بأن تكون الكعبة بعينها أو جهتها الخاصّة بين يديه.

وما عن بعض ـ من جواز الانحراف عمدا لدى العلم بجهتها الخاصّة ما لم يخرج عن المشرق والمغرب أو في الجملة (٢) ـ ممّا لم نتحقّقه وإن كان ذلك مقتضى إطلاق بعض كلماتهم الآتية في تشخيص الجهة ، لكن لا يظنّ بأحد إرادته لدى العلم التفصيلي بجهتها الخاصّة ، وعلى تقدير تحقّق الخلاف فهو ضعيف من غير فرق بين القريب والبعيد ، ولكن لا يعتبر في صدق الاستقبال عرفا المحاذاة الحقيقيّة بحيث لو خرج خطّ مستقيم من مقاديم المستقبل قائم على خطّ خارج من يمينه وشماله لوقع على الكعبة ، بل أعمّ من ذلك ، فإنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة الى القريب والبعيد ، فإنّك إذا استقبلت صفّا طويلا بوجهك وكنت قريبا منهم جدّا ، لا تكون قبلتك من أهل الصفّ إلّا واحدا منهم بحيال وجهك ، ولكنّك إذا رجعت قهقرى بخطّ مستقيم إلى أن بعدت عنهم مقدار

__________________

(١) في ص ٢٠.

(٢) راجع الهامش (٣) من ص ٣٠.

٢١

فرسخ مثلا ، لرأيت مجموع الصفّ بجملته بين يديك بحيث لا تميّز من يحاذيك حقيقة عن الآخر مع أنّ المحاذاة الحقيقيّة لا تكون إلّا بينك وبين ما كانت أوّلا.

وإن أردت مثالا أوضح ، فانظر إلى عين الشمس أو الكواكب التي تراها قبال وجهك ، فإنّ جرم الشمس وكذا الكواكب وما بينها من الفاصل أعظم من مساحة الأرض أضعافا مضاعفة ومع ذلك ترى مجموعها بين يديك حيال وجهك ، فلو فرض أنّ الله تعالى جعل قبلتك الشمس أو كوكبا من تلك الكواكب ، فهل ترى مائزا بين وقوفك مقابل هذا الطرف من الشمس أو الطرف الآخر ، أو بين هذا الكوكب والكوكب الآخر القريب منه مع أنّ البعد بينهما أزيد من مساحة الأرض ، ولا يعقل أن يحاذيك حقيقة إلّا جزء منها بمقدار جثّتك؟ وبهذا فسّر غير واحد ما شاع في ألسنتهم من أنّ الشي‌ء كلّما ازداد بعدا ازدادت جهة محاذاته سعة.

وبه يندفع ما أورده الشيخ رحمه‌الله على القائلين بأنّ القبلة هي الكعبة من لزوم خروج صلاة أكثر من صلّى في صفّ طويل عن القبلة (١) ؛ لما أشرنا إليه فيما سبق من أنّ هذا بالنسبة إلى القريب مسلّم ، وأمّا إذا كان الصفّ بعيدا ، فيرى كلّ من أهل الصفّ القبلة حيال وجهه ، فيكون مستقبلا حقيقة وإن لم تكن القبلة محاذية للخطّ القائم على الخطّ الخارج من طرفي المستقبل على سبيل التدقيق ، فإنّ هذا ليس شرطا في صدق الاستقبال بنظر العرف ، كما أوضحناه في ضمن الأمثلة المتقدّمة.

__________________

(١) راجع : الهامش (١) من ص ١٧.

٢٢

وعن بعض المدقّقين التفصّي عن نقض الشيخ ـ بعد توجيه كلامه بما تقدّمت الإشارة إليه من إرادة المخالفة القطعيّة للمأموم لدى الفصل بينه وبين الإمام بأزيد من طول الكعبة ـ بأنّ كرويّة الأرض مانعة عن القطع بالمخالفة ، فإنّها مانعة عن خروج خطوط متوازية عن موقف المصلّين ، فمن الجائز تلاقيها عند الكعبة (١).

وفيه نظر ؛ فإنّ كرويّة الأرض في حدّ ذاتها غير مقتضية لخروج الخطوط عن التوازي ، وإنّما المقتضي له كون أهل الصفّ ـ كأجزاء الأرض بالطبع ـ مائلا إلى المركز ، وهذا وإن اقتضى خروج الخطوط عن التوازي لكن ملتقاها عند القطب الذي يفرض الصفّ المستطيل منطقتها ، وأنّى هذا من الكعبة؟ اللهمّ إلّا أن يفرض الصفّ في دائرة عظيمة تكون الكعبة قطبها ، وليس فرض الشيخ مقصورا عليه.

