مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

وهذه الرواية يتعيّن حملها على ما إذا وقعت صلاتهم فيما بين المشرق والمغرب بقرينة غيرها من الأخبار الآتية ، فتكون حينئذ كالنصّ في المدّعى.

ولا فرق في وجوب الإعادة بين ما لو انكشف خطؤه في الوقت أو في خارجه ؛ فإنّا وإن قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد لكنّ الأمر الجديد بقضاء ما فات محقّق ، ولا أثر للصلاة الفاسدة في المنع عن صدق الفوت (١).

وقد يقال ـ كما هو ظاهر المتن ـ بأنّه يجب عليه الإعادة مطلقا ، سواء أخطأ أم لم يخطأ ؛ لأنّه دخل في الصلاة دخولا غير مشروع.

وفيه ما تقرّر في محلّه من صحّة عبادة الجاهل التارك للاجتهاد والتقليد على تقدير مطابقته للواقع ، فالمتّجه ما عرفت من اختصاص البطلان بصورة الخطأ.

نعم ، لو صلّى متردّدا في شرعيّة عمله ، اتّجه البطلان على الإطلاق ؛ بناء على اعتبار الجزم في النيّة ، وبطلان عبادة المتردّد مع التمكّن من إزالته ، لكن لنا فيه تأمّل ، كما عرفته مفصّلا في نيّة الوضوء.

المسألة (الثانية : إذا صلّى إلى جهة) بحسب ما يقتضيه تكليفه (إمّا لغلبة الظنّ أو لضيق الوقت) أو لغير ذلك (ثمّ تبيّن خطؤه) بعد الفراغ من الصلاة (فإن كان منحرفا يسيرا) بحيث لم يخرج عمّا بين المشرق والمغرب (فالصلاة ماضية).

قال في الجواهر : بلا خلاف معتدّ به بين المتأخّرين من أصحابنا و

__________________

(١) في «ض ١٤» زيادة : «كما لا يخفى».

١٦١

متأخّريهم ، بل في التذكرة والتنقيح والمحكيّ عن الروض والمقاصد العليّة الإجماع عليه (١). انتهى.

ويشهد له ـ مضافا إلى ما عرفته عند البحث عن جهة القبلة من أنّه قد يكون ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه ، والقدر المتيقّن منه إنّما هو في مثل الفرض ـ خصوص صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا ، فقال : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : «إن كان متوجّها فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة» (٣).

والاستدلال بهذه الرواية بلحاظ عدم الفرق بين أبعاض الصلاة وجملتها في شرطيّة الاستقبال.

ورواية القاسم بن الوليد قال : سألته عن رجل تبيّن له وهو في الصلاة أنّه على غير القبلة ، قال : «يستقبلها إذا أثبت ذلك ، وإن كان قد فرغ منها فلا يعيدها» (٤).

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢٤ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٣ : ٣٢ ، المسألة ١٥٠ ، والتنقيح الرائع ١ : ١٧٧ ، وروض الجنان ٢ : ٥٤٣ ، والمقاصد العليّة : ٢٩٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ١ ، وتقدّمت الصحيحة أيضا عن الفقيه في ص ٨٣.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٣١ ، الهامش (٢).

(٤) التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٨ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ٣.

١٦٢

وهي محمولة على ما إذا كان الانحراف بين اليمين واليسار ، بشهادة الموثّقة المتقدّمة (١) وغيرها ، فالضمير في «يستقبلها» راجع إلى القبلة ، لا إلى الصلاة ، بقرينة ما عرفت.

وخبر الحسن بن ظريف ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن الحسين بن علوان عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : «من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب» (٢).

وخبر موسى بن إسماعيل بن موسى ـ المرويّ عن نوادر الراوندي ـ : «من صلّى على غير القبلة فكان إلى غير المشرق والمغرب فلا يعيد الصلاة» (٣).

وعن جملة من الأصحاب إطلاق القول بوجوب الإعادة في الوقت على من صلّى لغير القبلة (٤) من غير تفصيل بين الانحراف اليسير والكثير الموجب للخروج عمّا بين المشرق والمغرب ، بل عن بعضهم (٥) دعوى الإجماع عليه.

ولكن لا يخفى عليك ـ خصوصا بعد التأمّل فيما أسلفناه عند تشخيص سمت القبلة واستظهرناه من المشهور ـ أنّه ليس لإطلاق قولهم بالإعادة ظهور في المخالفة ، كما يؤيّد ذلك دعوى غير واحد عدم الخلاف في عدم الإعادة عند تبيّن

__________________

(١) في ص ١٦٢.

(٢) قرب الإسناد : ١١٣ ـ ١١٤ / ٣٩٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ٥.

(٣) لم نجده في نسختنا المطبوعة من النوادر ، وعنها في بحار الأنوار ٨٤ : ٦٩ / ٢٦.

