مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

فساده وعدم صلاحيّته لإفادة الظنّ ، أو وجد ما يعارضه ، أو ذهل عن مستنده فعرضه الشكّ (استأنف الاجتهاد) لأنّه عند انسداد باب العلم بجهة القبلة حقيقة أو حكما مأمور بالتحرّي وبذل الجهد في معرفتها ، كما عرفته ، ومقتضاه وجوب تجديد النظر في الصور المفروضة ، بل لو اجتهد لصلاة وتجدّد الشكّ قبل التلبّس بها أو وجد أمارة أخرى ولو احتمالا ، تفحّص عنها مجدّدا ؛ إذ لا يتحقّق التحرّي والاجتهاد إلّا بذلك.

ودعوى أنّ مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك» (١) و «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (٢) وغير ذلك من أدلّة الاجتهاد : كفاية مطلقه لمطلق الصلاة ، مدفوعة : بأنّ قضيّة شرطيّة الاستقبال لكلّ صلاة : لزوم إحرازه عند كلّ صلاة إمّا بالعلم أو ما قام مقامه ، أي الظنّ الحاصل بالتحرّي والاجتهاد ، فليس معنى قوله عليه‌السلام : «يجزئ التحرّي أبدا» أنّه يجزئ حصوله في وقت لمطلق الصلاة أبدا حتّى مع زوال ظنّه ، بل معناه أنّ تحصيل ما هو الأحرى وتشخيص القبلة بحسب ما يؤدّي إليه اجتهاده يكون كالعلم بالقبلة مجزئا.

وأضعف من ذلك : التمسّك باستصحاب حكم ظنّه السابق ؛ ضرورة أنّ حكم الظنّ لا يتعدّى عن موضوعه ، وليس جواز الصلاة إلى الجهة التي ظنّ بكونها قبلة من آثار نفس تلك الجهة من حيث هي حتّى يستصحب في زمان الشكّ ، بل من آثار كونها هي القبلة التي يجب إحرازها بالظنّ الاجتهادي عند تعذّر

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٦٦ ، الهامش (٥).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٦٦ ، الهامش (٤).

١٨١

العلم ، فلا يعقل بقاء أثر الظنّ الذي اعتبر طريقا لإحراز متعلّقه بعد زوال عينه.

ولو تجدّد الشكّ في أثناء الصلاة ، فعن العلّامة في جملة من كتبه أنّه لا يلتفت إلى شكّه ويمضي في صلاته (١).

ولعلّه مبنيّ على أنّ وقت إحراز القبلة قبل الدخول في الصلاة ، فالشكّ فيها بعد الدخول في الصلاة شكّ في الشي‌ء بعد تجاوز محلّه.

وفيه : أنّ القبلة شرط في جميع أجزاء الصلاة ، فلا بدّ من كونها محرزة حال الصلاة من أوّلها إلى آخرها ، فمعرفتها قبل الصلاة مقدّمة لكونها محرزة حال التلبّس بأجزائها ، فوقت إحرازها بالنسبة إلى كلّ جزء جزء من حيث هو ليس إلّا عند إرادة الإتيان بذلك الجزء ، فما لم يتحقّق الفراغ من أجزاء الصلاة لا يتجاوز وقت إحراز القبلة بالنسبة إلى الجزء الباقي.

هذا ، مع أنّ العبرة بتجاوز محلّ الشي‌ء ، لا محلّ إحرازه.

نعم ، قد يقوى في النظر عدم الالتفات إلى الشكّ في الشرائط بعد التلبّس بالصلاة إذا كان الشرط من قبيل الطهارة المنتزعة من فعل الوضوء المتقدّم بالرتبة على الصلاة.

ولكنّ الأقوى فيه أيضا ما عرفت.

فالأظهر وجوب تجديد الاجتهاد في الأثناء ، فإن وافق الاجتهاد الأوّل ، استمرّ. وإن خالفه يسيرا ، استقام وأتمّ. وإن كان كثيرا ، استأنف.

وقال في الجواهر : وإن خالفه كثيرا ، كان كظهور الخطأ بالاجتهاد بعد الفراغ

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ٢٩ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٣١ ، الفرع «ج» من المسألة ١٣٨ ، منتهى المطلب ٤ : ١٧٥ ، وحكاه عنه الفاضل الاصفهاني في كشف اللثام ٣ : ١٨٤.

