مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

لا طريق لتشخيص موضوعه الأغلب الناس في بلد وردت فيه الروايات إلّا هذا.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في جواز الاعتماد على قول الموثوقين بهم من التجّار في تشخيص موضوع الخزّ ، ولا الاستشكال في جريان الحكم فيما يسمّى بالخزّ في هذا الزمان.

ولكن عن المحدّث المجلسي في البحار ـ بعد كلام في المقام ـ أنّه قال : إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ في جواز الصلاة في الجلد المشهور في هذا الزمان بالخزّ وشعره ووبره إشكالا ؛ للشكّ في أنّه هل هو الخزّ المحكوم عليه بالجواز في عصر الأئمّة عليهم‌السلام أم لا ، بل الظاهر أنّه غيره ؛ لأنّه يظهر من الأخبار أنّه مثل السمك يموت بخروجه من الماء ، وذكاته إخراجه [منه] (١) ، والمعروف بين التجّار أنّ الخزّ المعروف الآن دابّة تعيش في البرّ ولا تموت بالخروج من الماء ، إلّا أن يقال : إنّهما صنفان : برّيّ وبحريّ ، وكلاهما تجوز الصلاة فيه. وهو بعيد. ويشكل التمسّك بعدم النقل واتّصال العرف من [زماننا إلى] (٢) زمانهم عليهم‌السلام ـ والقدح في الأخبار بالضعف (٣) ـ إذ اتّصال العرف غير معلوم ؛ إذ وقع الخلاف في حقيقته في أعصار علمائنا السالفين أيضا ، رضوان الله عليهم. وكون أصل (٤) عدم النقل في ذلك حجّة في محلّ المنع ، فالاحتياط (٥) في عدم الصلاة فيه (٦). انتهى.

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) جملة : «والقدح .. بالضعف» كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وهي لم ترد في المصدر.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الأصل». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «والاحتياط». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٦) بحار الأنوار ٨٣ : ٢٢٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٧ ـ ٦٨.

٢٦١

أقول : أمّا الاحتياط بترك الصلاة فيه : ففي محلّه ، ولكن منع حجّيّة أصالة عدم النقل في غير محلّه ؛ إذ ليس حاله إلّا حال سائر الموضوعات التي يحتمل كونها في عرف السابقين موضوعة لغير المعاني المعروفة عندنا ، وهذا الاحتمال ممّا لا يلتفت إليه. واختلاف العلماء في حقيقته نشأ من عدم اطّلاعهم على حقيقة ذلك الحيوان الذي يعرفه أهل خبرته ويتّخذون الثياب من جلده ووبره ، فبعضهم زعم أنّه القندس ، مستشهدا لذلك بشهادة بعض التجّار بذلك ، وبعضهم زعم أنّه كلب الماء ، كما

يشهد له بعض الأخبار المتقدّمة وغيرها ، وبعض تخيّل أنّه ما يسمّى في عرفهم بوبر السمك ، إلى غير ذلك.

قال الشيخ فخر الدين ابن طريح النجفي ـ طاب ثراه ـ في كتاب مجمع البحرين : الخزّ بتشديد الزاي : دابّة من دوابّ الماء تمشي على أربع تشبه الثعلب ترعى من البرّ ، وتنزل البحر ، لها وبر يعمل منه الثياب ، تعيش بالماء ولا تعيش خارجه ، وليس على حدّ الحيتان ، وذكاتها إخراجها من الماء حيّة. قيل : وقد كانت في أوّل الإسلام إلى وسطه كثيرة جدّا (١). انتهى.

وعن السرائر أنّه قال بعض أصحابنا المصنّفين : إنّ الخزّ دابّة صغيرة تطلع من البحر تشبه الثعالب ترعى في البرّ ، وتنزل البحر ، لها وبر يعمل منه ثياب. ثمّ قال فيها : وكثير من أصحابنا [المحقّقين] (٢) المسافرين يقول : إنّه القندس. ولا يبعد هذا القول من الصواب ؛ لقوله عليه‌السلام : «لا بأس بالصلاة في الخزّ ما لم يكن

__________________

(١) مجمع البحرين ٤ : ١٨ «خزز».

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

٢٦٢

مغشوشا بوبر الأرانب والثعالب» (١) والقندس أشدّ شبها بالوبرين المذكورين (٢). انتهى.

وقال المصنّف رحمه‌الله في محكيّ المعتبر : والخزّ دابّة بحريّة ذات أربع تصاد من الماء ، وتموت بفقده.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله أحلّه وجعل ذكاته موته كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها» (٣) كذا روى محمّد بن سليمان الديلمي عن فريت (٤) عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وعندي في هذه الرواية توقّف ؛ لضعف محمّد بن سليمان ، ومخالفتها لما اتّفقوا عليه من أنّه لا يؤكل من حيوان البحر إلّا السمك ، ولا من السمك إلّا ما له فلس ، وحدّثني جماعة من التجّار أنّها القندس ، ولم أتحقّقه (٥). انتهى.