(٤) المقنعة : ٩٧ ، النهاية : ٦٤ ، المبسوط ١ : ٨٠ ، الغنية : ٦٩ ، السرائر ١ : ٢٠٥ ، وحكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٤٣٥.

(٥) الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، المسألة ٥١.

١٦٣

الانحراف اليسير الغير البالغ حدّ المشرق والمغرب.

ويؤيّده أيضا أنّ من المستبعد عدم اعتنائهم بهذه الأخبار المستفيضة المصرّحة بالمطلوب ، السالمة عن المعارض ، عدا بعض إطلاقات قابلة للتقييد أو التاويل ، فمرادهم بالقبلة في المقام ـ بحسب الظاهر ـ ما يعمّ ما بين المشرق والمغرب ، معوّلين في ذلك على صحيحة معاوية بن عمّار ، المتقدّمة (١) الواردة في خصوص المسألة ، المصرّحة بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة.

وأصرح منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» قال :قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم (٢) غيم في (٣) غير الوقت؟ قال : «يعيد» (٤).

وكيف كان فهاتان الصحيحتان حاكمتان على الأخبار المطلقة الآتية الدالّة على أنّ من صلّى لغير القبلة أعادها في الوقت ، لا في خارجه ، فإنّهما بمدلولهما اللفظي تدلّان على اختصاص موضوع تلك الأخبار بما لو صلّى خارجا عمّا بين المشرق والمغرب ، وقد أشرنا في محلّه إلى أنّ عدم إمكان الأخذ بظاهر الصحيحتين على الإطلاق لا يقتضي طرحهما رأسا ، كما أنّ مقتضى تخصيص الإعادة في تلك الأخبار بما إذا تبيّن الخطأ في الوقت لا في خارجه : تقييد ما يستفاد من أغلب الأخبار المتقدّمة مفهوما ومن ذيل صحيحة زرارة منطوقا من

__________________

(١) في ص ١٦٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ليوم» بدل «في يوم». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في الفقيه : «وفي».

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٨٧ ، الهامش (١).

١٦٤

الإعادة عند الخروج من المشرق والمغرب بما إذا كان انكشاف الخطأ قبل خروج الوقت.

فما زعمه صاحب الحدائق ـ من قوّة القول بوجوب الإعادة في الوقت لا في خارجه على الإطلاق ، كما حكى القول بذلك عن ظاهر القدماء (١) ـ في غاية الضعف وإن بالغ في تشييده حيث زعم أنّ الأخبار متعارضة ، والنسبة بينها العموم من وجه ؛ حيث إنّ الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ «من صلّى فيما بين المشرق والمغرب لا يعيد» خاصّة من حيث القبلة ، وعامّة من حيث تبيّن الخطأ في الوقت أو في خارجه ، والأخبار الآتية بعكس ذلك ، فترجيح الأوّل ـ أي تخصيص الأخبار الآتية بهذه الأخبار ، وحملها على ما إذا كان الانحراف بالغا حدّ المشرق والمغرب ـ يحتاج إلى دليل ، وهو مفقود.

ثمّ نقل عن العلّامة أنّه ذكر لذلك وجهين :

أحدهما : موافقة عدم الإعادة ما لم يكن الانحراف كثيرا لأصالة البراءة.

وثانيهما : ما نبّهنا عليه من حكومة صحيحة معاوية على تلك الأخبار ، وتخصيص موضوعها بغير ما لو صلّى فيما بين المشرق والمغرب ، فلا معارضة بينهما.

لكنّ العلّامة رحمه‌الله عبّر عن هذا بما لفظه ـ على ما حكاه في الحدائق ـ :

الثاني : أنّا نمنع تخصيص ما ذكرتم من الأحاديث أصلا ؛ لأنّ قوله عليه‌السلام : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ليس مخصّصا للحديث الدالّ على وجوب الإعادة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٤٣٧.

١٦٥

في الوقت دون خارجه لمن صلّى إلى غير القبلة ؛ إذ أقصى ما يدلّ عليه أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة ، بل لقائل أن يقول : إنّ قوله : «إذا صلّيت وأنت على غير القبلة» يتناول لفظ القبلة ما بين المشرق والمغرب (١). انتهى.

فكأنّ صاحب الحدائق لم يصل إلى كنه مرامه حتّى أنّه احتمل كون ما عنده من النسخة غلطا ، فقال بعد نقل كلامه معترضا عليه ما هذا لفظه : ولا يخفى ما فيه.