١٨٢

الذي ستسمع الكلام فيه ، وأنّه عندنا لا ينقض السابق ، فيتمّها حينئذ على الأخير ولا إعادة (١). انتهى.

أقول : وستعرف أنّا لو قلنا بعدم انتقاض الاجتهاد السابق باللاحق ، فإنّما هو فيما لو ظهر الخطأ بالاجتهاد بعد الفراغ ، وأمّا في الأثناء فينتقض لا محالة ، حيث يتولّد من العمل (٢) بمقتضى الاجتهادين العلم التفصيلي بوقوع بعض هذه الصلاة إلى غير القبلة فتفسد ؛ إذ لا صلاة إلّا إلى القبلة ، إلّا أن يكون مخطئا في تشخيصها ولم ينكشف خطؤه إلّا بعد خروج الوقت ، كما عرفت فيما سبق ، لا في مثل المقام الذي علم بوقوعها فاقدة للشرط قبل خروج وقتها.

ولو توقّف الاجتهاد بعد عروض الشكّ على قطع الصلاة ، قطعها ؛ تحصيلا للقبلة التي هي شرط فيها.

وقد يقال في مثل الفرض بوجوب المضيّ ؛ للنهي عن إبطال العمل ، واستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ ، وغير ذلك ممّا يأتي الكلام فيه مفصّلا مع بيان ضعفه في أحكام القواطع إن شاء الله.

ويجوز إتمامها بانيا على الفحص ، فإن صادفت ما يقتضيه تكليفه فهو ، وإلّا أعادها ، بل هذا هو الأحوط ، وأحوط منه الإتمام ثمّ الإعادة مطلقا.

ولكن هذا إن لم نقل باعتبار الجزم حال الفعل ، كما هو المختار ، وإلّا تعيّن القطع كي يكون جازما حين الإعادة بصحّة العمل ومطلوبيّته شرعا ، كما هو واضح.

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٤٠.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «بالعمل» بدل «من العمل».

١٨٣

وإن لم يتجدّد عنده شكّ ولكن عثر على أمارة أوثق ممّا عوّل عليه ، أو احتمل حدوث أمارة كذلك احتمالا يعتدّ به ، فهو أيضا كما لو عرضه الشكّ ، وجب عليه الفحص عن حالها ؛ إذ لا يصدق اسم التحرّي والاجتهاد ـ الذي ورد الأمر به في النصوص ـ إلّا بذلك.

نعم ، لو كان ذلك في أثناء الصلاة وتوقّف الفحص والتحرّي على قطعها ، أمكن الالتزام بعدم الالتفات إليه ما لم يكن مؤثّرا في زوال ظنّه ؛ إذ لا ينسبق إلى الذهن من الأدلّة ابتناء أمر الاجتهاد على هذه المرتبة من الضيق ، بل أمره أوسع من ذلك على ما يتبادر من أدلّته (١) ، والله العالم.

ولو كان تجدّد الشكّ بعد الصلاة ، فاجتهد (٢) لصلاة أخرى ، فخالف اجتهاده اللاحق الاجتهاد (٣) السابق كثيرا ، فإن كان ذلك بعثوره على أمارة معتبرة في حدّ ذاتها ـ كالبيّنة وخبر الثقة بناء على اعتباره في الموضوعات كما نفينا البعد عنه عند التكلّم في اعتباره ـ فهو كما لو تبيّن خطؤ الاجتهاد السابق بالأمارات المفيدة للعلم بجهة القبلة ، وقد عرفت فيما سبق أنّه يجب عليه في مثل الفرض إعادة الصلاة في الوقت ، لا في خارجه.

وأمّا إن كان بشي‌ء من الظنون الاجتهاديّة التي جاز له التعويل عليها عند تعذّر العلم حقيقة أو حكما ـ كما لو رأى ـ مثلا ـ قبرا فظنّ أوّلا كون أحد طرفيه رأسه ثمّ ظنّه ثانيا بأنّه رجليه ـ لم ينتقض بذلك أثر الاجتهاد الأوّل ، فلا يعيد صلاته

__________________

(١) في «ض ١٤» : «الأدلّة».

(٢) في «ض ١٤» : «واجتهد».

(٣) في «ض ١٦» : «اجتهاده».