فالأولى أن يجاب عن النقض بأنّ فرض استواء الصفّ المستطيل مجرّد فرض لا يكاد يدرك بالحسّ ، فمن الجائز كون بعض أهل الصفّ مائلا إلى جانب الآخر بمقدار تتلاقى الخطوط الخارجة من مقاديمها عند الكعبة ، أو يكون موقفهم على قطعة قوس من دائرة محيطة بالكعبة ، وحيث إنّ الدائرة المفروضة من البعيد عظيمة لا يكاد يدرك تحدّب قوسها بالحواسّ الظاهرة ؛ إذ لو فرض صفّ في العراق بمقدار فرسخين وكان في الواقع على الدائرة المحيطة بالكعبة ، لا يكون انحناؤه في طول الفرسخين أزيد من شبر أو شبرين ، فكيف يمكننا الجزم بعدم

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٣٤ عن الخوانساري في حاشية الروضة : ١٧٣.

٢٣

المحاذاة بمجرّد أن نرى الصفّ أطول من الكعبة!؟ بل لنا أن نقول : على تقدير كون الصفّ المفروض من بعيد مستويا حقيقة أيضا أمكن أن يكون جميع أهل الصفّ محاذيا لعين الكعبة حقيقة ، فإنّا إذا فرضنا صفّا طويلا قريبا من الكعبة وكان بعض أهل الصفّ خارجا عن محاذاة الكعبة فرجعوا قهقرى بخطوط متوازية عدّة فراسخ مثلا ، فمن كان خارجا عن محاذاة الكعبة حال كونه قريبا وإن كان باقيا بحاله بنظر العقل على تقدير حفظ النسبة وفرض الخطوط متوازية لكن لو بدا لهذا الشخص أن يحاذي عين الكعبة حقيقة ويستقبلها بوجهه استقبالا حقيقيّا ، لا يحتاج في ذلك إلى انحراف محسوس ، بل لو انحرف انحرافا محسوسا أقلّ ما يمكنه ، لوقعت الكعبة إلى جانبه الآخر.

والحاصل : أنّه متى بلغ البعد إلى حدّ لا يمتاز استقبال الكعبة عن استقبال ما حوله بحيث يتوقّف أحدهما على حركة مغايرة للحركة التي يحصل بها الآخر فهو في هذه الحركة الشخصيّة مستقبل لهما ، فأهل الصفّ الطويل بأسرهم حقيقة متوجّهون إلى الكعبة.

والظاهر أنّ هذا هو المراد بقولهم في ردّ الشيخ : إنّ الشي‌ء كلّما ازداد بعدا ازدادت محاذاته سعة ، لا المعنى الأوّل ، كما تقدّمت (١) حكايته عن بعض ؛ إذ الظاهر أنّ غرضهم التوسعة في جانب المستقبل لا القبلة.

وبهذا ظهر لك إمكان الالتزام بكون المحاذاة بين المستقبل وبين الجهة التي التزمنا باتّساعها للبعيد على التفسير الأوّل حقيقيّة ؛ فإنّ هذا إنّما يصدق عرفا

__________________

(١) في ص ٢٣.

٢٤

على سبيل الحقيقة من غير مسامحة على الجهة التي يراها المستقبل حيال وجهه بحيث لا يتميّز استقبال أجزائها بعضها عن بعض بحيث يكون محاذاة يمينها ـ مثلا ـ محتاجا إلى وضع مغاير في الوجود الخارجي لوضعه الذي به يحصل محاذاة شمالها ، فمتى لم يكن محاذاة الأجزاء محتاجا إلى أوضاع متمائزة فهو باستقباله الشخصي محاذ حقيقة لجميع الأجزاء.

وكيف كان فالعبرة مع مشاهدة الكعبة حقيقة أو حكما إنّما هو بالتوجّه إليها واستقبال شي‌ء منها بأن يجعله بين يديه على وجه صدق عليه اسم المقابلة حقيقة بنظر العرف.

وهل يعتبر استقبالها بجميع مقاديم البدن أو معظمها الموجب لصدق استقبال البدن عرفا؟ وجهان بل قولان ، أو جههما : الأخير ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا مع عدم مشاهدة العين والجهل بجهتها الخاصّة فالمعتبر استقبال جهتها ، كما هو المشهور ، بل لو قلنا بالقول الثاني أيضا ، لا يجب على من لم يشاهد المسجد أو الحرم حقيقة أو حكما إلّا استقبال جهتهما.

وما تقدّمت (١) حكايته عن الشيخ ـ ممّا يظهر منه اعتبار محاذاة نفس الحرم ـ ضعيف ، كما يشهد له ـ مضافا إلى ما ستعرف ـ عدم الخلاف ظاهرا في اجتزاء البعيد بالعلامات الآتية لأهل الأقطار العظيمة ، مع أنّه لا يتعيّن بها إلّا جهتهما ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

وليعلم أنّ كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ قد اختلفت في تفسير

__________________

(١) في ص ١٦ ـ ١٧.