أمّا الاستناد إلى الأصل كما ذكره : فمعارض بأنّ الأصل شغل الذمّة بالعبادة ، وهذا أصل متيقّن (٢) لا مناص عنه ، فلا يحكم ببراءة الذمّة إلّا بيقين مثله ، والأخبار هنا متعارضة كما عرفت ، والوقت باق ، والخطاب متوجّه ، فلا تتيقّن براءة الذمّة إلّا بالإعادة في الوقت ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، ولا يتطرّق إليه الإيراد من خلفه ولا من بين يديه.

وأمّا منع التخصيص : فلا يخفى ما فيه ؛ فإنّي لا أعرف لكلامه هنا وجه استقامة ، ولعلّ النسخة التي عندي لا تخلو من غلط.

ثمّ جدّد المقال في تشييد الاستدلال زيادة على ما قدّمه ممّا نقلنا ملخّصه بما صورته : أنّ صحيحة معاوية المشار إليها قد دلّت على أنّ من صلّى بظنّ القبلة ثمّ تبيّن انحرافه إلى ما بين اليمين والشمال فقد صحّت [صلاته] ؛ لأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة ، وتبيّن الانحراف عن القبلة أعمّ من أن يكون في الوقت أو في خارجه ، فيمكن تقييد هذا العموم بما فصّلته تلك الأخبار من أنّ من صلّى

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، وانظر : منتهى المطلب ٤ : ١٩٧.

(٢) في «ض ١٦» والطبعة الحجريّة : «متقن».

١٦٦

إلى غير القبلة ثمّ تبيّن ذلك فإن كان في الوقت أعاد ، وإن كان خارج الوقت فلا إعادة عليه ، بأن يحمل على تبيّن الانحراف بعد خروج الوقت ، وحينئذ فتجب الإعادة في الوقت وإن كان فيما بين اليمين واليسار ، وهذا بحمد الله سبحانه أيضا ظاهر لا مرية فيه (١). انتهى.

وليت شعري بعد أن اعترف بدلالة الصحيحة على أنّ علّة صحّة الصلاة كون ما بين المشرق والمغرب قبلة فما معنى تقييد هذه الرواية بتلك الأخبار القائلة بأن من صلّى إلى غير القبلة أعادها مع مباينة موضوعهما؟ وكيف يمكن التقييد!؟ مع أنّ مقتضى هذه العلّة عدم المقتضي لإعادة الصلاة وكونها صحيحة في الواقع بحيث لو كانت الصحيحة واردة في خصوص ما بعد الوقت لكنّا نقول بعدم الإعادة في الوقت أيضا بمقتضى العلّة المنصوصة ، بل كيف تحمل على تبيّن الانحراف بعد خروج الوقت!؟ مع أنّ مقتضى عموم تلك الأخبار النافية للإعادة بعد الوقت ، التي خصّص بها هذه الصحيحة : عدم الفرق بين ما لو كانت الصلاة فيما بين المشرق والمغرب أو مستدبرا للقبلة ، فكيف يتوجّه التعليل حينئذ!؟ مع أنّ عدم الإعادة لا ينوط به ، ولولا وضوح فساد هذا الجمع واستلزامه طرح المعتبرة المستفيضة المتقدّمة منطوقا أو مفهوما بلا مقتض ، لبسطنا الكلام في بيان ما فيه من المفاسد بالنظر إلى كلّ واحد من الأخبار ، ولكن وضوح الحال أغنانا عن ذلك.

فظهر بما ذكرنا أنّه لا مجال للارتياب في أنّه لو تبيّن بعد الصلاة الخطأ وكان

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٤٣٨ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٦٧

الانحراف يسيرا غير بالغ حدّ المشرق والمغرب ، لم تجب الإعادة لا في الوقت ولا في خارجه ، بل صحّت صلاته (وإلّا) أي : وإن لم يكن الانحراف يسيرا ، بل كثيرا بالغا حدّ المشرق والمغرب ـ والمراد بالمشرق والمغرب في النصوص والفتاوى بحسب الظاهر كما صرّح به غير واحد : يمين القبلة وشمالها ، لاخصوص المشرق والمغرب ـ (أعاد في الوقت) لا في خارجه ، يعني إن تبيّن الخطأ قبل خروج الوقت بحيث تمكّن من إعادة الصلاة في الوقت ولو بإدراك ركعة ، أعادها ، فإن أهمل والحال هذه ، قضاها كغيره ممّن أهمل الفريضة في وقتها بعد تنجّز التكليف بها عمدا ، وإلّا فقد مضت صلاته.

(وقيل) كما عن جملة من القدماء والمتأخّرين (١) ، بل عن بعض (٢) نسبته إلى المشهور : (إن بان أنّه استدبر ، أعاد وإن خرج الوقت).

(والأوّل أظهر) حيث يشهد له جملة من الأخبار المعتبرة التي تقدّمت الإشارة إليها.

