مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

بالثوب بمعنى التوشّح (١). انتهى.

وهذا التفسير بظاهره مباين للتفاسير المتقدّمة ، فلو أريد به قصر مورد استعماله على ذلك ، فلا اعتماد عليه في مقابل ما سمعت. ولو أريد به كونه هو معناه الأصلي الذي استعمل فيما عداه لعلاقة أو على سبيل الاشتراك أو لكونه موضوعا للقدر المشترك ، فيمكن تصديقه في ذلك بعد كونه من أهل الخبرة خصوصا مع كونه أنسب بما حكي عن القاموس (٢) في تفسير الوشاح ، الذي هو بحسب الظاهر مأخذ هذه الاستعمالات ، ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى غير مراد بأخبار الباب ؛ فإنّ هذا الوضع ممّا لا يناسب التجبّر والتكبّر الذي علّل به المنع في الأخبار ، فإنّه ربما يستعمله الشيوخ ومن به وجع الصدر ونحوه صونا عن البرد.

هذا ، مع أنّ الذي يظهر من كلمات معظم اللّغويّين : أنّ المتبادر من إطلاق «توشّح بثوبه أو بإزاره» إرادة التقلّد به إمّا مطلقا أوبالكيفيّة التي سمعته (٣) عن المصباح وغيره ، فكأنّ هذه الكيفيّة هو القدر المتيقّن الذي يراد بإطلاق التوشّح بالثوب ، فلا ينبغي الاستشكال في كراهته بهذه الكيفيّة ، وأمّا ما عداها من مطلق التقلّد أو التغشّي فمحلّ تأمّل ، بل لا ينبغي التأمّل في عدم إرادة مطلق التغشّي من الأخبار ؛ لوضوح عدم كراهته على الإطلاق ، والله العالم.

(و) كذا يكره (أن يشتمل الصمّاء) في الصلاة بلا خلاف فيه على

__________________

(١) صحيح مسلم بشرح النووي ٤ : ٢٣٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٣.

(٢) راجع : ص ٤٥٩.

(٣) في ص ٤٥٩.

٤٦١

الظاهر ، بل إجماعا كما ادّعاه غير واحد (١).

واستدلّ له بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إيّاك والتحاف الصمّاء» قلت : وما التحاف الصمّاء؟ قال : «أن تدخل الثوب من تحت جناحك فتجعله على منكب واحد» (٢).

وعن الصدوق في معاني الأخبار عن القاسم بن سلّام رفعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نهى عن لبستين : اشتمال الصمّاء ، وأن يلتحف (٣) الرجل بثوب ليس بين فرجه وبين السماء شي‌ء. قال : وقال الصادق عليه‌السلام : «التحاف الصمّاء هو أن يدخل الرجل رداءه تحت إبطه ثمّ يجعل طرفيه على منكب واحد» (٤).

ولو لا اعتضادها بفتوى الأصحاب ونقل إجماعهم ـ كما عرفت ـ لأمكن الخدشة في دلالتها على كراهته في الصلاة من حيث هي ، لكنّه لا ينبغي الالتفات إليها بعد ما سمعت خصوصا في مثل المقام الذي يكفي فيه فتوى المشهور ؛ بناء على قاعدة التسامح ، كما أنّه لا ينبغي الالتفات ـ بعد ورود تفسيره في الصحيحة المزبورة (٥) التي هي عمدة مستند الكراهة ـ إلى ما حكي (٦) عن كثير من اللّغويّين

__________________

(١) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٩٦ ، والعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٥٠٢ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٨٧ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٠٨ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٦١ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٤.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٤ / ٤ ، الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٢ ، التهذيب ٢ : ٢١٤ / ٨٤١ ، وفيه : «جناحيك» الاستبصار ١ : ٣٨٨ / ١٤٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٣) كذا في الحدائق ، وفي المصدر والوسائل : «يحتبي» بدل «يلتحف».

(٤) معاني الأخبار : ٢٧٧ ـ ٢٨١ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، وكذا في الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥ و ٦.

(٥) آنفا.

(٦) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٤٦٢

وفقهاء العامّة من أنّهم ذكروا في تفسيره ما لا ينطبق على ما في الصحيحة ، كما أشار إليه الصدوق في معاني الأخبار حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : قال الأصمعي : اشتمال الصمّاء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلّل به جسده كلّه ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده ، وأمّا الفقهاء فإنّهم يقولون : هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره ثمّ يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه. ثمّ قال : قال الصادق عليه‌السلام : «التحاف الصمّاء» إلى آخر ما قدّمناه ، ثمّ قال : وهذا هو التأويل الصحيح (١). انتهى.

أقول : وقد حكى في الحدائق ـ بعد نقل العبارة المزبورة عن معاني الأخبار ـ جملة من كلمات بعض اللّغويّين وفقهاء العامّة تشبه ما نقله عنهم الصدوق في عبارته المتقدّمة (٢).