وعن الشهيد في الذكرى أنّه قال ـ بعد نقل ما ذكره المحقّق من التوقّف ـ : قلت : مضمونها مشهور بين الأصحاب ، فلا يضرّ ضعف الطريق ، والحكم بحلّه جاز أن يستند إلى حلّ استعماله في الصلاة وإن لم يذكّ كما أحلّ الحيتان بخروجها من الماء حيّة ، فهو تشبيه للحلّ بالحلّ ، لا في جنس الحلال.

ثمّ قال : قلت : لعلّه ما يسمّى في زماننا بمصر : وبر السمك ، وهو مشهور

__________________

(١) ورد ما بمعناه في الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٦ ، وعلل الشرائع : ٣٥٧ (الباب ٧١) ح ٢ ، والتهذيب ٢ : ٢١٢ / ٨٣٠ و ٨٣١ ، وعنها في الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المصلّي ، ح ١.

(٢) السرائر ٣ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٣٤.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٥ ، الهامش (١).

(٤) في «ض ١٢» والمعتبر والحدائق الناضرة وبعض نسخ الكافي : «قريب» بدل «فريت».

(٥) المعتبر ٢ : ٨٤ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٥.

٢٦٣

هناك ، ومن الناس من يزعم أنّه كلب الماء ، وعلى هذا يشكل ذكاته بدون الذبح ؛ لأنّ الظاهر أنّه ذو نفس سائلة ، والله أعلم (١). انتهى.

وعنه في حواشي القواعد ، قال : سمعت بعض مدمني السفر يقول : إنّ الخزّ هو القندس. وقال : وهو قسمان : ذو ألية ، وذو ذنب ، فذو الألية الخزّ ، وذو الذنب الكلب (٢). انتهى.

أقول : لم يتّضح لدينا المخالفة بين جلّ هذه الكلمات من حيث المفاد ؛ لإمكان أن يكون ما سمّوه بالقندس هو الذي سمّاه آخرون بكلب الماء ، وشبّهه ثالث بالثعلب ، وعن بعضهم التصريح بأنّ القندس هو كلب الماء.

وكيف كان فلا يقدح هذا النحو من الاختلاف في حجّيّة أصالة عدم النقل ، ولا في جواز التعويل في تشخيصه على إخبار أهل خبرته أو شهادتهم بذلك.

وأمّا ما حكاه المجلسي عن التجّار ـ من أنّها دابّة تعيش في البرّ ولا تموت بالخروج من الماء (٣) ـ فربما يؤيّده خبر حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام من أنّه «سبع يرعى في البرّ ويأوى الماء» (٤).

ولكن قد ينافيه خبر ابن أبي يعفور ، المتقدّم (٥) الدالّ على أنّه دابّة إذا فقدت الماء ماتت ، وأنّ ذكاته خروجه من الماء كالحيتان ، وصحيحة عبد الرحمن بن

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٣٦ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ١٩١ ، وكذا العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٣٤.

(٣) تقدّمت عبارته في ص ٢٦١.

(٤) التهذيب ٩ : ٤٩ ـ ٥٠ ، ذيل ح ٢٠٥ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٢.

(٥) في ص ٢٥٥.

٢٦٤

الحجّاج ، المتقدّمة (١) التي وقع فيها تعليق نفي البأس عنها ـ على تقدير كونها كلابا تخرج من الماء ، كما زعمه السائل ـ بعدم تعيّشها خارجة من الماء ، فلعلّه أريد بعدم تعيّشها خارج الماء مدّة طويلة بحيث لا ينافي خروجها من الماء للرعي. ويحتمل أن يكون هذا من خواصّ صنف منه كان متعارفا في بلد السائل. ولم يظهر من الروايتين كونه من الخواصّ اللازمة لنوعه على الإطلاق ، فليتأمّل.

والحاصل : أنّ ما شهد به التجّار على تقدير ثبوته لا يكشف عن أنّ الدابّة التي كانت معروفة بالخزّ في عصرهم مغايرة بالنوع لما كان مسمّى بالخزّ في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، بل هو منطبق على ما أخبر به أبو جعفر عليه‌السلام في الخبر المتقدّم (٢).

نعم ، بناء على أنّه يعيش في البرّ يشكل الالتزام بكون ذكاته خروجه من الماء ؛ لأنّ مستند هذا الحكم خبر ابن أبي يعفور (٣) ، الظاهر في سببيّة خروجه من الماء لموته وعدم تعيّشه عند فقد الماء ، فعلى تقدير كونه كذلك مطلقا أو خصوص صنف منه أمكن الالتزام به فيه ، وإلّا فلا يخلو عن إشكال ، اللهمّ إلّا أن لا يكون ذا نفس ، ولا ينافيه كونه بصورة الكلب ، والله العالم.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه لو قلنا بأنّ الخزّ من كلاب الماء كما ربما يشهد به غير واحد من الأخبار ، لا يلزم من ذلك القول بجواز الصلاة في مطلق كلب الماء ؛ إذ لم يدلّ دليل على أنّ مطلقه خزّ ، فلعلّه صنف منه ، كما ليس بالبعيد ، والله العالم.