منها : صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة و

__________________

(١) منهم : المفيد في المقنعة : ٩٧ ، والطوسي في النهاية : ٦٤ ، والمبسوط ١ : ٨٠ ، وسلّار في المراسم : ٦١ ، وابن زهرة في الغنية : ٦٩ ، والعلّامة الحلّي في إرشاد الأذهان ١ : ٢٤٥ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢٧ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٩٩ ، والشهيد في اللمعة : ٢٩ ، والسيوري في التنقيح الرائع ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٧٤ ـ ٧٥ ، والجعفريّة (ضمن رسائل المحقّق الكركي) ١ : ١٠٤ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٢٦.

(٢) الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٢٠ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٢٦.

١٦٨

أنت في وقت فأعد ، وإن فاتك الوقت فلا تعد» (١).

وصحيحة سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في قفر (٢) من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة ثمّ يصحى (٣) فيعلم أنّه صلّى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال : «إن كان في الوقت فليعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده» (٤).

أقول : فيه إيماء إلى اشتراط عدم كونه مبنيّا على المسامحة.

وصحيحة يعقوب بن يقطين ، قال : سألت عبدا صالحا عن رجل صلّى في يوم سحاب على غير القبلة ثمّ طلعت الشمس وهو في وقت ، أيعيد الصلاة إذا كان قد صلّى على غير القبلة؟ وإن كان قد تحرّى القبلة بجهده أتجزئه صلاته؟ فقال : «يعيد ما كان في وقت ، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه» (٥).

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن رجل أعمى صلّى على غير القبلة ، فقال : «إن كان في وقت فليعد ، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعد» وسألته عن رجل صلّى وهي مغيّمة (٦) ثمّ تجلّت فعلم أنّه صلّى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٣ ، التهذيب ٢ : ٤٧ / ١٥١ ، و ١٤٢ / ٥٥٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ / ١٠٩٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٢) القفر من الأرض : المفازة التي لا ماء فيها ولا نبات. مجمع البحرين ٣ : ٤٦٣ «قفر».

(٣) الصحو : ذهاب الغيم. مجمع البحرين ١ : ٢٦١ «صحا».

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ / ٩ ، التهذيب ٢ : ٤٧ / ١٥٢ ، و ١٤٢ / ٥٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ / ١٠٩١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٦.

(٥) التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٥ ، و ١٤١ / ٥٥٢ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ / ١٠٩٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٦) في الفقيه : «متغيّمة».

١٦٩

على غير القبلة ، فقال : «إن كان في وقت فليعد ، وإن كان الوقت قد مضى فلا يعد» (١).

وخبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا صلّيت على غير القبلة فاستبان لك قبل أن تصبح أنّك صلّيت على غير القبلة فأعد صلاتك» (٢).

وهذه الرواية من مؤيّدات القول بامتداد الوقت الاضطراري للعشاءين إلى الصبح.

ورواية محمّد بن الحصين ، قال : كتبت إلى عبد صالح : الرجل يصلّي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلّي حتّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس ، فإذا هو قد صلّى لغير القبلة ، أيعتدّ بصلاته أم يعيدها؟ فكتب «يعيدها ما لم يفته الوقت ، أو لم يعلم أنّ الله يقول وقوله الحقّ (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣)؟» (٤).

وما في ذيل الرواية ممّا يشهد بسقوط شرطيّة الاستقبال عند اشتباه القبلة ، وكفاية صلاة واحدة لكن بشرط العلم بالحكم ، كما في القصر والتمام ، وقد عرفت في محلّه عدم سلامتها عن المعارض.

وكيف كان فهذا غير قادح بمحلّ الاستشهاد.

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٦٠ ، الهامش (١).

(٢) التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٩ / ١٦٠ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٤.

١٧٠

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الأعمى إذا صلّى لغير القبلة فإن كان في وقت فليعد ، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعيد» (١).

وقد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار والأخبار المتقدّمة آنفا إنّما هو حمل هذه الأخبار على ما إذا كان الانحراف كثيرا واصلا حدّ المشرق والمغرب ، وتقييد الإعادة ـ المستفادة من تلك الأخبار مفهوما أو منطوقا ـ عند الخروج عمّا بين المشرق والمغرب بالوقت بهذه الأخبار المصرّحة بالتفصيل.

فتحصّل من مجموع الأخبار بعد ردّ بعضها إلى بعض : أنّه إذا كان الانحراف فيما بين المشرق والمغرب فقد مضت صلاته ، وإلّا أعادها في الوقت لا في خارجه من غير فرق بين الاستدبار أو التشريق والتغريب.

فما حكي عن المشهور (٢) من الإعادة في خارج الوقت أيضا في صورة الاستدبار ممّا لم يتّضح وجهه.