ثمّ قال : وأمّا ما ذكره أصحابنا : فقال الشيخ في المبسوط والنهاية : هو أن يلتحف بالإزار ويدخل طرفيه تحت يده ويجمعهما على منكب واحد كفعل اليهود ، وهو المشهور ، والمراد بالالتحاف ستر المنكبين. وقال ابن إدريس في السرائر : ويكره السدل في الصلاة كما يفعل اليهود ، وهو أن يتلفّف بالإزار ولا يرفعه على كتفين. وهذا تفسير أهل اللغة في اشتمال الصمّاء ، وهو اختيار السيّد المرتضى رحمه‌الله ، فأمّا تفسير الفقهاء لاشتمال الصمّاء الذي هو السدل قالوا : هو أن يلتحف بالإزار ويدخل طرفيه من تحت يده ويجعلهما جميعا على منكب [واحد] (٣).

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٤.

(٢) آنفا.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

٤٦٣

أقول : ظاهر كلامه اتّحاد السدل واشتمال الصمّاء ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ قريبا.

وكيف كان فالعمل على ما دلّت عليه صحيحة زرارة ، المتقدّمة ، وهو قول الشيخ المتقدّم ، وبه قال في المعتبر ، إلّا أنّه بقي هنا شي‌ء ، وهو : أنّه هل المراد من قوله عليه‌السلام في الخبر : «تدخل الثوب من تحت جناحك» هو إدخال أحد طرفي الثوب من تحت أحد الجناحين والطرف الآخر من تحت الجناح الآخر ثمّ جعلهما على منكب واحد بأن يراد بالجناح الجنس ، أو أنّ المراد إدخال طرفي الثوب معا من تحت جناح واحد ، سواء كان الأيمن أو الأيسر ، ثمّ وضعه على منكب واحد؟ كلّ محتمل ، إلّا أنّ الأظهر الثاني ؛ حملا للّفظ على ظاهره ، وإلّا لكان الأظهر أن يقول : «جناحيك» (١). انتهى كلام صاحب الحدائق.

أقول : ولكن نقل عن بعض نسخ التهذيب : «جناحيك» (٢) بلفظ التثنية ، فعلى هذا يصير المعنى الثاني أظهر ، وعلى تقدير إفراده ـ كما عن الكافي وأكثر نسخ التهذيب ـ فلا يبعد أن يدّعى أنّ المتبادر منه إرادة الجنس الشامل لكلتا الصورتين ، فالاجتناب عنهما إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

ولكن بقي في المقام شي‌ء ، وهو : أنّه هل المراد بإدخال الثوب من تحت الجناح إدخاله من المقدّم إلى الخلف وجعل طرفيه على المنكب من ورائه أو من المقدّم بردّه إليه ثانيا ، أو بالعكس ، أو المدار على حصول هذا المعنى ـ أي إدخال

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، وراجع : المبسوط ١ : ٨٣ ، والنهاية : ٩٧ ـ ٩٨ ، والسرائر ١ : ٢٦١ ، والمعتبر ٢ : ٩٧.

(٢) كما في مستند الشيعة ٤ : ٣٨١ ، ولاحظ : التهذيب في الهامش (٢) من ص ٤٦٢.

٤٦٤

طرفي الثوب تحت الإبط وجعلهما على المنكب ـ بأيّ صورة كانت؟ لم أجد التعرّض لتفصيله في كلماتهم ، إلّا أنّه حكي عن المحقّق الثاني ما يظهر منه إرادة المعنى الأوّل ، حيث قال في محكيّ جامع المقاصد ـ بعد نقل الخبر المزبور ـ : وهو يحتمل أمرين : الأوّل : أن يأخذ الإزار على المنكبين جميعا ثمّ يأخذ طرفيه من قدّامه ويدخلهما تحت يده ويجمعهما على منكب واحد ، وهو المتبادر من قوله عليه‌السلام : «التحاف». والثاني : أن يجعله على أحد الكتفين مع المنكب بحيث يلتحف به من أحد الجانبين ، ويدخل كلّا من الطرفين تحت اليد الأخرى ويجمعهما على أحد المنكبين (١). انتهى.

فالإنصاف أنّ موضوع الحكم لا يخلو عن إجمال ، والاحتياط حسن في كلّ حال ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ العبرة بحصول مفهوم إدخال الثوب تحت الجناح وجعله على المنكب ، وهو حاصل في جميع الصور المتصوّرة في المقام ، فهي بأسرها مكروهة ، والله العالم.

(و) يكره أيضا أن (يصلّي فى عمامة لا حنك لها) على المشهور كما في الحدائق (٢) ، وعن المعتبر إسناده إلى علمائنا (٣) ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه.