٢٥

الجهة أو تحديدها ، فمن هنا تشتّت أقوالهم ، ففسّرها بعض متأخّري المتأخّرين بجهة المحاذاة التي بيّنّا اتّساعها للبعيد بالمعنى الأوّل ، فالتزم بوجوب استقبال العين مطلقا من غير فرق بين القريب والبعيد والمشاهد وغير المشاهد ، لكن حيث تعذّر تحصيل القطع بذلك عادة للبعيد الغير المشاهد للعين وجبت الموافقة الظنّيّة بالرجوع إلى الأمارات المورثة للظنّ بالمقابلة العرفيّة التي هي المدار في صدق الإطاعة للمشاهد وغيره ، لا المحاذاة الحقيقيّة.

وهذا القول وإن كان مغايرا للأقوال الثلاثة التي عدّدناها في المسألة لكن لم نذكره في عدادها ؛ لما سنشير من أنّ عدّ الجهة قبلة ليس لكونها من حيث هي ممّا يجب استقبالها بالأصالة ؛ فإنّ الحقّ ـ الذي لا ينبغي الارتياب فيه ـ أنّ القبلة ـ التي يجب على كلّ أحد التوجّه إليها ـ ليس إلّا الكعبة إمّا بخصوصها أو مع ما حواها من المسجد والحرم ، ولكن يكفي استقبال جهتها عند عدم مشاهدة العين ؛ لكون استقبال الجهة استقبالا للكعبة بنحو من الاعتبار ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

وكيف كان فعن المعتبر أنّه فسّر الجهة ـ التي أوجب مقابلتها لمن لم يشاهد العين ـ بالسمت الذي فيه الكعبة ، ثمّ قال : وهذا متّسع يوازي جهة كلّ مصلّ (١). وبه عرّفها في كشف اللثام ، ثمّ قال : ومحصّله : السمت الذي يحتمل كلّ جزء منه اشتماله عليها ويقطع بعدم خروجها عن جميع أجزائه (٢).

وعن جملة من الأصحاب (٣) تعريفها بما يقرب من ذلك أو يتّحد معه على

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٣٤.

(٢) كشف اللثام ٣ : ١٣١.

(٣) راجع : مفتاح الكرامة ٢ : ٧٥.

٢٦

اختلاف تعبيراتهم ، وستعرف أن هذا هو الذي ينبغي البناء عليه.

وقال في المدارك : اعلم أنّ للأصحاب اختلافا كثيرا في تعريف الجهة ، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل ، وهذا الاختلاف قليل الجدوى ؛ لاتّفاقهم على أنّ فرض البعيد استعمال العلامات المقرّرة ، والتوجّه إلى السمت الذي يكون المصلّي متوجّها إليه حال استعمالها ، فكان الأولى تعريفها بذلك.

ثمّ إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعيّة سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء بالتوجّه إلى ما يصدق عرفا أنّه جهة المسجد وناحيته ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) وقولهم عليهم‌السلام : «فما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢) و «ضع الجدي في قفاك وصلّ» (٣) وخلوّ الأخبار ممّا زاد على ذلك مع شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة ، وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدّا ؛ لأنّه علم دقيق كثير المقدّمات ، والتكليف به لعامّة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد أهله غير جائز ؛ لأنّه لا يعلم إسلامهم فضلا عن عدالتهم. وبالجملة ، فالتكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة (٤). انتهى.

وقد تبع فيما زعمه ـ من التوسعة في أمر القبلة وابتنائه على المسامحة ـ شيخه المحقّق الأردبيلي (٥) قدس‌سره ـ على ما حكي (٦) عنه ـ من ذهابه إلى عدم اعتبار

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، و ١٨٠ / ٨٥٥ ، التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ١ و ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٣ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٢١.

(٥) زبدة البيان : ٦٥ ـ ٦٦ ، مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٦) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٤٢.

٢٧

التدقيق في أمر القبلة ، وأنّه أوسع من ذلك ، وما حاله إلّا كأمر السيّد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية ، الذي لا ريب في تحقّق [امتثال العبد له] (١) بمجرّد التوجّه إلى جهة تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها ممّا يختصّ بمعرفته أهل الهيئة ، المستبعد بل الممتنع تكليف عامّة الناس من النساء والرجال خصوصا السواد منهم بما عند أهل الهيئة ، الذي لا يعرفه إلّا الأوحديّ منهم.