وربّما ذكروا له بعض التوجيهات التي لا ينبغي الالتفات إليها في مقابل ما سمعت ، أقواها : الاستشهاد له برواية معمر بن يحيى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل صلّى على غير القبلة ثمّ تبيّن له القبلة وقد دخل وقت صلاة أخرى ، قال : «يصلّيها قبل أن يصلّي [هذه] التي قد دخل وقتها إلّا أن يخاف فوت التي دخل وقتها» (٣).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٦٠ ، الهامش (٣).

(٢) لاحظ الهامش (٢) من ص ١٦٨.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٦ ـ ٤٧ / ١٥٠ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ / ١٠٩٩ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، ح ٥ ، وفيه بدون الذيل ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٧١

وقوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار ، المتقدّمة (١) : «وإن كان متوجّها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة».

وعن النهاية أنّه وردت رواية بأنّه إذا صلّى إلى استدبار القبلة ثمّ علم بعد خروج الوقت ، وجب إعادة الصلاة (٢).

وفي الجميع ما لا يخفى.

أمّا رواية معمر : فهي مع ضعف سندها لا تختصّ بصورة الاستدبار كي تصلح شاهدة لتقييد الأخبار المتقدّمة بغير هذه الصورة ، فهي معارضة لتلك الأخبار ، ولا تصلح للمكافئة ، مع إمكان ارتكاب التأويل فيها بإرادة وقت العصر والعشاء من الصلاة الأخرى لا مطلقها ، أو الاستحباب ، كما يؤيّدهما عدم وجوب ترتّب الحاضرة على الفائتة على الأظهر.

وما قد يتوهّم من أنّ قيام الإجماع ونحوه على عدم وجوب الإعادة بعد خروج الوقت في غير الاستدبار يجعلها بحكم الخاصّ المطلق ، فيخصّص بها الأخبار المطلقة ، مدفوع بعد الغضّ عمّا أشرنا إليه من عدم انحصار تأويلها في إرادة الاستدبار بالخصوص حتّى يكون الإجماع كاشفا عن إرادته بالخصوص : أنّ ورود تخصيص على أحد العامّين بدليل منفصل ـ كإجماع ونحوه ـ لا يجعله بحكم الخاصّ المطلق في تخصيص الآخر به كي يرتفع بذلك التعارض ، بل العبرة في مقام التعارض بظاهر كلّ من الدليلين من حيث هو مع قطع النظر عن

__________________

(١) في ص ٣١ و ١٦٢.

(٢) النهاية : ٦٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ١٠.

١٧٢

المخصّصات المنفصلة ، كما تقرّر في محلّه ، فرواية معمر على تقدير صحّة سندها وعدم قبولها للتأويل يتعيّن طرحها ؛ لأجل المعارضة.

ولكنّك عرفت أنّها لا تأبى عن التأويل الغير المنافي للأخبار المتقدّمة.

وأمّا موثّقة عمّار : فمع الغضّ عن أنّ المتبادر منها إرادة ما هو المتعارف من إتيان الصلاة في سعة الوقت أو في خارجه ، وفرض وقوعها في آخر الوقت بحيث لم يبق من الوقت بعد قطعها مقدار إعادتها ولو بأداء ركعة فرض نادر ينصرف عنه الإطلاق ، وعلى تقدير عدم الانصراف يتعيّن صرفه بقرينة ما عرفت : أنّ المنساق إلى الذهن من الشرطيّتين المتتابعتين كون الثانية تعبيرا عمّا يفهم من الأولى ، فموضوعها نقيض ما هو المذكور في الأولى ، فالمراد بدبر القبلة بقرينة المقابلة ما كان خارجا عمّا بين المشرق والمغرب. وتخصيص الاستدبار بالذكر للجري مجرى العادة في مقام التعبير ، لا لإرادته بالخصوص.

وأمّا المرسلة : ففي غاية الضعف ؛ فإنّها من أضعف أنحاء الإرسال ؛ لكونها نقلا لمضمون رواية مجهولة العين ، فيحتمل قويّا كونها نقل مضمون موثّقة عمّار بحسب ما أدّى إليه نظر الناقل.

بقي في المقام إشكال ، وهو : أنّه إن كانت الصلاة الواقعة بلا استقبال صحيحة في الواقع ، فلا مقتضي لإعادتها في الوقت ، وإلّا وجب الخروج عن عهدتها في خارج الوقت أيضا.

وربّما يتفصّى عن ذلك بأنّ شرط الصلاة إنّما هو استقبال ما يراه قبلة بحسب ظنّه ، سواء طابق الواقع أم لا ، لكن بشرط عدم انكشاف الخلاف قبل

١٧٣

خروج الوقت.

وفيه نظر ؛ إذ الظاهر أنّ اعتبار الظنّ في المقام من باب الطريقيّة إلى الواقع ، لا الموضوعيّة كي يتوجّه به ما ذكر ، كما لا يخفى على من لاحظ دليله.