(وفي المغشوش منه بوبر الأرانب والثعالب روايتان ، أصحّهما :

__________________

(١) في ص ٢٥٧.

(٢) أي خبر حمران بن أعين ، المتقدّم في ص ٢٦٤.

(٣) المتقدّم في ص ٢٥٥.

٢٦٥

المنع).

أمّا رواية المنع : فهي مرفوعة أحمد بن محمّد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الخزّ الخالص «أنّه لا بأس به ، فأمّا الذي يخلط فيه وبر الأرانب أو غير ذلك ممّا يشبه هذا فلا تصلّ فيه» (١).

ومرفوعة أيّوب بن نوح ـ المرويّة عن العلل ـ قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الخزّ الخالص : «لا بأس به ، وأمّا الذي يخلط فيه الأرانب أو غيرها ممّا يشبه هذا فلا تصلّ فيه» (٢).

ويؤيّدهما الأخبار العامّة الدالّة على المنع عن الصلاة في غير المأكول مطلقا ، والأخبار الخاصّة الآتية الدالّة على المنع في الأرانب والثعالب.

ويؤيّدهما أيضا ما عن الفقه الرضوي : «وصلّ في الخزّ إذا لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب» (٣).

وأمّا ما دلّ على الجواز : فهو رواية داود الصرمي عن بشير بن يسار (٤) على ما عن موضع من التهذيب (٥) ـ قال : سألته عن الصلاة في الخزّ يغشّ بوبر الأرانب ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٦ ، التهذيب ٢ : ٢١٢ / ٨٣٠ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٩ من أبواب لباس المصلّي ، ذيل ، ح ٩.

(٢) علل الشرائع ، ٣٥٧ (الباب ٧١) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب لباس المصلّي ، ذيل ح ١.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «بشّار». والمثبت كما في الاستبصار.

(٥) كما في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٤ ، وفي التهذيب ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٣ / ٨٣٣ عن داود الصرمي بلا واسطة بشير بن يسار.

٢٦٦

فكتب «يجوز ذلك» (١).

وعن موضع آخر من التهذيب ـ وكذلك الفقيه ـ عن داود الصرمي ، قال : سأل رجل أبا الحسن الثالث عليه‌السلام (٢) ، الحديث.

وقد نسبه الشيخ ـ على ما حكي عنه ـ في التهذيبين إلى الشذوذ واختلاف اللفظ في السائل والمسؤول ، ثمّ حمله على التقيّة (٣).

أقول : ويدلّ عليه أيضا التوقيع المتقدّم (٤) المرويّ عن الاحتجاج ، الذي وقع فيه السؤال عن الخزّ المغشوش بوبر الأرانب ، حيث ورد فيه روايتان متعارضتان ، فأجاب عليه‌السلام «إنّما حرم في هذه الأوبار والجلود ، فأمّا الأوبار وحدها فحلال كلّها».

ويؤيّدهما بعض الأخبار الآتية النافية للبأس عن الصلاة في وبر الأرانب والثعالب.

ولكنّ الأشبه حمل المؤيّد والمؤيّد بأسرها على التقيّة ؛ لمخالفتها للمشهور ، وموافقتها للجمهور ، بل عن جملة من أصحابنا دعوى الإجماع على المنع ، ولم ينقل القول بالجواز عن أحد ، عدا الصدوق في الفقيه حيث قال في توجيه رواية الجواز : هذه رخصة ، الآخذ بها مأجور ، ورادّها مأثوم ، والأصل ما

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٨٧ / ١٤٧١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢١٣ / ٨٣٤ ، الفقيه ١ : ١٧٠ ـ ١٧١ / ٨٠٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب لباس المصلّي ، ذيل ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٢١٣ ، ذيل ح ٨٣٤ ، الاستبصار ١ : ٣٨٧ ، ذيل ح ١٤٧١ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٤.

(٤) في ص ٢٥٩.

٢٦٧

ذكره أبي في رسالته إليّ : وصلّ في الخزّ ما لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب (١).

انتهى.

وبحكم المغشوش بوبر الأرانب المغشوش بصوف أو وبر غير الأرانب ممّا لا يؤكل لحمه ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل ، الشامل لمثل المقام ـ خصوص قوله عليه‌السلام في المرفوعتين المتقدّمتين (٢) وغير ذلك : «أو غيرها ممّا يشبه هذا».

المسألة (الثالثة : تجوز الصلاة في فرو السنجاب) كما عن الشيخ في المبسوط ، وكتاب الصلاة من النهاية (٣) ، وأكثر المتأخّرين (٤) ، بل المشهور فيما بينهم ، بل عن المبسوط نفي الخلاف عنه وعن الحواصل (٥) (فإنّه) قد تكاثرت الروايات الدالّة عليه ، وقد علّل ذلك في بعض تلك الروايات بأنّه (لا يأكل اللحم) كما في ذيل خبر عليّ بن [أبي] (٦) حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم ، قال : «لا بأس بالسنجاب فإنّه دابّة لا تأكل اللحم ، وليس هو ممّا نهى [عنه] (٧) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب» (٨).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧١.