وفي اختلاف هذه العلامات التي نصبوها وخلوّ النصوص عن التصريح بشي‌ء من ذلك سؤالا وجوابا ـ عدا ما ستعرفه ممّا ورد في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين وأخرى بجعله على اليمين ممّا هو ـ مع اختلافه وضعف سنده وإرساله ـ خاصّ بالعراقي ـ مع شدّة الحاجة لمعرفة القبلة في أمور كثيرة خصوصا في مثل الصلاة التي هي عمود الأعمال ، وتركها كفر ، ولعلّ فسادها ولو بترك الاستقبال أيضا كذلك ، وتوجّه أهل مسجد قبا في أثناء الصلاة لمّا بلغهم انحراف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على العارف بأحكام هذه الملّة السهلة السمحة أكبر شاهد على شدّة التوسعة في أمر القبلة ، وعدم وجوب شي ممّا ذكره هؤلاء المدقّقون.

وربما يستشعر من العبارة المتقدّمة (٣) عن صاحب المدارك بل يظهر منها خصوصا بضميمة ما ذكره قبل هذه العبارة ـ من المناقشة في وجوب استقبال عين

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «امتثاله العبد». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) صحيح البخاري ١ : ١١١ ، صحيح مسلم ١ : ٣٧٥ / ٥٢٦ ، الموطّأ ١ : ١٩٥ / ٦ ، سنن النسائي ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، مسند أحمد ٢ : ١٦.

(٣) في ص ٢٧.

٢٨

الكعبة للمشاهد إن لم يكن إجماعيّا ؛ لمخالفته لإطلاق الآية والرواية (١) ـ جواز استقبال السمت الواقع فيه الكعبة مطلقا حتّى مع العلم بعدم مقابلة العين ، كما هو ظاهر غير واحد بل صريحهم ، وهو في غاية الإشكال.

وأشكل من ذلك ما يلوح من استشهاده لإثبات التوسعة بقوله عليه‌السلام : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ـ كما في صحيحتي زرارة ومعاوية بن عمّار ، المتقدّمتين في صدر المبحث (٢) ـ من الميل أو القول بظاهر ما تضمّنته الصحيحتان من كون ما بين المشرق والمغرب قبلة على الإطلاق ؛ فإنّه بظاهره ممّا لا يمكن الالتزام به وإن بالغ في تشييده صاحب المناهل ـ على ما حكي عنه ـ واستظهره من عبارتي المعتبر والمنتهى حيث عرّفا الجهة بالسمت الذي فيه الكعبة (٣).

فقال ـ على ما حكي عنه ـ : إذا كان الكعبة في جهة الجنوب أو الشمال ، كان [القبلة بالنسبة إلى النائي جميع ما بين المشرق والمغرب ، وإذا كانت في جهة المشرق أو المغرب ، كان] (٤) جميع ما بين الجنوب والشمال قبلة بالنسبة إلى النائي. ثمّ قال : ولا فرق حينئذ بين علمه بعدم استقبال الكعبة أو ظنّه ، أولا. ثمّ نسب ذلك إلى مجمع الفائدة والمدارك والذخيرة (٥). وحكى عن بعض الأجلّة

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١١٩.

(٢) في ص ١٤.

(٣) المعتبر ٢ : ٦٦ ، منتهى المطلب ٤ : ١٦٤.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري قدس‌سره.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٥٩ ـ ٦٠ ، مدارك الأحكام ٣ : ١٢١ ، ذخيرة المعاد : ٢١٤.

٢٩

نسبته إلى أكثر المتأخّرين ، واستدلّ له بإطلاق الآية والروايتين المتقدّمات (١) ، وقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢) خرج منه ما خرج بالإجماع ، وأيّده بالسيرة المستمرّة بين المسلمين من المسامحة في أمر القبلة فيما يعتبر فيه القبلة من أمورهم المهمّة ، كالصلاة والذبح ونحو ذلك (٣). انتهى.

وفيه : أنّ كون مجموع ما بين المشرق والمغرب قبلة حتّى مع العلم أو الظنّ بكون الكعبة في جزء معيّن ـ مع مخالفته لظاهر الآية والأخبار الدالّة على أنّ الكعبة هي القبلة ، وأنّ الله تعالى لا يقبل من أحد التوجّه إلى غيرها ـ خلاف ظاهر الفقهاء ، بل صرّح بعض (٤) بمخالفته للإجماع.

وعن آخر التصريح بأنّ صلاة العالم المتعمّد على هذا الوجه خلاف طريقة المسلمين ، بل ربما يرونها منافية لضروريّ الدين (٥).

نعم ، عن الشهيدين في الذكرى والمقاصد العليّة حكاية القول بأنّ المشرق قبلة لأهل المغرب وبالعكس ، والجنوب قبلة لأهل الشمال وبالعكس عن بعض العامّة (٦). وظاهرهما انحصار الخلاف فيهم.

__________________

(١) في ص ١٣ و ١٤.

(٢) البقرة ٢ : ١١٥.

(٣) المناهل (مخطوط) وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٤) جواهر الكلام ٧ : ٣٤٣.