فالأولى أن يقال في حلّ الإشكال بعد الغضّ عن أنّ هذه أحكام توقيفيّة لا إحاطة لنا بالخصوصيّات المقتضية لها حتّى يتطرّق فيها مثل هذا الإشكال خصوصا بعد الالتفات إلى أنّ نظير المقام في الشرعيّات غير عزيز : إنّ مطلوبيّة الصلاة ووجوبها على ما يستفاد من الأدلّة الشرعيّة إنّما هو من قبيل تعدّد المطلوب ، فمتى أتى بها في أوّل الوقت فاقدة لبعض

شرائطها الاختياريّة وتمكّن من إعادتها بحيث لا يختلّ شي‌ء من شرائطها ، جاز بقاء الأمر المتعلّق بأكمل الأفراد الذي تعلّق به التكليف مع الإمكان ، وأمّا إن تعذّر عليه ذلك بأن لم يتمكّن من إعادتها إلّا فاقدة لهذا الشرط أو لمثله أو لما هو أهمّ منه في نظر الشارع ، فلا مقتضي لإعادتها ، فالصلاة الواقعة في خارج الوقت وإن صادفت القبلة ولكنّها أنقص ممّا أتى به في الوقت ؛ لأنّ خصوصيّة الوقت أهمّ لدى الشارع من رعاية الاستقبال ، كما يظهر ذلك في مقام دوران الأمر بين ترك أحد الأمرين ، فالصلاة الناقصة المأتيّ بها في الوقت فاسدة على تقدير تمكّن المكلّف من إيجادها في ضمن فرد كامل ، وإلّا فهي في حدّ ذاتها أكمل ممّا يأتي به في خارج الوقت ، فلا مقتضي للأمر بإعادتها.

وإن شئت قلت : شرطيّة الاستقبال مخصوصة بحال التمكّن ، فالمعتقد للخلاف أو الظانّ به الذي تكليفه العمل بظنّه غير متمكّن من ذلك ، لكن يعتبر في

١٧٤

سقوط الشرطيّة استيعاب العذر وعدم زوال جهله مادام الوقت باقيا ، كما هو الأصل في كلّ تكليف اضطراريّ لم يدلّ دليل خاصّ على خلافه.

(فإن تبيّن الخلل وهو في الصلاة ، فإنّه يستأنف) مع سعة الوقت (على كلّ حال ، إلّا أن يكون منحرفا يسيرا) أي فيما بين المشرق والمغرب (فإنّه يستقيم) ويمضي في صلاته (ولا إعادة) عليه.

كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى إمكان استفادته من إطلاق الأدلّة التي قد أشرنا إلى أنّه يستفاد من مجموعها ـ بعد ردّ بعضها إلى بعض والجمع بينها وبين غيرها من الأدلّة المتقدّمة عند البحث عن جهة القبلة ـ أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لمن لم يتمكّن من تشخيصها في جهة أضيق من ذلك ولو لغفلته حال الصلاة أو اعتقاده للخلاف ولو ظنّا يصحّ له التعويل عليه ، لا مطلقا ، وأنّ الصلاة إلى غير القبلة باطلة ، فيستفاد من ذلك هذا التفصيل حيث إنّ ما صدر منه خطأ صادف القبلة الاضطراريّة ، وبعد الالتفات واستبانة الخطأ يتبدّل تكليفه ، فيستقيم ويمضي في صلاته على إشكال بالنظر إلى أنّ التذكّر لو لا الأدلّة الخاصّة كما يأتي التكلّم فيه في نظائر المقام في أحكام الخلل إن شاء الله ـ خصوص موثّقة عمّار ـ التي هي نصّ في المدّعى ـ ورواية القاسم بن الوليد ، المتقدّمتين في صدر المبحث (١).

ولو ضاق الوقت عن الاستئناف ولو بأداء ركعة ، استقام ومضى في صلاته حتّى مع الاستدبار ، لكن بشرط أن يكون المضيّ في الصلاة موجبا لإدراك الوقت

__________________

(١) في ص ١٦٢.

١٧٥

ولو بركعة حيث يدور الأمر حينئذ بين الإخلال بالوقت أو القبلة ، وقد أشرنا آنفا إلى اختصاص شرطيّة الاستقبال بصورة التمكّن منه مع رعاية الوقت ، فهي في غير مثل الفرض ، فما صدر منه قبل استبانة الخطأ وقع صحيحا ؛ لأنّه كان معذورا حال الفعل من الاستقبال ، وقد استوعب عذره الوقت حيث لا يتمكّن من إعادته أداء ، فعليه المضيّ في صلاته وإن استلزم ذلك فوات الاستقبال فيما بقي منها أيضا فضلا عن رعايته بالنسبة إلى زمان التذكّر والانحراف إلى القبلة.