(٢) في ص ٢٦٦.

(٣) المبسوط ١ : ٨٢ ـ ٨٣ ، النهاية : ٩٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٨.

(٤) حكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٨.

(٥) المبسوط ١ : ٨٢ ـ ٨٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٨.

(٦) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٧) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٨) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٢ ، الهامش (١).

٢٦٨

وفي أغلب النسخ : قال : قلت : و «ما يؤكل لحمه من غير الغنم» (١) بإسقاط كلمة «لا». ولعلّه من سهو القلم.

وخبر مقاتل بن مقاتل ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في السمّور والسنجاب والثعالب (٢) ، فقال : «لا خير في ذلك كلّه ما خلا السنجاب ، فإنّه دابّة لا تأكل اللحم» (٣).

وقضيّة العلّة المنصوصة : جواز الصلاة في كلّ ما لا يأكل اللحم ، أي ما عدا السباع.

ولكنّك عرفت في صدر المبحث أنّه يشكل الالتزام به ، فلا بدّ من حملها على التعبّد بها في خصوص موردها.

وممّا يدلّ أيضا على الجواز صحيحة أبي عليّ ابن راشد ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الفراء أيّ شي‌ء يصلّى فيه؟ قال : «أيّ الفراء؟» قلت :الفنك والسنجاب والسمّور ، قال : «فصلّ في الفنك والسنجاب ، وأمّا السمّور فلا تصلّ فيه» قلت : الثعالب يصلّى فيها؟ قال : «لا ، ولكن تلبس بعد الصلاة» قلت :أيصلّى في الثوب الذي يليه؟ قال : «لا» (٤).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الفراء والسمّور و

__________________

(١) كما في الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٣.

(٢) في الكافي : «الثعلب».

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٢ ، الهامش (٤).

(٤) الكافي ٣ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ / ١٤ ، التهذيب ٢ : ٢١٠ / ٨٢٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ / ١٤٥٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥ ، والباب ٧ من تلك الأبواب ، ح ٤ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

٢٦٩

السنجاب والثعالب وأشباهه ، قال : «لا بأس بالصلاة فيه» (١).

وخبر الوليد بن أبان ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : أصلّي في الفنك والسنجاب؟ قال : «نعم» قلت : يصلّى في الثعالب إذا كانت ذكيّة؟ قال : «لا تصلّ فيها» (٢).

ورواية بشير بن بشار (٣) ، قال : سألته عن الصلاة في الفنك والفراء والسنجاب والسمّور والحواصل (٤) التي تصاد ببلاد الشرك أو بلاد الإسلام أن أصلّي فيه لغير تقيّة ، قال : فقال : «صلّ في السنجاب والحواصل الخوارزميّة ، ولا تصلّ في الثعالب ولا السمّور» (٥).

ورواية يحيى بن أبي عمران ، قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في السنجاب والفنك والخزّ ، وقلت : جعلت فداك أحبّ أن لا تجيبني بالتقيّة في ذلك ، فكتب بخطّه إليّ «صلّ فيها» (٦).

وخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن لبس السمّور والسنجاب والفنك ، فقال : «لا يلبس ولا يصلّى (٧)

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٠ ، الهامش (٤).

(٢) التهذيب ٢ : ٢٠٧ / ٨١١ ، الاستبصار ١ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ١٤٥٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧ ، والباب ٧ من تلك الأبواب ، ح ٧.

(٣) في الاستبصار : «يسار» بدل «بشار».

(٤) الحواصل جمع حوصل ، وهو طائر كبير له حوصلة عظيمة يتّخذ منه الفرو. حياة الحيوان ١ : ٣٨٨.

(٥) التهذيب ٢ : ٢١٠ / ٨٢٣ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ / ١٤٥٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٤ ، الهامش (٥).

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «لا تلبس ولا تصلّ». وما أثبتناه من المصدر.

٢٧٠

[فيه] إلّا أن يكون ذكيّا» (١) فإنّه يدلّ على الجواز على تقدير كونه مذكّىّ.

والمرويّ عن مكارم الأخلاق مرسلا ، قال : سئل الرضا عليه‌السلام عن جلود الثعالب والسنجاب والسمّور ، فقال : «قد رأيت السنجاب على أبي ، ونهاني عن الثعالب والسمّور» (٢).

ولعلّه أريد بهذه الرواية مجرّد اللّبس ، فيكون النهي عن الأخيرين تنزيهيّا ، فعلى هذا تخرج الرواية عن حدّ الدلالة وإن لا تخلو أيضا عن تأييد ، كما يؤيّده أيضا إطلاق سائر الأخبار الدالّة على جواز لبسه ، بل يمكن الاستشهاد بها ؛ للملازمة العاديّة بين لبسها والصلاة فيها.