(٥) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٣٧ عن الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح (مخطوط).

(٦) الذكرى ٣ : ١٦٠ ، المقاصد العليّة : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، وحكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٣٧.

٣٠

وممّا يشهد بعدم الخلاف في عدم جواز التعمّد بالانحراف والاجتزاء باستقبال ما بين المشرق والمغرب : ما ادّعي عليه الإجماع من وجوب الرجوع إلى الأمارات المعيّنة لجهة الكعبة مع الإمكان ، ووجوب الميل إليها إذا تبيّن في أثناء الصلاة انحرافه عنها ، كما يدلّ على ذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : «إن كان متوجّها فيما (١) بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة» (٢) وغيرها ممّا ستعرفه في محلّه ، فيجب صرف الصحيحتين (٣) ـ جمعا بينهما وبين ما عرفت ـ إلى إرادة كون ما بين المشرق والمغرب قبلة لمن غفل عن تشخيص جهتها ، أو اشتبه عليه الجهة بحيث لم يميّزها في أقلّ ممّا بين المشرق والمغرب لو لم نقل بانصرافهما في حدّ ذاتهما إلى ذلك بواسطة ما هو المغروس في الأذهان من كون القبلة هي الكعبة وأنّ اعتبار السمت لأجلها لا من حيث هو.

وقد ظهر بما ذكر أنّ التمسّك بقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٤) في غاية الضعف ؛ ضرورة عدم كون مضمونه حكما اختياريّا في الفرائض اليوميّة ،

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «إلى ما» بدل «فيما». وما أثبتناه من المصادر وكما يأتي في ص ١٦٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٥ / ٨ ، التهذيب ٢ : ٤٨ ـ ٤٩ / ١٥٩ ، و ١٤٢ / ٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ / ١١٠٠ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٣) أي : صحيحتي زرارة ومعاوية بن عمّار ، المتقدّمتين في ص ١٤.

(٤) البقرة ٢ : ١١٥.

٣١

وستأتي الإشارة إلى بعض الأخبار الواردة في تفسيره عند البحث عن قبلة المتحيّر والمتنفّل إن شاء الله.

وأضعف من ذلك التمسّك بالسيرة ؛ إذ لم يعهد من أحد من المتشرّعة التساهل في أمر القبلة إلى هذا الحدّ.

نعم ، لا بأس بالاستشهاد بها في ردّ من زعم اعتبار محاذاة العين ، كما ستعرفه.

وكيف كان فالقول باتّساع الجهة إلى هذا الحدّ حتى مع القطع أو الظنّ بكون الكعبة في طرف منها في غاية الضعف.

وما أبعد ما بينه وبين ما قوّاه في الجواهر (١) ـ وفاقا لبعض من تقدّم عليه من متأخّري المتأخّرين ـ من اعتبار المحاذاة الحسّيّة التي قد عرفت في صدر المبحث أنّها أعمّ بالنسبة إلى البعيد من المحاذاة الحقيقيّة ـ على تأمّل عرفت وجهه آنفا ـ للقريب والبعيد والمشاهد وغير المشاهد مطلقا ، ولكن حيث تعذّر تحصيل العلم بذلك عادة للبعيد الغير المشاهد للعين قام الظنّ مقامه ، وعند انسداد باب الظنّ بالمحاذاة الحسّيّة يجتزئ بالمحاذاة الاحتماليّة في السمت الذي يقطع أو يظنّ بكون الكعبة فيه.

والأقوى ما هو المشهور من وجوب استقبال عينها لدى المشاهدة حقيقة أو حكما كما في العارف بجهتها الخاصّة ولو من بعيد ، ووجوب استقبال السمت الذي يحتمل كلّ جزء منه اشتماله عليها ويقطع بعدم خروجها عن جميع أجزائه

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ٣٤٠.