وما في موثّقة عمّار من إطلاق الأمر بقطع الصلاة في صورة الاستدبار منصرف أو مصروف إلى غير مثل الفرض ؛ جمعا بين الأدلّة.

ولكنّ الاحتياط بالإتمام والإعادة في خارج الوقت ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

واعلم أنّه قد يتراءى من تخصيص الأصحاب عنوان الموضوع في الفروع المتقدّمة بمن صلّى بظنّ القبلة : اختصاص الأحكام المتقدّمة لديهم بالظانّ ، دون الغافل عن رعاية القبلة أو المعتقد للخلاف.

ولكنّ الظاهر عدم إرادتهم الاختصاص ، وتعبيرهم بالظانّ إمّا للجري مجرى الغالب من عدم الخطأ إلّا مع الظنّ ، أو لغلبة وقوع التعبير عن مطلق الاعتقاد المخالف للواقع بالظنّ.

وكيف كان فالأظهر عدم اختصاص شي‌ء من الفروع بخصوص الظانّ ، بل تعمّ مطلق من صلّى لغير القبلة لا عن عمد وما بحكمه ، كالمتسامح في تشخيصها بحسب ما يقتضيه تكليفه ، أو الجاهل بالحكم ، أي بشرطيّة الاستقبال للصلاة ، فلا

١٧٦

فرق بين ما لو ظنّ بالقبلة ظنّا جاز له التعويل عليه ، أو غفل عن مراعاتها ، أو اعتقد اعتقادا جزميّا بأنّ الجهة التي يصلّي إليها قبلة على سبيل الجهل المركّب أو على سبيل الغفلة والاشتباه ، كما أنّه ربما يعلم بجهة القبلة واقعا ولكن حين الصلاة يشتبه عليه الأمر ، فيتوهّم كون جهة هي القبلة بواسطة بعض المناسبات المغروسة في ذهنه ، فيصلّي في المسجد ـ مثلا ـ إلى عكس المحراب ، لا لخطئه في التشخيص ، بل لخطور كون هذه الجهة قبلة في ذهنه واشتغال قلبه بالعوائق المانعة عن الالتفات إلى مخالفته للواقع ، ففي جميع هذه الفروض لو تبيّن خطؤه بعد الفراغ من الصلاة وكان الانحراف يسيرا ـ أي فيما بين المشرق والمغرب ـ لم يعد الصلاة ، ولو كان كثيرا ، أعادها في الوقت ، لا في خارجه ، ولو تبيّن في الأثناء ، استقام ومضى في صلاته على التقدير الأوّل ، واستأنفها على الثاني ، كما عرفت.

أمّا ما عدا الصورة الثانية ـ أي الانحراف الكثير المتبيّن بعد الصلاة ـ :فواضح ؛ فإنّ مقتضى إطلاق الأخبار الدالّة على صحّة الصلاة الواقعة فيما بين المشرق والمغرب خصوصا الصحيحتين (١) الدالّتين على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة : عدم الفرق بين ما لو صلّى غفلة أو خطأ بزعم كون ما يصلّي إليه قبلة جازما بذلك أو ظانّا ؛ إذ غاية ما ثبت بالأدلّة الخارجيّة تخصيص ما في الصحيحتين بالنسبة إلى من تمكّن حال الصلاة من تشخيص سمت الكعبة في أقلّ من ذلك ولم يكن معذورا في تركه ، كما في جميع هذه الصور.

وأمّا الصورة الثانية ـ أي الانحراف الكثير ـ : فالحكم أيضا ما عرفت من

__________________

(١) تقدّمتا في ص ٨٣ و ٨٧.

١٧٧

الإعادة في الوقت ، لا في خارجه ، لإطلاق بعض الأخبار المتقدّمة الدالّة عليه.

نعم ، ربما ينسبق إلى الذهن من أغلب تلك الأخبار إرادة الملتفت الذي اشتبه عليه القبلة حال الصلاة بواسطة الغيم أو العمى ، فصلّى بحسب ما يقتضيه تكليفه ، فانكشف بعد الصلاة في الوقت أو في خارجه خطؤه.

ولكن هذا لا يقتضي اختصاص الحكم به.

وقوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار المفصّلة بين الوقت وخارجه بعد أن نفى الإعادة في خارج الوقت : «فحسبه اجتهاده» (١) لا يدلّ على ثبوتها مطلقا عند ترك الاجتهاد حتّى مع الغفلة أو الخطأ في الاعتقاد ، وإنّما يستشعر منه عدم معذوريّته على تقدير المسامحة وترك الاجتهاد مع الالتفات ـ كما هو المنساق من مورده ـ لا مطلقا.