وعن الصدوق في كتابه أنّه قال : وسمعت مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ يقولون : لا تجوز الصلاة في الطابقيّة ، ولا يجوز للمعتمّ أن يصلّي إلّا وهو متحنّك (٤).

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ١٠٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٤١.

(٢) الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٥.

(٣) المعتبر ٢ : ٩٧ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٥.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٢ ، ذيل ح ٨١٣ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٦.

٤٦٥

وعن جملة من الأصحاب ـ منهم : صاحب المدارك وغيره ـ التصريح بأنّ المستفاد من الأخبار كراهية ترك التحنّك في حال الصلاة وغيرها ، ولا خصوصيّة للصلاة بذلك ، وإنّما يكون دخولها من حيث العموم (١).

أقول : أمّا الأخبار التي وصلت إلينا في هذا الباب فهي كما ذكروه من أنّ مفادها كراهة ترك التحنّك من حيث هو لا للصلاة ، فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه لكراهة الصلاة في عمامة لا حنك لها هي ما سمعته من الشهرة ونقل الإجماع ، وكفى به مستندا لذلك بعد البناء على المسامحة.

وأمّا الأخبار الدالّة على كراهة ترك التحنّك من حيث هو فهي مستفيضة :

منها : مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من تعمّم ولم يتحنّك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه» (٢).

وخبر عيسى بن حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من اعتمّ ولم يدر العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه» (٣).

ومرفوعة عليّ بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من خرج من منزله معتمّا تحت حنكه يريد سفرا لم يصبه في سفره سرق ولا حرق ولا مكروه» (٤).

__________________

(١) منتهى المطلب ٤ : ٢٥١ ، الذكرى ٣ : ٧٢ ، روض الجنان ٢ : ٥٦٣ ، مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٥ ، مفاتيح الشرائع ١ : ١١١ ، مفتاح ١٢٦ ، وحكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٦ ، وكذا العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٦.

(٢) الكافي ٦ : ٤٦٠ (باب العمائم) ح ١ ، التهذيب ٢ : ٢١٥ / ٨٤٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٤٦١ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦ / ٨٤٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤٦١ / ٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

٤٦٦

وموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من خرج في سفر ولم يدر العمامة تحت حنكه فأصابه ألم لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه» (١).

وعن الصدوق في الفقيه مرسلا عنه عليه‌السلام : «إنّي لأعجب ممّن يأخذ في حاجته وهو معتمّ تحت حنكه كيف لا تقضى حاجته» (٢).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الفرق بين المسلمين والمشركين التلحّي بالعمائم» (٣).

قال الصدوق في محكيّ الفقيه : وذلك في أوّل الإسلام وابتدائه. ثمّ قال : وقد نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل الخلاف أيضا أنّه أمر بالتلحّي ونهى عن الاقتعاط (٤).

وعن الكليني مرسلا قال : وروي أنّ الطابقيّة عمّة إبليس (٥).

وظاهر جملة من هذه الأخبار كراهة ترك التحنّك مطلقا ، فمن هنا قد يشكل الجمع بينها وبين المستفيضة الدالّة على استحباب الإسدال.

منها : ما عن الكليني ـ في الصحيح ـ عن الرضا عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (مُسَوِّمِينَ) (٦) قال : «العمائم ، اعتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسدلها بين يديه ومن خلفه ، واعتمّ جبرئيل فسدلها من بين يديه ومن خلفه» (٧).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٣ / ٨١٤ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٣ / ٨١٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧.

(٣) الفقيه ١ : ١٧٣ / ٨١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٨.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٣ ، ذيل ح ٨١٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٦ ، وكذا العاملي في الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ذيل ح ٨ وح ٩.

(٥) الكافي ٦ : ٤٦١ ، ذيل ح ٥ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٦) آل عمران ٣ : ١٢٥.

(٧) الكافي ٦ : ٤٦٠ (باب العمائم) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ١.

٤٦٧

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر» (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «عمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام بيده فسدلها بين يديه وقصّرها من خلفه قدر أربع أصابع ، ثمّ قال : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال : أقبل ، فأقبل ، ثمّ قال : هكذا تيجان الملائكة» (٢).

وعن ياسر الخادم قال : لمّا حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا عليه‌السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويصلّي ويخطب ، فبعث الرضا عليه‌السلام إليه يستعفيه ، فألحّ عليه ، فقال : «إن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام» فقال المأمون : اخرج كيف شئت ، وساق الحديث إلى أن قال : فلمّا طلعت الشمس قام عليه‌السلام فاغتسل واعتمّ بعمامة بيضاء من قطن ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه وتشمّر ثمّ قال لجميع مواليه : «افعلوا مثل ما فعلت» (٣) الخبر.