ولا يعارض هذه الروايات الأخبار الدالّة بعمومها على المنع عمّا لا يؤكل لحمه ؛ لأنّ هذه الروايات أخصّ مطلقا من الأخبار المانعة.

نعم ، قد يعارضها موثّقة ابن بكير ، المتقدّمة (٣) ، فإنّها وإن كانت أيضا عامّة لكنّها وقعت جوابا عن السؤال عن الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، وحيث جرى ذكر السنجاب بالخصوص في السؤال صار الجواب كالنصّ في إرادته ، فلا يمكن تخصيصه بغيره ، كما أشار إلى ذلك في المدارك حيث قال : إنّ رواية ابن بكير وإن كانت عامّة إلّا أنّ ابتناءها على السبب الخاصّ ـ وهو السنجاب وما ذكر معه ـ يجعلها كالنصّ في المسؤول عنه ، وحينئذ يتحقّق

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٨٢ / ١١١٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) مكارم الأخلاق : ١١٨ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٣) في ص ٢٠٠.

٢٧١

التعارض ، ويصار إلى الترجيح (١). انتهى.

واعترضه في الجواهر بأنّ مثله لا يقدح في التخصيص بالمتّصل قطعا ، فكذا المنفصل خصوصا مع اندراج بعض أفراد السؤال في عموم الجواب (٢).

وفيه : أنّه فرق واضح بين التخصيص بالمتّصل والمنفصل ؛ ضرورة أنّه لو سئل عن إكرام زيد العالم ، فأجيب بأنّه يجب إكرام كلّ عالم ما عدا زيد ، لا حزازة فيه أصلا ، وهذا بخلاف ما لو أجيب بوجوب إكرام كلّ عالم ثمّ دلّ دليل منفصل على أنّ زيدا العالم لا يجوز إكرامه ، فإنّه يتحقّق التنافي بين الدليلين في هذا الفرض ، ولا يجوز الجمع بينهما بتخصيص المورد حيث إنّ العامّ بمنزلة النصّ بالنسبة إلى ما وقع عنه السؤال ، فكيف يقاس الدليل المنفصل بالمخصّص المتّصل الذي هو مع ما اتّصل به ككلمة واحدة!؟.

نعم ، لقائل أن يقول : إنّ سوق السؤال يشهد بأنّ السائل لم يقصد الخصوصيّة ممّا جرى ذكره في كلامه ، وإنّما أورده على سبيل التمثيل ، فأراد بذلك السؤال عن الصلاة في وبر غير المأكول على سبيل العموم ، فأجيب بجواب عامّ من غير التفات إلى خصوصيّات الأمثلة ، فليس خروج السنجاب على هذا التقدير إلّا كخروج الخزّ ونحوه ممّا لا ضير في الالتزام به على تقدير مساعدة الدليل.

هذا ، مع إمكان أن يقال : فرق بين ما لو وقع السؤال عن أشياء عديدة ، فأجيب عن جملتها بجواب عامّ ، كما في المقام ، وبين ما لو سئل عن شي‌ء أو

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٧١.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ١٠٠.

٢٧٢

شيئين بالخصوص ، ففي الثاني لا يجوز تخصيص المورد ، وأمّا الأوّل فلا مانع عنه بالنسبة إلى بعضه إذا بقي أغلب ما وقع عنه السؤال مندرجا تحت عموم الجواب خصوصا مع مناسبة ذلك البعض الخارج للباقي في جنس الحكم ، كما لو كان السنجاب ـ مثلا ـ في الواقع حكمه مخالفا لحكم ما عداه ممّا لا يؤكل لحمه في حرمة الصلاة ولكن كانت الصلاة فيه أيضا مرجوحة ولكن على سبيل الكراهة ، فحينئذ لا يبعد الاكتفاء في جوابه بما يدلّ بظاهره على حرمة الجميع.

والحاصل : أنّ الموثّقة وإن كانت قويّة الدلالة بالنسبة إلى السنجاب وغيره ممّا جرى ذكره في كلام السائل ولكنّها غير آبية عن التخصيص بالأخبار المتقدّمة.

وممّا يؤيّد المنع بل يستدلّ به عليه : ما عن الفقه الرضوي «ولا تجوز الصلاة في سنجاب وسمّور وفنك ، فإذا أردت الصلاة فانزع عنك» (١).

ويردّه ـ مضافا إلى عدم الاعتماد على الرضوي ـ ما عنه بعد قوله : «فانزع عنك» أنّه قال : «وروي (٢) فيه رخصة» (٣) فإنّه ـ مع إشعاره بالرضا بالعمل بهذه الرواية وكون النهي تنزيهيّا إن كان من الإمام عليه‌السلام الذي لا تبتني أحكامه على الترجيحات الاجتهاديّة ـ يتوجّه عليه ما مرّ غير مرّة من أنّ الروايات التي تضمّنها الرضوي أوثق من نفسه ، فهو على خلاف المطلوب أدلّ.

وأضعف من ذلك الاستشهاد بالعبارة المتقدّمة (٤) آنفا من كتاب العلل

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٥٩.