٣٢

لدى الجهل بجهتها الخاصّة ، فإنّ هذا هو المتبادر من الأمر باستقبال الكعبة والتوجّه إليا من البلاد النائية التي يتعذّر فيها عادة تحصيل العلم بمحاذاة عينها ؛ ضرورة أنّ الأمر باستقبال الكعبة في الصلاة ليس إلّا كالأمر بالتوجّه إلى قبر الحسين عليه‌السلام من البلاد النائية في بعض الزيارات المأثور ، أو إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الزيارات والأعمال ، ومن الواضح أنّه لا ينسبق إلى الذهن من ذلك إلّا إرادة الجهة التي علم إجمالا باشتمالها على القبر الشريف ، فمتى أحرز إجمالا أنّ المدينة في ناحية القبلة يتوجّه إليها ، ويأتي بذلك العمل الذي ورد فيه الأمر باستقبال قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّه يزور الحسين عليه‌السلام من بغداد متوجّها إلى القبلة ، ومن النجف عكسه ، لا لكونه قاصدا بفعله مطلق الزيارة المعلوم رجحانها ولو من غير توجّه صوريّ ، فإنّه ربما لا يعلم بذلك أصلا ، وإنّما يقصد بفعله امتثال الأمر الخاصّ البالغ إليه من غير أن يخطر بذهنه احتمال التشريع ، مع أنّه لا يظنّ بمحاذاته للقبر الشريف فضلا عن أن يقطع بذلك ، وهل هذا إلّا لأجل أنّه لا يفهم من الأمر إلّا ما ينطبق على عمله؟ ولا يخفى عليك أنّ استفادة إرادة استقبال السمت المشتمل على الشي‌ء المأمور باستقباله ـ كقبر الحسين عليه‌السلام في المثال المتقدّم من الأمر بالتوجّه إليه ـ ليس لكونه في حدّ ذاته مقصودا بالتوجّه ، بل لأنّ التوجّه إلى السمت توجّه إلى ذلك الشي بنحو من الاعتبار العرفي عند عدم العلم بجهته المخصوصة ، فلم يقصد من الأمر بالتوجّه إلّا الميل إلى جانبه ، فمتى كان جانبه المخصوص ممتازا لدى المكلّف عن سائر الجوانب لا يكون استقباله لسائر الجوانب استقبالا لجانب ذلك

٣٣

الشي ، وما لم يميّزه بالخصوص يكون استقبال الجانب الذي علم إجمالا باشتماله على ذلك الشي‌ء استقبالا لجانبه.

ألا ترى في المثال المتقدّم أنّه لو شاهد القبر الشريف من البعيد أو علم بخصوص الخطّ المسامت له ، لا يفهم من ذلك الأمر إلّا إرادته بالخصوص ، بخلاف ما لو لم يعلم بذلك كما عرفت.

ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى ؛ إذ لم يرد من أمر البعيد باستقبال الشي‌ء إلّا استقبال الطرف الواقع فيه ذلك الشي‌ء ؛ إذ لم يعقل الأمر باستقبال عينه مع بعده واستتاره عن الحسّ ، فالمقصود ليس إلّا استقبال طرفه الواقع فيه ، كما هو المنساق من قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) وطرف الشي يصدق على الطرف المخصوص به والطرف المشتمل عليه ، والمتبادر منه للمشاهد ونحوه الأوّل ، ولغيره مطلق سمته الذي يضاف إليه.

ويحتمل فيه المقابلة للعين ، نظير ما عرفت في مبحث التيمّم من أنّ المتبادر من الأمر بضرب الكفّ إرادة الضرب بالباطن للمتمكّن ، والظاهر للعاجز ، بالتقريب الذي تقدّم تحقيقه في محلّه.

والحاصل : أنّ التوجّه إلى شي أو شخص من البلاد النائية ربّما يتعلّق به غرض عقلائيّ مع قطع النظر عن حكم شرعيّ ، كما قد يصدر ذلك من العقلاء في مقام الاستغاثة والندبة وغير ذلك ، وكيفيّته لديهم ليست إلّا بالتوجّه إلى السمت الواقع فيه ذلك الشي‌ء.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤.

٣٤

نعم ، لو فرض علمهم بجهته الخاصّة المحاذية له ، لا يعدلون عنها إلى مطلق سمته ، بل لا يعدلون عن الأقرب إلى الأبعد عند تميّزه ، فلا يتبادر من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة إلّا هذا المعنى الذي كان يصدر منهم في مقام الاستغاثة لو كانوا يزعمون أنّ في ذلك المكان رجلا يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ويغيثهم متى استغاثوا به ، وهو التوجّه إلى سمته ، ومن هنا ادّعى المحقّق الأردبيلي قدس‌سره ـ في عبارته المتقدّمة (١) ـ أنّ المتبادر من أمر السيّد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية ليس إلّا ما يتحقّق امتثاله بمجرّد التوجّه إلى جهة تلك البلد.

لكن لا يخفى عليك أنّ السمت ـ الذي ندّعي انسباقه إلى الذهن من الأمر بالتوجّه إلى شي ـ هو السمت الذي يضاف إلى ذلك الشي‌ء عرفا ، فيقال : سمته وجانبه وطرفه ، لا مطلق ما بين المشرق والمغرب مثلا ، فإنّه لا يضاف مطلق هذا السمت إلى ذلك الشي ، بل يقال : ذلك الشي واقع فيه ، لا أنّه سمته ، فسمت الشي عبارة عن الجانب المشتمل عليه الذي لا يعدّ أجنبيّا عنه بنظر العرف دون ما يرونه أجنبيّا عنه ، ولكن مع ذلك لا يبعد صدق الاستقبال والتوجّه إلى الشي عرفا عند التوجّه إلى مطلق السمت الواقع فيه ذلك الشي عند تعذّر تشخيص السمت الذي يضاف إليه عرفا ، كما يؤيّد ذلك قوله عليه‌السلام في الصحيحتين المتقدّمتين (٢) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» المحمول صرفا أو انصرافا على صورة الجهل بجهة أخصّ من ذلك أو الغفلة عن رعايتها ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

__________________

(١) في ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) في ص ١٤.