وعن السيّد ابن طاوس في كتاب الأمام عن أبي العباس في كتابه ـ الذي سمّاه كتاب الولاية ـ بإسناده ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خمّ إلى عليّ عليه‌السلام فعمّمه وأسدل العمامة بين كتفيه وقال : «هكذا أيّدني ربّي يوم حنين بالملائكة معمّمين قد أسدلوا العمائم ، وذلك حجز بين المسلمين والمشركين» (٤) الحديث.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٦١ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٦١ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٣.

(٣) الكافي ١ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٥.

(٤) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ١٠٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٨ ، وكذا في الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ١١.

٤٦٨

وقال في حديث آخر : «عمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام يوم غدير خمّ عمامة فأسدلها بين كتفيه وقال : «هكذا أيّدني ربّي بالملائكة» (١) الحديث.

وقد ذكر الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ وجوها للجمع بين الأخبار :

منها : ما عن المحدّث المجلسي رحمه‌الله من إرجاع التحنّك والتلحّي المأمور به في الطائفة الأولى من الأخبار إلى السدل.

قال في محكيّ البحار ـ بعد نقل أخبار التحنّك ـ ما صورته : ولنرجع إلى معنى التحنّك.

والظاهر من كلام بعض المتأخّرين هو أن يدير جزءا من العمامة تحت حنكه ويغرزه في الطرف الآخر كما يفعله أهل البحرين في زماننا ، ويوهمه كلام بعض اللّغويّين أيضا.

والذي نفهمه من الأخبار هو إرسال طرف العمامة من تحت الحنك وإسداله ، كما مرّ في تحنيك الميّت ، وكما هو المضبوط عند سادات بني حسين أخذوه عن أجدادهم خلفا عن سلف ، ولم يذكر في تعمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إلّا هذا.

ولنذكر بعض عبارات اللّغويّين وبعض الأخبار ليتّضح لك الأمر في ذلك.

قال الجوهري : التحنّك : التلحّي ، وهو أن تدير العمامة من تحت الحنك. وقال : الاقتعاط : شدّ العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك. وفي الحديث : أنّه نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحّي. وقال : التلحّي تطويق العمامة تحت الحنك ،

__________________

(١) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ١٠٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٨ ، وكذا في الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس ، ح ١٢.

٤٦٩

ثمّ ذكر الخبر (١).

وقال الفيروزآبادي : اقتعط : تعمّم ولم يدر تحت الحنك ، وقال : العمّة الطابقيّة هي : الاقتعاط. قال : تحنّك : أدار العمامة تحت حنكه (٢).

وقال الجزري : فيه : أنّه نهى الاقتعاط ، هو أن يعتمّ بالعمامة ولا يجعل منها شيئا تحت ذقنه. وقال : فيه : أنّه نهى من الاقتعاط وأمر بالتلحّي ، هو جعل بعض العمامة تحت حنكه ، والاقتعاط أن لا يجعل تحت حنكه منها شيئا (٣).

وقال الزمخشري في الأساس : اقتعط العمامة : إذا لم يجعلها تحت حنكه ، ثمّ ذكر الحديث (٤).

وقال الخليل في العين : يقال : اقتعط العمامة : إذا اعتمّ بها ولم يدرها تحت الحنك (٥).

ثمّ ذكر جملة من الأخبار المتقدّمة الدالّة على الإسدال ، إلى أن قال : لم يتعرّض في شي‌ء من تلك الروايات لإدارة العمامة تحت الحنك على الوجه الذي فهمه أهل عصرنا مع التعرّض لتفصيل أحوال العمائم وكيفيّتها ، وأكثر كلمات اللّغويّين لا تأبى عمّا ذكرنا ؛ إذ إدارة رأس العمامة من خلف إلى الصدر إدارة أيضا ، بل كلام الجزري والزمخشري ظاهر في ذلك حيث قالا : أن لا يجعل شيئا منها تحت حنكه (٦). انتهى.

__________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٨١ «حنك» و ٣ : ١١٥٤ «قعط» و ٦ : ٢٤٨٠ «لحى».

(٢) القاموس المحيط ٢ : ٣٨١ ، و ٣ : ٢٥٦ ، ٣٠٠.

(٣) النهاية ـ لابن الأثير الجزري ـ ٤ : ٨٨ «قعط» و ٢٤٣ «لحا».

(٤) أساس البلاغة : ٣٧٣ «قعط».

(٥) العين ١ : ١٣٩ «قعط».