(٢) في المصدر : «وقد أروي».

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٠.

(٤) في ص ٢٥٩.

٢٧٣

لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم من قوله : والعلّة في أن لا يصلّى في السنجاب والسمّور والفنك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدّم ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تصلّ في ثوب ممّا لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه» لما عرفت من أنّه لم يثبت كون هذه العبارة متن الرواية ، بل الظاهر كونها ممّا استنبطه صاحب الكتاب من عموم النبوي.

ويتلوهما في الضعف الاستشهاد برواية أبي حمزة الثمالي ، قال : سأل أبو خالد الكابلي عليّ بن الحسين عليهما‌السلام عن أكل لحم السنجاب والفنك والصلاة فيهما ، قال أبو خالد : إنّ السنجاب يأوي الأشجار ، قال : فقال له : «إن كان له سبلة كسبلة السنّور والفأرة فلا يؤكل لحمه ، ولا تجوز الصلاة فيه» ثمّ قال : «أمّا أنا فلا آكله ولا أحرّمه» (١) فإنّها ضعيفة السند ، وقاصرة الدلالة ؛ إذ لم يعلم مخالفتها للأخبار المتقدّمة الدالّة على الجواز ، حيث إنّ المنع معلّق على أمر غير متحقّق ، بل ربما يستشعر من قوله عليه‌السلام : «أما أنا فلا آكله» إلى آخره : أنّ الواقع خلافه.

وفي الحدائق بعد نقل هذه الرواية قال : وفي اللغة : السبلة ـ بالتحريك ـ الشارب (٢).

ومفهوم هذا الخبر أنّ ما ليس له سبلة فهو حلال أكله ، وتجوز الصلاة فيه.

ويؤيّده قوله عليه‌السلام : «أمّا أنا فلا آكله ولا أحرّمه» بحمل كلامه على ما ليس له سبلة ، بمعنى أنّه حلال على كراهيّة ، وتجوز الصلاة فيه.

والحديث غريب ، والحكم به مشكل ؛ إذ لا أعرف قائلا به ، بل الظاهر

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٥٠ / ٢٠٦ ، الوسائل ، الباب ٤١ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١.

(٢) كما في مجمع البحرين ٥ : ٣٩٢ «سبل».

٢٧٤

الاتّفاق على تحريمه مطلقا وإن استثني جواز الصلاة في جلده ووبره على القول بذلك (١). انتهى.

أقول : يمكن توجيه الرواية على وجه يندفع عنها هذه الغرابة ، ولكن يحتمل قويّا كونها مشوبة بالتقيّة ، فأريد بها الإجمال وعدم التصريح بالحكم الواقعي على سبيل الجزم ، كما هو شأن الإمام عليه‌السلام ، فالأولى ردّ عملها إلى أهله.

فظهر بما ذكر أنّ عمدة ما يصحّ الاستدلال به للمنع هي الموثّقة المتقدّمة (٢) ، وهي أيضا لا تصلح لمعارضة الأخبار الخاصّة ، إلّا أنّ تلك الأخبار بنفسها موقع ريبة ؛ فإنّها على كثرتها قلّما يوجد فيها خبر يمكن الالتزام بظاهره ، فإنّها في غاية الاختلاف بحيث يعارض بعضها بعضا فضلا عن معارضتها لغيرها من الأخبار ـ التي ستسمعها في المباحث الآتية ـ ومخالفة التفاصيل المذكورة فيها للمشهور أو المجمع عليه ؛ فإنّه يظهر من بعضها نفي البأس عن الصلاة في غير المأكول مطلقا ، كصحيحة (٣) الحلبي ، ومن بعضها التفصيل بين السباع وغيرها ، كالخبرين (٤) الأوّلين اللّذين وقع فيهما التصريح بنفي البأس عن خصوص السنجاب معلّلا بأنّه «دابّة لا تأكل اللحم» وفي بعضها (٥) تخصيص الجواز بالفنك والسنجاب ، وفي بعض (٦) بالسنجاب والحواصل الخوارزميّة ، فيغلب على الظنّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ : ٧٣.

(٢) في ص ٢٠٠.

(٣) تقدّمت الصحيحة في ص ٢١٠.

(٤) أي : خبري عليّ بن أبي حمزة ومقاتل بن مقاتل ، المتقدّمين في ص ٢٠١ و ٢٠٢.

(٥) وهو خبر الوليد بن أبان ، المتقدّم في ص ٢٧٠.

(٦) وهو خبر بشير بن بشار ، المتقدّم في ص ٢٧٠.

٢٧٥

أنّ جلّ هذه الأخبار لو لا كلّها لا يخلو عن نوع من التقيّة ، كما يؤيّد ذلك ما يظهر من بعض الأخبار المتقدّمة من كون المسألة ممّا يشتدّ فيه التقيّة.