٣٥

وممّا يؤيّد المطلوب بل يبيّنه : أنّ الشارع لم يقصد بقوله (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ـ أي شطر المسجد ـ تكليفا يتوقّف إحراز موضوعه على استعمال القواعد المبيّنة في علم الهيئة ونحوها ؛ ضرورة عدم ابتناء أمر القبلة على علم الهيئة ، بل ولا على العلائم المذكورة في كتب الأصحاب ؛ فإنّ أغلبها علائم تقريبيّة استنبطها الأصحاب بحسب ما أدىّ إليه نظرهم ، ولم يكن يتوقّف تشخيص القبلة في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام على معرفة هذه العلائم ، فالمقصود بهذا التكليف ليس إلّا التوجّه إلى جانبه على الوجه الذي يتمكّن كلّ مكلّف من تشخيصه عادة من غير حرج ومشقّة بالطرق المعهودة لدى العقلاء في تشخيص جانب سائر البلاد ، وأوضح سبيل يسلكه العقلاء في تشخيص سمت البلاد النائية إنّما هو السؤال عن المتردّدين إليها ، كالمكاري ونحوه ، ومن الواضح ـ الذي لا مجال للارتياب فيه ـ أنّ أخبار المتردّدين بجهتها ـ كغيرها من البلاد النائية خصوصا إذا كانت المسافة بينهما شهرا أو شهرين فما زاد ، كأقصى بلاد الهند ونحوها ـ لا تفيد عادة إلّا معرفة جهتها على سبيل الإجمال على وجه ربما تشتبه جهتها الخاصّة المحاذية لها في سمت عظيم ربّما يبلغ ربع الدائرة ، بل ربّما يتعذّر بالنسبة إلى نفس المتردّدين فضلا عمّن يعتمد على خبرهم تشخيصها في أقلّ من ذلك ؛ لما في طريقهم من الموانع الموجبة للخروج عن سمتها الحقيقي وحفظ نسبته ، فيمتنع أن يكلّفهم الله تعالى بالتوجّه إليها في أخصّ من هذا السمت فضلا عن أن يأمرهم بالمحاذاة الحقيقيّة.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤.

٣٦

ولو أغمضت النظر عن العلائم الآتية التي بيّنها الأصحاب وأردت تشخيص جهتها كجهة غيرها من البلاد النائية ، لأذعنت بصدق ما ادّعيناه.

وممّا يؤيّده أيضا بل يشهد له : أنّ العلائم الآتية التي بيّنها الأصحاب وعوّلوا عليها في فتاويهم من غير نكير لا يشخّص بها إلّا سمتها على سبيل الإجمال ، فإنّ أوضحها وأضبطها ـ التي تطابق عليها النصّ والفتوى ـ هو الجدي الذي ورد الأمر بوضعه على قفاك في خبر (١) محمّد بن مسلم ، وفي مرسلة الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جواب من سأله عن أنّه يكون في السفر ولا يهتدي إلى القبلة في الليل : «اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحجّ [فاجعله بين كتفيك] (٢)» (٣) ومن الواضح أنّه لا يميّز بذلك إلّا جهتها على سبيل الإجمال ، فإنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه إنّما هو تنزيل الروايتين على البلاد المناسبة لهما.

وهذا ـ مع ما فيه من البعد بالنسبة إلى الخبر الأوّل الذي لا يناسب بلد المتكلّم والمخاطب لولا البناء على التوسعة وإرادة السمت ـ لا يجدي في إحراز المحاذاة الحسّيّة ؛ فإنّ الجدي يدور حول المركز بحيث يختلف ما يحاذيه اختلافا بيّنا ، ولذا جعل بعض المدقّقين العبرة بحال ارتفاعه أو انخفاضه كي يكون على

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٧ ، الهامش (٣).

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «على قفاك». والمثبت من المصدر وكما يأتي في ص ٥٥.

(٣) الفقيه ١ : ١٨١ / ٨٦٠ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القبلة ، ح ٢.

٣٧

دائرة نصف النهار (١).

وفيه ما لا يخفى من مخالفته لإطلاق النصوص والفتاوى ، وبعد إرادته من مورد الروايتين ، فهذا كاشف عن أنّ العبرة بتشخيص جهتها في الجملة.