(٦) بحار الأنوار ٨٣ : ١٩٥ ـ ١٩٩ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

٤٧٠

وفيه ما لا يخفى من التكلّف ، ومخالفته لظاهر الأخبار المتقدّمة وكلمات اللّغويّين بل صريحها ، فالتحنّك والتلحّي ليس إلّا إدارة شي‌ء من العمامة تحت الحنك على حسب ما هو المتعارف في الأعصار والأمصار ، والإسدال الوارد في الأخبار المتقدّمة مخالف لهذه الكيفيّة بلا شبهة ، خصوصا ما في بعضها من أنّه أسدلها بين كتفيه ، فأين هذا من إدارة شي‌ء تحت حنكه؟ ولقد أطنب في الحدائق (١) في التعريض عليه ببيان ما يرد عليه من وجوه الضعف ، ثمّ اختار في مقام الجمع ما يقرب من ذلك في الضعف ؛ حيث زعم أنّ أخبار السدل تدلّ على أنّ السنّة في لبس العمامة هي هذه الكيفيّة ، أي الإسدال مطلقا ، ولكنّها مخصّصة بأخبار التحنيك ، فإنّها أخصّ من هذه الأخبار ؛ فإنّ منها ما يدلّ على كراهة ترك التحنّك في السفر ، ومنها ما يدلّ على كراهة تركه عند السعي في قضاء الحوائج ، وقسم منها ما دلّ على كراهة أن يتعمّم ولم يتحنّك ، وظاهر هذا القسم إرادته حال فعل العمامة ـ أي بعد الفراغ منه ـ لا مطلقا ما دام متلبّسا بها ، أو أنّه يحمل عليه ؛ جمعا.

وفيه : أنّ بعض القسم الثالث من الأخبار وإن أمكن حمله على إرادته حال الفعل على بعد ولكن بعضه الآخر ـ الذي دلّ على كون التلحّي هو الفارق بين المسلمين والكفّار ـ يأبى عن ذلك ، كما هو واضح.

هذا ، مع أنّ بعض أخبار السدل مورده السفر.

وحكي عن بعض تخصيص أخبار السدل بالنبي والأئمّة عليهم‌السلام (٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ١٣٠ ـ ١٣٥.

(٢) احتمله السيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ٣٥٧ ، وحكاه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٤٨ بعنوان «قيل».

٤٧١

وفيه : مع مخالفته لقاعدة الاشتراك وما يستشعر من تلك الأخبار من كون تلك الكيفيّة في حدّ ذاتها مرغوبة في الشريعة ، ينافيه قول الرضا عليه‌السلام ـ في خبر ياسر ـ لجميع مواليه : «افعلوا مثل ما فعلت» (١).

والتزم غير واحد بالتخيير بين التلحّي والإسدال ، وخصّص الكراهة بعمامة لا حنك لها ولا سدل ، ولعلّها هي المرادة بالطابقيّة ، لا مطلق ما لا يكون شي‌ء منها تحت حنكه ولو مع سدل طرفها.

وهذا الجمع لا يخلو عن وجه ، ولكن الأوجه منه أن يقال : إنّه يستفاد من نفس أخبار الإسدال بمقتضى سياقها أنّ هذه الكيفيّة صدرت من النبي والأئمّة عليهم‌السلام أحيانا في موارد خاصّة ، فهي أخبار خاصّة حاكية لفعل الحجج في موارد غير معلومة جهاتها ، فيحتمل اختصاص استحباب هذه الكيفيّة بما إذا كان المعتمّ ساعيا في مطلب مهمّ ، كما هو مورد هذه الأخبار ، فلا تصلح هذه الروايات معارضة لأخبار الكراهة إلّا بالنسبة إلى ما هو مثل الموارد ، فتخصّص تلك الأخبار بهذه الروايات في مثل تلك الموارد.

هذا ، مع أنّه لم يعلم خلوّ تلك العمائم المسدلة عن التحنّك حتى يتحقّق التنافي بينها وبين أخبار التحنّك ؛ لجواز أن يكون جزء منه ولو من وسطها عند لفّها موضوعا تحت الحنك. فما عن المشهور ـ من كراهة ترك التحنّك مطلقا ، بل استحباب فعله ، كما هو ظاهر بعض الأخبار المتقدّمة (٢) ـ لا يخلو عن وجه ، والله

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٦٨ ، الهامش (٣).

(٢) في ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

٤٧٢

العالم.

(و) كذا (يكره اللثام للرجل) كما عن المشهور (١) ، بل عن المختلف أنّه مذهب جلّ علمائنا (٢) ، وعن الخلاف الإجماع عليه (٣).

ويشهد له صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أيصلّي الرجل وهو متلثّم؟ فقال : «أمّا على الأرض فلا ، وأمّا على الدابّة فلا بأس» (٤).

وظاهرها نفي الكراهة في حال الركوب ، وهو مخالف لإطلاق الفتاوى ومعقد إجماعهم المحكيّ.

اللهمّ إلّا أن يدّعى انصراف إطلاق كلماتهم إلى ما لو صلّى على الأرض ، أو يحمل نفي البأس في الصحيحة على الكراهة.