ولا ينافي ذلك مخالفة التفاصيل ـ التي تضمّنتها الروايات ـ للعامّة حيث حكي عنهم القول بالجواز مطلقا (١) ؛ إذ قد لا تقتضي المصلحة إلّا التقيّة عنهم في بعض الموارد دون بعض ، وهذا ممّا يختلف بحسب ما تقتضيه مصلحة الوقت من حيث ميل حكّامهم وقضاتهم وغير ذلك من المناسبات ، فيشكل على هذا رفع اليد بمثل هذه الروايات عن ظاهر موثّقة (٢) ابن بكير ، التي كادت تكون صريحة في العموم ، ولا يتطرّق فيها شائبة تقيّة.

(و) لذا قد يقوى في النظر ما (قيل) كما عن الشيخ في الخلاف وكتاب الأطعمة من النهاية ، وابن البرّاج والحلّي (٣) وغيرهم من أنّه (لا تجوز. و) لكن مع ذلك (الأوّل) أي القول بالجواز (أظهر) فإنّ حمل هذه الأخبار بأسرها على التقيّة ـ مع اشتمال كثير منها على التفاصيل المنافية للتقيّة ـ في غاية البعد ، خصوصا في رواية بشير ، التي وقع فيها السؤال عن الصلاة في الفنك والفراء والسنجاب والسمّور والحواصل في غير حال التقيّة ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بقوله : «صلّ في السنجاب والحواصل الخوارزميّة ، ولا تصلّ في الثعالب ولا

__________________

(١) حكاه عنهم الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٥١١ ، المسألة ٢٥٦ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٧٠.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

(٣) الخلاف ١ : ٥١١ ، المسألة ٢٥٦ ، النهاية : ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ، أواخر كتاب الصيد والذبائح ، المهذّب ١ : ٧٤ ـ ٧٥ ، و ٢ : ٤٤٢ ، السرائر ١ : ٢٦٢ ، والحاكي عنهم هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٨.

٢٧٦

السمّور» (١).

فالإنصاف أنّ حمل مثل هذه الأخبار ـ التي خصّص فيها الرخصة ببعض دون بعض ـ على التقيّة ـ كرواية بشير ، ومكاتبة (٢) يحيى ، وصحيحة (٣) أبي علي ، ونحوها ـ أبعد من تخصيص الموثّقة ، أو ارتكاب التأويل فيها بالحمل على ما لا ينافي إرادة الكراهة في بعض مصاديقها ، فهذا هو الأولى.

ولا ينافي ذلك عدم الالتزام بظواهر هذه الأخبار في بعض مضامينها ، كالفنك ونحوه ـ كما سيأتي الكلام فيه ـ لأجل الابتلاء بمعارض مكافئ ؛ فإنّ هذا لا يقدح في حجّيّة الخبر بالنسبة إلى سائر فقراتها ، ولا يعيّن وجه صدوره في التقيّة ، بل ربما يكون الخبر المرجوح مطابقا للواقع ، ولكن لا نقول به في مرحلة الظاهر ؛ لأرجحيّة المعارض ، لا للعلم بخلافه ، فليتأمّل.

وحكي عن ابن حمزة القول بالكراهة (٤).

وربما يظهر ذلك من الصدوق في المجالس حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : ولا بأس بالصلاة في شعر ووبر كلّ ما أكل لحمه ، وما لا يؤكل لحمه فلا تجوز الصلاة في شعره ووبره إلّا ما خصّته الرخصة ، وهي الصلاة في السنجاب والسمّور والفنك والخزّ ، والأولى أن لا يصلّى فيها ، ومن صلّى فيها

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٠ ، الهامش (٥).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٥٤ ، الهامش (٥).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٢٦٩ ، الهامش (٤).

(٤) الوسيلة : ٨٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٨.

٢٧٧

جازت صلاته (١).

وربما استظهر منه أيضا في الفقيه حيث قال : وقال أبي في رسالته إليّ :لا بأس بالصلاة في شعر ووبر ما أكلت لحمه ، وإن كان عليك غيره من سنجاب أو سمّور أو فنك وأردت الصلاة فانزعه ، وقد روي فيه رخص (٢).

واستظهر أيضا من عبارة الشيخ في الخلاف ، وسلّار ؛ حيث إنّهما ـ على ما حكي عنهما ـ بعد أن ذكرا المنع ممّا لا يؤكل لحمه قالا : ورويت رخصة في الصلاة في السنجاب والسمّور والفنك (٣).

وفي الاستظهار خصوصا من عبارة الأخيرين تأمّل.

وكيف كان فمستند الحكم بحسب الظاهر هو الجمع بين الأخبار ، ولكن قد يشكل ذلك في السنجاب ؛ حيث إنّ عمدة ما يدلّ على المنع عنه هي موثّقة (٤) ابن بكير ، وحملها على الكراهة في السنجاب والحرمة في غيره يستلزم استعمال اللفظ الدالّ على المنع في معنيين ، وحمله على إرادة مطلق المنع الغير المنافي لإرادة الكراهة في بعض ، والحرمة في غيره في غاية البعد ، ولذا لا يتوقّف أحد في استفادة الحرمة من هذه الموثّقة بالنسبة إلى ما عدا الموارد التي ورد فيها نصّ على الجواز ، فارتكاب التخصيص فيها بالنسبة إلى السنجاب ونظائره أهون من

__________________

(١) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٥١٢ ـ ٥١٣ (المجلس ٩٣) وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٧٠.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٠.