١٨٤

السابقة على الأشبه ؛ فإنّ غاية ما يمكن استفادته من الأدلّة إنّما هو اعتبار الظنّ بالقبلة في إحرازها لما يجب الاستقبال له عند تعذّر العلم بمعنى اكتفاء الشارع في مقام امتثال الأمر بالاستقبال بالامتثال الظنّي عند تعذّر العلم مشروطا بعدم انكشاف خلافه في الوقت ، وهذا لا يقتضي كون الظنّ طريقا تعبّديّا لإثبات متعلّقه على الإطلاق بحيث يرفع به اليد عن مقتضيات الأدلّة والأصول المعتبرة المنافية له ، كالبيّنة ونحوها ممّا جعلها الشارع كالعلم في إثبات متعلّقاتها ، بل حال الظنّ بالقبلة حال الظنّ بالأحكام الشرعيّة على القول بحجّيّته بحكم العقل عند انسداد باب العلم بالأحكام في أنّه يجب الاقتصار في التعويل على الظنّ على مورد انسدّ فيه باب العلم ولم يكن هناك أصل أو دليل معتبر ، وإلّا فالمرجع هو ذلك الأصل أو الدليل دون الظنّ ، فالصلاة الواقعة حال الاجتهاد الأوّل صلاة فرغ منها ، فهي محكوم بصحّتها ما لم يعلم بفسادها حقيقة أو حكما ، أي بدليل معتبر ؛ لقاعدة الصحّة ، وكون الظنّ بالقبلة حجّة في تشخيص القبلة لا يستلزم كونه حجّة في إثبات كون الصلاة الواقعة فيما سبق مستدبر القبلة ؛ لجواز التفكيك بين الظنون ، فالأوّل ظنّ معتبر ، والثاني لا دليل على اعتباره ، فلا يلتفت إليه في مقابل أصالة الصحّة.

إن قلت : سلّمنا ذلك ، ولكن بعد أن صلّى العصر ـ مثلا ـ بالاجتهاد الثاني إلى عكس الجهة التي صلّى الظهر إليها يعلم إجمالا قبل خروج وقت الصلاتين بوقوع إحداهما إلى دبر القبلة ، فهي باطلة يجب عليه إعادتها ، ولا تجري أصالة الصحّة بعد العلم الإجمالي باشتمال إحدى الصلاتين على خلل ، كما لا يخفى.

١٨٥

قلت : لا أثر لمثل هذا العلم الإجمالي الذي أحد طرفيه مورد تكليف منجّز ؛ لأنّه بالفعل مكلّف بالصلاة إلى الجهة التي أدّى إليها اجتهاده الثاني ، سواء كانت قبلة في الواقع أم لم تكن ، فلو وجب عليه الاحتياط بإعادة الصلاتين بواسطة العلم الإجمالي ، لوجب إعادتهما إلى هذه الجهة ، فلا مقتضي لإعادة ثانيتهما حيث إنّ معادتها ليست إلّا كالمبتدأة ، فهي بالفعل في حقّه بحسب تكليفه هي الصلاة إلى القبلة الواجبة عليه ، وقد علم قبل الشروع فيها بأنّه لو صلّاها لكانت هي أو سابقتها إلى خلاف القبلة ، ولم يكن علمه بذلك مانعا عن كونه بالفعل مكلّفا بالصلاة إلى هذه الجهة ، فكيف يكون بعد الخروج عن عهدة تكليفه مقتضيا لإعادتها!؟

والحاصل : أنّه لا أثر للعلم الإجمالي بالنسبة إلى الصلاة الثانية ؛ لأنّها صلاة وقعت موافقة لتكليفه الفعلي ، فهي محكومة بالصحّة لذلك ، لا لقاعدة الصحّة أو الشكّ بعد الفراغ ، فهاتان القاعدتان بالنسبة إلى الصلاة الأولى سليمتان عن المعارض.

وبهذا يندفع ما قد يتوهّم من أنّه يتولّد من علمه الإجمالي بوقوع إحدى الصلاتين إلى غير القبلة العلم بوقوع خلل في الثانية إذا كانتا مترتّبتين ، كالمؤدّاتين أو المقضيّتين إمّا من حيث الاستقبال أو الترتّب على سابقة صحيحة.

توضيح الاندفاع : أنّه لا عبرة بهذا العلم بعد جريان أصالة الصحّة في السابقة ، الموجبة لشرعيّة الدخول في اللاحقة والإتيان بها إلى الجهة التي أمره الشارع بالبناء على كونها قبلة.