وكيف كان فظاهر الصحيحة في بادى‌ء الرأي عدم الجواز ـ كما حكي القول به عن ظاهر المفيد وغيره (٥) ـ ولكنّه يجب حملها على الكراهة ، كما يؤيّد ذلك نفي البأس عنه حال الركوب الذي هو مظنّة الحاجة إليه ، حيث يستشعر من ذلك كون النهي عنه في غير حال الركوب تنزيهيّا بحيث يسوغ مخالفته لأدنى ضرورة ، مضافا إلى أنّه هو الذي يقتضيه الجمع بين الصحيحة وبين غيرها ممّا يدلّ على

__________________

(١) نسبه إلى المشهور الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٦٤ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٧ ، والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٦٠.

(٢) مختلف الشيعة ٢ : ١٠٧ ، المسألة ٤٧ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٥.

(٣) الخلاف ١ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩ ، المسألة ٢٥١ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٥.

(٤) الكافي ٣ : ٤٠٨ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٢٩ / ٩٠٠ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ / ١٥١٦ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٥) المقنعة : ١٥٢ ، المبسوط ١ : ٨٣ ، النهاية : ٩٨ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٥.

٤٧٣

الجواز.

كموثّقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يصلّي ويقرأ القرآن وهو متلثّم ، فقال : «لا بأس» (١).

وصحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ فقال : «لا بأس بذلك إذا سمع الهمهمة» (٢).

واحتمال كون اللثام غير وضع الثوب ، مدفوع : بأنّ المنساق من السؤال إرادة ما يشمله ، ولا أقلّ من احتماله ، فإطلاق الجواب في مثل المقام من غير استفصال مفيد للعموم.

ونحوها صحيحة عبد الله بن سنان أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال : «لا بأس بذلك» (٣).

ومرسلة الحسن بن علي عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه قال : «لا بأس أن يقرأ الرجل في الصلاة وثوبه على فيه» (٤).

وممّا يشهد أيضا للجمع المزبور ـ مضافا إلى كونه في حدّ ذاته من الجمع المقبول ـ مضمرة سماعة ، قال : سألته عن الرجل يصلّي فيتلو القرآن وهو متلثّم ،

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٢٩ / ٩٠١ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ / ١٥١٧ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ / ٩٠٣ ، الاستبصار ١ : ٣٩٨ / ١٥١٩ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

(٣) الفقيه ١ : ١٧٣ / ٨١٨ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٢٩ / ٩٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٩٨ / ١٥١٨ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

٤٧٤

فقال : «لا بأس به ، وإن كشف عن فيه فهو أفضل» وسألته عن المرأة تصلّي متنقّبة ، قال : «إذا كشفت عن موضع السجود فلا بأس به ، وإن أسفرت فهو أفضل» (١).

وهذه الرواية في حدّ ذاتها تدلّ على كراهة اللثام ، فإنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : «وإن كشف عن فيه فهو أفضل» إرادة أنّه إن لم يتلثّم فهو أفضل من أن يتلثّم ، وهذه عبارة أخرى عن كراهة فعله ؛ إذ لا نعني بكراهة الفعل إلّا رجحان تركه شرعا لا على سبيل اللزوم ، كما هو مفاد الرواية.

(و) قد ظهر بهذا التقريب أنّ الرواية كما تدلّ على كراهة اللثام للرجل ، كذلك تدلّ على كراهة (النقاب للمرأة) كما عن المشهور (٢) ، بل عن محكيّ المختلف نسبته إلى جلّ علمائنا (٣). وكفى به دليلا عليه بعد البناء على المسامحة فضلا عن شهادة المضمرة (٤) عليه ، كما عرفت.

(فإن منع) كلّ من اللثام أو النقاب (القراءة) الواجبة (حرم) كما هو واضح ، وفي صحيحة الحلبي ـ المتقدّمة (٥) ـ إشارة إلى ذلك حيث قيّد فيها نفي البأس عن وضع الثوب على فيه بما إذا سمع الهمهمة ؛ إذ المقصود بسماع الهمهمة ـ بحسب الظاهر ـ الكناية عن عدم ممانعته عن القراءة ، وإلّا فربما تكون الصلاة إخفاتيّة لا همهمة فيها.

(وتكره الصلاة في قباء مشدود إلّا حال الحرب) كما في المتن و

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣٠ / ٩٠٤ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٢) نسبه إلى المشهور العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٧.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ١٠٧ ، المسألة ٤٧ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٥.

(٤) تقدّمت المضمرة آنفا.

(٥) في ص ٤٧٤.

٤٧٥

غيره ، بل ربما يظهر من بعض نسبته إلى المشهور (١).

وعن الشيخ المفيد في المقنعة أنّه قال : ولا يجوز لأحد أن يصلّي وعليه قباء مشدود ، إلّا أن يكون في الحرب فلا يتمكّن أن يحلّه ، فيجوز ذلك للاضطرار (٢). وظاهره التحريم ، وقد حكي القول به أيضا عن ظاهر الوسيلة (٣) أو صريحه.