فما حكي عن بعض ـ من الاستشكال في حكم الناسي ـ أي الغافل عن مراعاة القبلة ـ أو القول بوجوب الإعادة في خارج الوقت أيضا ؛ معلّلا ذلك بأنّ النسيان مستند إلى التقصير ، بخلاف الظانّ (٢) ـ لا يخلو عن نظر.

اللهمّ إلّا أن يريد بذلك ناسي الحكم ، لا الغافل عن الموضوع ؛ فإنّ المتّجه إلحاق ناسي الحكم بجاهله في بطلان صلاته مطلقا ولو مع الانحراف اليسير حتّى مع القصور فضلا عن التقصير ؛ فإنّ القصور يجعله معذورا من حيث المؤاخذة ، لا من حيث الإعادة بعد العلم والالتفات.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٦٩ ، الهامش (٤).

(٢) المحقّق في المعتبر ٢ : ٧٤ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٨٩ ، المسألة ٣٣ ، وحكاه عنهما الشهيد في الذكرى ٣ : ١٨١.

١٧٨

وربما يظهر من بعض (١) إلحاق جاهل الحكم بجاهل الموضوع فيما لو كان الانحراف يسيرا ؛ نظرا إلى إطلاق قوله عليه‌السلام : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢) المقتصر في تخصيصه على العالم العامد.

وفيه : ما عرفت في محلّه من أنّ هذا لمن لم يعلم بجهة الكعبة بل ولم يتمكّن من تشخيصها ، لا لمن علم بها أو تمكّن من تشخيصها ولكن لم يستقبلها لجهله بالحكم الشرعي.

وأضعف من ذلك ما عن بعض من إلحاق جاهل الحكم مطلقا ـ حتّى في صورة الانحراف الكثير ـ بالظانّ ؛ لإطلاق الأدلّة (٣).

وفيه ـ بعد الغضّ عن عدم إمكان اختصاص الحكم بالعالمين به ـ : أنّ المتبادر من الأدلّة إنّما هو إرادة جاهل الموضوع ، لا الجاهل بالحكم.

نعم ، لو اقترن جهله بالحكم بالجهل بالموضوع بحيث جاز استناد صلاته إلى غير القبلة إلى جهله بالقبلة ، أمكن الالتزام بجريان التفاصيل المتقدّمة في حقّه على تقدير عدم كونه في الواقع متمكّنا من تشخيصها ، كما يأتي تمام الكلام في مثل هذا الفرع في أحكام الخلل إن شاء الله.

وربما عكس بعض (٤) ، فألحق ما عدا الظانّ عند تبيّن الانحراف الكثير بالعالم العامد في وجوب الإعادة في الوقت وفي خارجه بدعوى أنّ المتبادر من

__________________

(١) راجع : الذكرى ٣ : ١٨١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٨٤ ، الهامش (٢).

(٣) حكاه عن بعضهم صاحب الجواهر فيها ٨ : ٣٦.

(٤) لم نتحقّقه.

١٧٩

الأدلّة المفصّلة بين الوقت وخارجه ليس إلّا إرادة الحكم فيما لو صلّى بظنّه الاجتهادي الذي كان مأمورا بالتعويل عليه ، دون الغافل أو المعتقد للخلاف الذي توهّم كونه مأمورا بالصلاة إلى الجهة التي اعتقد كونها قبلة.

وفيه : ما أشرنا إليه من أنّ دعوى الانصراف بالنسبة إلى أغلب تلك الأخبار وإن لا تخلو عن وجه لكن بالنسبة إلى بعضها ـ كصحيحة عبد الرحمن وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) ـ غير مسموعة.

وعن الشيخ الاستدلال لإلحاق ناسي الاستقبال بالظانّ بحديث «رفع الخطأ والسهو والنسيان» (٢).

وفيه ـ بعد الغضّ عن بعض المناقشات الواردة على الاستشهاد بهذا الحديث لنفي شرطيّة المنسيّ ، المذكورة في محلّها ـ : أنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الوقت والطهور والقبلة والركوع والسجود» (٣) حاكم على هذا الحديث ؛ فإنّ مورده السهو ، ضرورة عدم اختصاص الإخلال العمدي بهذه الخمسة ، فلا يعارضه عموم حديث «رفع الخطأ» كما لا يخفى.

المسألة (الثالثة : إذا اجتهد لصلاة) فميّز جهة القبلة بأمارة ظنّيّة (وقد دخل وقت صلاة أخرى ، فإن تجدّد عنده شكّ) بأن ظهر ضعف مستنده أو

__________________

(١) تقدّم تخريجهما في ص ١٦٠ ، الهامش (١) و ١٧٠ ، الهامش (٢).

(٢) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤ ، الخصال : ٤١٧ / ٩ ، الفقيه ١ : ٣٦ / ١٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٢ ، والباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٥٣.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ١٤٧ ، الهامش (٣).

١٨٠