(٣) الخلاف ١ : ٥١١ ، المسألة ٢٥٦ ، المراسم : ٦٤ ، وحكاه عنهما العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٩٣ و ٩٤ ، المسألة ٣٥.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

٢٧٨

هذا التصرّف الذي مقتضاه إجمال الرواية ، وعدم استفادة الحرمة منها في شي‌ء من مواردها إلّا لقرينة منفصلة ، كالكراهة.

ويمكن التفصّي عن ذلك بالالتزام بأنّ قضيّة النهي عن شي‌ء أو الأمر بشي‌ء لو خلّيا وأنفسهما هي : لزوم ترك المنهيّ عنه وفعل المأمور به ، والرخصة في ارتكاب المنهيّ عنه أو ترك المأمور به ـ التي بها يتحقّق مفهوم الكراهة والاستحباب ـ أمر خارج عن ماهيّة طلب الفعل والترك ربّما لا يلتفت الآمر إليها حين إنشاء الطلب ، فطلب الفعل أو الترك ـ الذي هو مدلول صيغة الأمر أو النهي ـ لو بقي محضا غير مقرون بالرخصة في المخالفة ، لم تجز مخالفته ، ولو خلطه الرخصة في المخالفة ، جازت ، فجواز المخالفة ينشأ من الرخصة فيها ، لا من اختلاف كيفيّة الطلب ، فإن أرادها الطالب بدليل منفصل من غير أن يكون طلبه مستعملا إلّا في صرف الأمر بالفعل أو المنع عنه ، لم يرتكب تجوّزا في طلبه ، بل رخصة في مخالفة ما أمره به أونهاه عنه. وإن أرادها من نفس الطلب بأن قصد بأمره بالفعل إظهار محبوبيّته لديه ، وأنّه يريده لا على وجه اللزوم ، فقد تجوّز في الأمر والنهي ، فالطلب الإيجابي أو التحريمي هو الطلب المحض الغير المقرون بالرضا بالمخالفة ، والاستحبابي والكراهي هو الطلب المقرون بذلك ، فما دام الطلب محضا يوصف بالأوّلين ، وعند اختلاطه بالرضا بالمخالفة يوصف بالأخيرين ، فهذه الأوصاف من العوارض اللاحقة لطبيعة الطلب بلحاظ تجرّدها أو اقترانها بالإذن في المخالفة ، فليست الرخصة في مخالفة الأمر أو النهي ـ التي بها يتحقّق موضوع الاستحباب والكراهة ـ إلّا بمنزلة القيود المتعلّقة بالمطلقات التي

٢٧٩

يقتصر في تقييدها على مقدار دلالة الدليل ، فلو أمر المولى عبده بعمل في مدّة ولم يرض بمخالفته ، فألحّ عليه العبد في أن يعذره في المخالفة حتى رضي المولى بذلك في بعض تلك المدّة ، يصير أمره بالمقايسة إلى الوقت الذي رخّصه في المخالفة فيه استحبابيّا ، وبالنسبة إلى ما عداه وجوبيّا ، فالمنع المتعلّق في الموثّقة بالصلاة في غير المأكول ينزّل بالنسبة إلى السنجاب وغيره ـ ممّا ثبتت الرخصة فيه ـ على الكراهة ، وفيما عداه يحمل على ظاهره من الحرمة.

وإلى ما ذكرنا (١) في تفسير الوجوب والحرمة ومقابليهما يؤول كلام من فسّر الوجوب بطلب الفعل مع المنع عن الترك ، والحرمة بالعكس ، ومقابليهما بالطلب المجامع للإذن في النقيض ؛ لأنّ أخذ المنع من النقيض قيدا في مفهوم الأوّلين ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ المنع عن النقيض عبارة أخرى عن مطلوبيّة نقيض النقيض ، وهو عين ما تعلّق به الطلب ، فمحصّله : أنّ الواجب والحرام ما كان فعله أو تركه مطلوبا محضا مجرّدا عن الإذن في المخالفة ، فليتأمّل.

ودعوى أنّ الطلب الإلزامي مغاير بالذات للطلب الغير الإلزامي ، فللطلب مرتبتان : مرتبة ضعيفة لا تبلغ حدّ اللزوم ، ومرتبة شديدة بالغة ذلك الحدّ ، فلا يمكن تصادقهما على مورد ، قابلة للمنع ، وكيف لا! وإلّا لم يجز أن يتعلّق أمر واحد بشيئين : أحدهما واجب ، والآخر مستحبّ ، مع أنّه في الشرعيّات والعرفيّات فوق حدّ الإحصاء.

ودعوى أنّ الأمر في مثل هذه الموارد مستعمل في القدر المشترك بين

__________________

(١) في «ض ١٦» : «ذكر».

٢٨٠