١٨٦

نعم ، لو لا جريان أصالة الصحّة في السابقة ، لم يكن يشرع له الدخول في اللاحقة ، لا لكونه من آثار العلم باختلال أحد شرطيها ، بل للشكّ في الخروج عن عهدة السابقة المأمور بالخروج عن عهدتها قبل اللاحقة.

إن قلت : ما الفرق بين المقام وبين الفرض السابق ـ أعني ما لو تجدّد الشكّ في الأثناء وأدّى الاجتهاد الثاني إلى خلاف الأوّل ـ حيث التزمت هناك بوجوب الاستئناف دون المقام؟

قلت : الفارق بين المقامين هو كون الصلاة الواحدة مجموعها عملا واحدا مرتبطا بعض أجزائه ببعض مشروطا صحّة كلّ جزء منها بانضمامه إلى ما سبقه ولحقه من الأجزاء ، جامعة للشرائط المعتبرة فيها ، فلو توجّه في أثناء الصلاة إلى الجهة التي أدّى اجتهاده الثاني إلى كونها قبلة ، حصل له علم تفصيليّ ببطلان الأجزاء السابقة إمّا لوقوعها في حدّ ذاتها إلى دبر القبلة ، أو لطروّ البطلان عليها على تقدير انعقادها صحيحة بواسطة الاستدبار ، كما أنّه لو أتى ببقيّة الأجزاء إلى الجهة التي أدّى إليها اجتهاده الثاني ، يعلم تفصيلا بفسادها وعدم صلاحيّتها لأن تصير جزءا من صلاة صحيحة ؛ لدوران أمرها بين وقوعها إلى دبر القبلة أو مسبوقة بأجزاء كذلك ، فهي فاسدة على كلّ تقدير ؛ حيث إنّ صحّتها مشروطة بكون المصلّي مستقبلا للقبلة ـ ولو فيما بين المشرق والمغرب ـ من أوّل صلاته ، وهو يعلم بأنّه لم يكن كذلك.

ولا يجدي إجراء أصالة الصحّة في الأجزاء السابقة ـ على تقدير تسليم جريانها في مثل المقام الذي طرأ الشكّ في الأثناء ـ في إلغاء هذا العلم الذي أثره

١٨٧

بطلان اللاحقة ، كما هو واضح.

هذا ، مع ما أشرنا إليه من أنّه لا يبقى شكّ في بطلان الأجزاء السابقة كي يرجع فيها إلى القاعدة بعد أن توجّه إلى عكس ما كان متوجّها إليه حال الإتيان بتلك الأجزاء ، فلا يقاس أبعاض صلاة بالصلاتين المستقلّتين وإن كانتا مترتّبتين كالظهرين ، فإنّه وإن كان يعلم حين الإتيان بالعصر أنّه إمّا تقع العصر إلى خلاف القبلة أو سابقتها لكن لا يعلم بذلك بطلان العصر ، فإنّها ليست مشروطة بكونها مسبوقة بظهر واقعة إلى القبلة صحيحة في الواقع ، بل مشروطة بتفريغ ذمّته عن الظهر بحسب ما يقتضيه تكليفه في مرحلة الظاهر ، فمتى أجرى أصالة الصحّة في الظهر جاز له فعل العصر وتقع صحيحة في الواقع وإن كانت الظهر باطلة في الواقع ، فلا يتولّد من العلم الإجمالي بوقوع إحدى الصلاتين إلى دبر القبلة العلم ببطلان العصر ، ولا العلم ببطلان الظهر. وليس لنفس هذا العلم أيضا أثر عمليّ ؛ لما أشرنا إليه آنفا من أنّ أحد طرفيه مورد تكليف منجّز ، فيرجع في الطرف الآخر إلى الأصل الجاري فيه ، كما تقرّر في محلّه.

وهذا بخلاف ما لو كان أطراف العلم أبعاض صلاة واحدة ؛ فإنّ صحّة كلّ بعض منها مشروطة بصحّة ما عداها في الواقع ، فإذا علم إجمالا بتحقّق استدبار في صلاته قبل خروج وقتها فضلا عمّا لو علم بذلك في أثنائها ـ كما هو المفروض ـ فقد علم تفصيلا ببطلان جميع أجزائها ، وعدم انضمام بعضها إلى بعض ، فليتأمّل.