وعن جملة من المتأخّرين التردّد في الكراهة أيضا فضلا عن الحرمة ، كما ربما يستشعر ذلك من الشيخ في التهذيب ـ على ما حكي عنه ـ حيث قال ـ بعد نقل قول المفيد ـ : ذكر ذلك عليّ بن الحسين بن بابويه ، وسمعناه من الشيوخ مذاكرة ، ولم أعرف به خبرا مسندا (٤).

وكيف كان فلم يعرف مستنده ، بل لم يتّضح المراد منه ، فإن أريد منه شدّ الأزرار ، فالمستفاد من بعض الأخبار خلافه.

كرواية الأحمري عن رجل يصلّي وأزراره محلّلة ، قال : «لا ينبغي ذلك» (٥).

وفي خبر غياث : «لا يصلّي الرجل محلول الأزرار إذا لم يكن عليه إزار» (٦).

__________________

(١) نسبه إلى المشهور الشهيد في البيان : ١٢٣ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٣٢ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٨.

(٢) المقنعة : ١٥٢ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٨.

(٣) الوسيلة : ٨٨ ، وحكاه عنه النراقي في مستند الشيعة ٤ : ٣٨٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٥٥.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٣٢ ، وحكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٦٥ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٣٢ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٨.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٩ / ١٥٣٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ / ١٤٩٦ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٥٧ / ١٤٧٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ / ١٤٩٥ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

٤٧٦

اللهمّ إلّا أن يحمل ما في هذين الخبرين على ما لو صلّى في قميص واسع الجيب ونحوه ممّا لا يحصل معه كمال الستر بلا شدّ الأزرار ، كما لعلّه هو ظاهر الخبر الأخير ، ويؤيّده ما في بعض الأخبار من نفي البأس عن الصلاة محلولة الأزرار (١).

وإن أريد منه شدّ الوسط كما يومى‌ء إليه استدلال الشهيد له ـ في محكيّ الذكرى (٢) ـ بالنبويّ العامّيّ : «لا يصلّي أحدكم وهو متحزّم» (٣) أمكن الالتزام به من باب المسامحة ، كما يؤيّده ما عن الشيخ في الخلاف من دعوى الإجماع عليه حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : يكره أن يصلّي وهو مشدود الوسط ، ولم يكره ذلك أحد من الفقهاء. دليلنا : إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (٤). انتهى.

ولكن قد يشكل ذلك أيضا بمنافاته لما استقرّ عليه السيرة من الصلاة مشدود الوسط.

هذا ، مع معارضة النبوي بمثله من خبرين عامّيّين مرويّين في محكيّ النهاية الأثيريّة ، مصرّحين بالنهي عن الصلاة بغير حزام (٥) ، فتأمّل (٦).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٧٤ / ٨٢٣ ، التهذيب ٢ : ٢١٦ / ٨٥٠ ، و ٣٥٧ / ١٤٧٧ ، و ٣٢٦ / ١٣٣٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ / ١٤٩٢ و ١٤٩٣ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١ و ٤.

(٢) الذكرى ٣ : ٦٥ ، والحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٨.

(٣) في مسند أحمد ٢ : ٤٥٨ وكذا في الذكرى ٣ : ٦٥ : «لا يصلّي أحدكم إلّا وهو محزّم». وفي سنن أبي داود ٣ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ٣٣٦٩ : «نهى أن يصلّي الرجل بغير حزام». وفي سنن البيهقي ٢ : ٢٤٠ : «.. حتى يحتزم». وفي الطبعة الحجريّة من الذكرى : ١٤٨ كما في المتن.

(٤) الخلاف ١ : ٥٠٩ ، المسألة ٢٥٢ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٥٦.

(٥) النهاية ـ لابن الأثير ـ ١ : ٣٧٩ «حزم» والحاكي عنه هو النراقي في مستند الشيعة ٤ : ٣٨٧.

(٦) قوله : «فتأمّل» إشارة إلى أنّه إذا كان مبنى العمل بهذه الأخبار المسامحة ، يكون حال الخبرين المتعارضين حال المستحبّين المتزاحمين في جواز الأخذ بكلّ منهما بعنوان الاستحباب ، فليتأمّل. «منه».

٤٧٧

ويحتمل أن يكون المراد بالقباء المشدود ما كان مشدودا ذيوله على الوسط شبه الحزام ، والله العالم.

(و) كذا يكره (أن يؤمّ بغير رداء) على المشهور ، كما ادّعاه غير واحد (١) ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه (٢).

واستدلّ له بصحيحة سليمان بن خالد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أمّ قوما في قميص ليس عليه رداء ، فقال : «لا ينبغي إلّا أن يكون عليه رداء أو عمامة يرتدي بها» (٣).