وممّا يؤكّد المدّعى أيضا ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام التعرّض لبيان ضابط لبلادهم فضلا عن غيرها من البلاد النائية مع كونه من أهم المهمّات ، وترك أصحابهم التعرّض لأمرها بالسؤال عنها مع أنّهم لم يزالوا كانوا يسألون كثيرا ممّا لا يحتاجونه إلّا على سبيل الفرض ، فيكشف ذلك عن أنّهم كانوا يجتزؤن في معرفة القبلة بالطرق المقرّرة عندهم لتشخيص جهات سائر البلاد عند إرادة السير إليها في البرّ والبحر من غير ابتنائه على التدقيقات.

كما يؤيّده أيضا ما في أوضاع المساجد والمقابر حتّى المساجد القديمة ـ كمسجد الكوفة والسهلة وغيرهما من المساجد القديمة التي صلّى فيها الأئمّة عليهم‌السلام ـ من الاختلاف الفاحش مع أنّ مثلها من العلائم التي يعوّل عليها في تشخيص القبلة ، إلى غير ذلك من الأمارات الدالّة على عدم ابتناء أمر القبلة على المضايقة ، وكون المدار على استقبال الجهة التي يطلق عليها سمت الكعبة.

لكن عرفت أنّ هذا فيما إذا لم يعلم بجهتها الخاصّة أو ما يقرب منها ، وإلّا فيشكل الانحراف عنها عمدا ، كما أنّك عرفت إجمالا وسيتّضح لك تفصيله أنّه لو اشتبه هذا السمت في السمت المطلق الواقع فيه الكعبة ـ كطرف الجنوب و

__________________

(١) الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٥٥ ، والمقاصد العليّة : ١٩٤ ، وحاشية الألفيّة ـ المطبوعة مع المقاصد العليّة ـ : ٤٩٩.

٣٨

الشمال ، والمشرق والمغرب ـ لا يجب إلّا استقبال ذلك الطرف ، كما يدلّ عليه في الجملة الصحيحتان المتقدّمتان (١) الدالّتان على أنّ «ما بين المشرق والمغرب قبلة».

ولكنّ الفرق بين هذا السمت المطلق ـ الذي هو أيضا قبلة في الجملة ـ وبين السمت الخاصّ المضاف إلى الشي أنّ هذا السمت قبل اضطراريّة لا يجوز الاجتزاء به إلّا في مقام الضرورة متحرّيا فيه الأقرب فالأقرب ، وهذا بخلاف السمت المضاف إلى الكعبة ، فإنّه قبلة اختياريّة لا يجب عند إحرازه التحرّي إلى الأقرب.

نعم ، قد أشرنا مرارا إلى أنّه مع العلم بسمت أخصّ من ذلك أيضا أو بجهتها الخاصّة المحاذية للكعبة يشكل الانحراف عنه عمدا ، بل لا يجوز كما أوضحناه آنفا.

فمن هنا صحّ أن نقول في تفسير الجهة التي يجب استقبالها للبعيد ـ تبعا للمشهور ـ : هي السمت الذي يحتمل وجود الكعبة في كلّ جزء منه ويقطع بعدم خروجه عنه ، فالنسبة بينها بهذا المعنى وبين السمت المضاف إلى الشي‌ء عرفا ـ الذي له نحو وجود اعتباريّ لدى العقلاء لا مدخليّة للقطع والاحتمال في تحقّقه ـ العموم من وجه ، فربّما تكون أخصّ منها ، كما لو علم بكون الكعبة في طرف خاصّ منها ، وقد تكون أعمّ ، كما لو اشتبهت الجهة العرفيّة في السمت المطلق ، لكن جواز الاجتزاء بمقابلتها حينئذ مشروط بعدم التمكّن من تشخيص

__________________

(١) في ص ١٤.

٣٩

سمتها العرفي ، والله العالم.

(وجهة الكعبة) لا بالمعنى المتقدّم ، بل بمعنى الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه من تخوم الأرض إلى عنان السماء (هي القبلة ، لا البنيّة) كما تقدّمت الإشارة إليه في صدر المبحث.

(فلو زالت البنيّة) والعياذ بالله (صلّى إلى جهتها كما يصلّي من هو أعلى موقفا منها) كجبل أبي قبيس ، أو أسفل كالمصلّي في سرداب أخفض من الكعبة.

وهذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء ، كما صرّح به في المدارك (١) وغيره (٢).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ موثّقة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سأله رجل قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال : «نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» (٣).

وخبر خالد أبي إسماعيل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، فقال : «لا بأس» (٤).

(ولو صلّى في جوفها ، استقبل أيّ جدرانها شاء على كراهية في الفريضة) لدى المشهور.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٢٢.

(٢) الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٧ ، جواهر الكلام ٧ : ٣٤٨.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٨ ، الهامش (١).

(٤) الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٩ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٥ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب القبلة ، ح ٢.

٤٠