وحكي عن نهاية الإحكام أنّه احتمل فيما لو صلّى أربع صلوات بأربع اجتهادات وجوب إعادة الجميع ؛ تشبيها له بما لو علم إجمالا بفساد واحدة من

١٨٨

الأربع. واحتمل أيضا قضاء ما سوى الأخيرة ؛ لكون الاجتهاد الأخير ناسخا لما قبله (١).

أقول : ما احتمله أخيرا لا يخلو عن قوّة ؛ إذ لا مقتضي لإعادة الأخيرة بعد وقوعها على حسب ما يقتضيه تكليفه الفعلي ، كما سبقت الإشارة إليه.

اللهمّ إلّا أن تكون مرتّبة على سابقتها ، فيجب عليه حينئذ إعادتها أيضا ؛ لذلك ، أي من حيث الإخلال بالترتيب ، لا من حيث كونها من أطراف الشبهة ، أي من الصلوات التي يعلم إجمالا بوقوع بعضها إلى خلاف القبلة ؛ لما أشرنا إليه من أنّه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى هذه الصلاة التي وقعت على وفق ما يراه تكليفه بالفعل.

وأمّا الصلوات السابقة فحيث علم إجمالا بوقوع بعضها إلى خلاف القبلة وجبت إعادة الجميع احتياطا. ولا تجري بالنسبة إليها أصالة الصحّة ؛ لأنّ إجراءها في كلّ منها معارض بالمثل ، وفي الجميع مستلزم لطرح العلم الإجمالي ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

وبهذا تمتاز هذه الصورة عن الفرض السابق الذي فرض فيه اجتهادان ثانيهما مورد تكليفه الفعلي ، فلا أثر لعلمه الإجمالي بالنسبة إليه ، وما أتى به من الأعمال على وفق الاجتهاد السابق عليه لم يعلم بطلانها واقعا ، فتجري بالنسبة إليها أصالة الصحّة.

وأمّا ما في هذا الفرض فيعلم بأنّ بعض ما صدر منه في السابق وقع على

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٤٠٠ ، وحكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ١٨٥.

١٨٩

خلاف القبلة ، والأصول بالنسبة إليها متعارضة ، فتجب إعادة الجميع ، وإيقاعها إلى الجهة التي أدّى إليها اجتهاده الفعلي.

لكن لا يخفى عليك أنّ هذا فيما إذا كان حصول العلم بوقوع بعض تلك الصلوات إلى غير القبلة قبل فوات وقتها ، كما لو صلّى كلّا من الظهرين وغيرهما من الآيات ونحوها أو شيئا ممّا عليه من الفوائت فيما بين الزوال إلى الغروب ، أو كانت الجميع مقضيّة أو مؤادّة غير موقّتة ، وإلّا فلو صلّى صلوات متعدّدة باجتهادات متعدّدة في أوقات متباينة بحيث لم يعلم بحصول الاستدبار في شي‌ء منها إلّا بعد خروج وقته ، لم تجب إعادتها ، كما عرفته فيما سبق.

وحيث جعل في الجواهر مبنى عدم نقض الاجتهاد السابق باللاحق الأصل وقاعدة الإجزاء وأنّ نقض الاجتهاد السابق باللاحق ليس بأولى من عكسه لم يرفرقا بين الفروض المتقدّمة ، فأوجب إتمام الصلاة بحسب اجتهاده اللاحق فيما إذا كان في الأثناء كما سمعته في عبارته المتقدّمة (١) ، ولم يوجب إعادة شي‌ء من الصلوات الواقعة بالاجتهادات في الفرض الأخير (٢).

وأنت خبير بما في هذه المباني ؛ فإنّه إن أريد بالأصل قاعدة الصحّة والشكّ بعد الفراغ ، فهي لا تجري في الفرض الأخير ؛ لابتلائها بالمعارض.

وإن أريد بها أصالة البراءة ونحوها ـ كما هو الظاهر ـ ففيه ما لا يخفى بعد ثبوت أصل التكليف ، وكون الشكّ في الخروج عن عهدته.

__________________

(١) في ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ٤١ ـ ٤٢.

١٩٠

وأمّا قاعدة الإجزاء فقد تقدّم غير مرّة أنّ امتثال الأمر الظاهري إنّما يقتضي الاجتزاء به عن الواقع في مرحلة الظاهر ما لم ينكشف مخالفته للواقع ، والمفروض انكشاف المخالفة في المقام.