ونوقش فيه : بأنّها إنّما تدلّ على الكراهيّة مطلقا إذا كان محطّ نظر السائل السؤال عن إمامته بلا رداء ، ويجوز أن يكون غرضه السؤال عن إمامته إذا لم يكن عليه إلّا قميص ولم يلبس فوق القميص شيئا ، فلا تدلّ حينئذ إلّا على الكراهة في مثل الفرض ، لا مطلقا.

وربما يشهد لإرادة هذا المعنى من الصحيحة ـ مضافا إلى إمكان دعوى ظهور الصحيحة فيه ، خصوصا على ما في بعض النسخ من توصيف القميص بواحد ـ صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في قميص واحد أو قباء وحده؟ قال : «ليطرح على ظهره شيئا» قال : وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يؤمّ في سراويل ورداء؟ قال : «لا بأس به» وسألته عن المرأة هل يصلح لها أن تصلّي في ملحفة ومقنعة ولها درع؟ فقال :

__________________

(١) كالعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٠٩.

(٢) الذكرى ٣ : ٥٤ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٨.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٤ / ٣ ، التهذيب ٢ : ٣٦٦ / ١٥٢١ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٤٧٨

«لا يصلح إلّا أن تلبس درعها» وسألته عن المرأة هل يصلح لها أن تصلّي في إزار وملحفة ومقنعة ولها درع؟ قال : «إذا وجدت فلا يصلح لها الصلاة إلّا وعليها درع» وسألته عن السراويل هل يجزى‌ء مكان الإزار؟ قال : «نعم» وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في إزار وقلنسوة وهو يجد رداء؟ قال : «لا يصلح» وسألته عن الرجل هل يؤمّ في سراويل وقلنسوة؟ قال : «لا يصلح» وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يؤمّ في ممطر وحده أوجبّة وحدها؟ فقال : «إذا كان تحتها قميص فلا بأس» وسألته عن الرجل [هل] يؤمّ في قباء وقميص؟ قال : «إذا كان ثوبين فلا بأس» (١).

ولا يخفى عليك أنّ مفاد هذه الصحيحة ـ على ما يظهر منها بعد التدبّر في جملة من فقراتها ـ اختصاص الكراهة بما لو صلّى في ثوب واحد من قميص أو قباء ونحوه ، فلو صلّى في ثوبين فلا بأس ، سواء صدق على شي‌ء منهما اسم الرداء أم لا.

وربما يدّعى صدق اسم الرداء على مثل القباء ونحوه ممّا يجعل على المنكبين ؛ نظرا إلى ما عن الفاضلين من تفسير الرداء بأنّه ثوب يجعل على المنكبين (٢) ، فلا يكون حينئذ ما يستفاد من الصحيحة منافيا لإطلاق القول بكراهة الإمامة بغير رداء.

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر : ١١٣ / ٣٦ ، ٣٣ ، ٣٤ ، و ١١٤ / ٣٨ ـ ٤٠ ، و ١١٨ / ٥٨ ، و ١١٩ / ٦٢ ، وحكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ / ٢ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) المعتبر ٢ : ٩٧ ، منتهى المطلب ٤ : ٢٥١ ، وحكاه عنهما المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ١٩٠.

٤٧٩

وفيه نظر ؛ إذ الظاهر أنّ مراد الفاضلين الإشارة إلى ما يسمّى في العرف رداء ، كقولهم : «سعدانة نبت» لا أنّ كلّ ما يجعل على المنكبين يطلق عليه اسم الرداء.

وكيف كان فالذي يستفاد من الصحيحة إنّما هو كراهة الاكتفاء بثوب واحد ، وعدم لبس ثوب آخر فوقه من رداء ونحوه.

ويظهر من صدرها عدم اختصاص هذا الحكم بالإمام ، بل لا يصلح للرجل أن يصلّي في قميص أو قباء واحد مطلقا ، إماما كان أو غيره ، بل عليه أن يجعل عند انحصار الثوب فيه على ظهره شيئا.

وربما يستدلّ لكراهة ترك الرداء للإمام مطلقا بفتوى جمّ غفير من الأصحاب ، بل لمطلق المصلّي بفتوى جماعة منهم.

وهو لا يخلو عن وجه بناء على المسامحة ولو على تقدير تسليم ظهور الصحيحة في نفي البأس عن أن يؤمّ الرجل بغير رداء إذا كان عليه ثوبان ، على إشكال.

تنبيه : نقل في المدارك عن جدّه قدس سرّه أنّه قال : وكما يستحبّ الرداء للإمام يستحبّ لغيره من المصلّين وإن كان للإمام آكد. واحتجّ عليه بتعليق الحكم على مطلق المصلّي في عدّة أخبار : كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «أدنى ما يجزئك أن تصلّي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطّاف» (١).

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٤ ، الهامش (١).

٤٨٠