وأضعف من ذلك كلّه ما قيل من أنّ نقض الاجتهاد الأوّل بالثاني ليس بأولى من عكسه ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أنّ الحكم باستئناف الصلاة أو إعادة الصلاتين أو الصلوات المتعدّدة بواسطة العلم الإجمالي الحاصل من العمل بمقتضى الاجتهادين ليس نقضا للاجتهاد بالاجتهاد ، بل بالعلم. فالحقّ أنّ المدار في هذه الفروع على كون العلم الحاصل في المقام صالحا لتنجيز التكليف بالواقع وعدمه لا غير.

ثمّ إنّه حكي عن الذكرى أنّه احتمل قويّا مع تغيّر الاجتهاد أن يؤمر بالصلاة إلى أربع ؛ لأنّ الاجتهاد عارضه الاجتهاد فيتساقطان فيتحيّر ، ولا تجب إعادة ما صلّاه أوّلا ؛ لإمكان صحّته ودخوله مشروعا (١). انتهى.

أقول : ولعلّه أراد بتعارض الاجتهاد ما إذا أثّر الاجتهاد الثاني في ارتفاع الظنّ الحاصل بالاجتهاد الأوّل ، وصيرورة القبلة مشكوكة ، وإلّا فلا يعقل أن يعارض الاجتهاد السابق ـ الذي أزيل أثره ـ الاجتهاد اللاحق المورث للظنّ الفعلي بعد دوران الحكم ـ بمقتضى ظاهر النصوص والفتاوى ـ مدار تشخيص القبلة بحسب ما يؤدّي إليه نظره بالفعل عند إرادة الصلاة ، كما هو واضح.

ولو اختلف المجتهدان في تشخيص القبلة ، فهل لأحدهما الاقتداء بالآخر؟ فيه خلاف.

__________________

(١) الذكرى ٣ : ١٨٦ ـ ١٨٧ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٤٢.

١٩١

فربما نسب (١) إلى الأكثر المنع مع الاختلاف الكثير ؛ لأنّ المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته إمّا لفساد صلاته من حيث هي ، أو فساد صلاة إمامه ، بل عن التذكرة ونهاية الإحكام احتمال المنع مطلقا حتّى مع الاختلاف اليسير (٢). وسنشير إلى ما يمكن أن يكون منشأ لهذا الاحتمال.

وقيل بالجواز مطلقا ، كما صرّح به في الجواهر حيث قال : لا بأس بائتمام المجتهدين بعضهم ببعض وإن تضادّوا في الاجتهاد أو اختلفوا بالكثير فضلا عن الاختلاف اليسير ؛ لصحّة صلاة كلّ منهم واقعا بقاعدة الإجزاء وغيرها ممّا عرفته سابقا ، وفاقا لكشف اللثام ، ولم يستبعده في التذكرة والمدارك (٣). انتهى.

وقد عرفت آنفا أنّ ما بنى عليه هذه الفروع من قاعدة الإجزاء وغيرها ممّا تقدّم نقله سابقا ممّا لا ينبغي الركون إليه ، وأنّ اعتبار الظنّ بالقبلة من باب الطريقيّة ، لا الموضوعيّة بتنزيل القبلة المظنونة منزلة القبلة الواقعيّة.

وحيث علم إجمالا بمخالفة أحد الظنّين للواقع لا يجوز التعويل على شي‌ء منهما إذا كان كلّ من أطراف الشبهة مورد ابتلاء المكلّف ولم يكن الأصل الجاري في بعض الأطراف سليما عن المعارض ، كما في بعض الفروع المتقدّمة.

فالعبرة في المقام ـ كما في تلك الفروع ـ بما أشرنا إليه في ما سبق من كون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز التكليف بالواقع وعدمه.

__________________

(١) الناسب هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٥٥.

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ : ٢٧ ، الفرع «ج» من المسألة ١٤٦ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٠٢ ، وحكاه عنهما صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ١٨٧.

(٣) جواهر الكلام ٨ : ٤٥ ، وانظر : كشف اللثام ٣ : ١٨٦ ، وتذكرة الفقهاء ٣ : ٢٦ ، ذيل المسألة ١٤٦ ، ومدارك الأحكام ٣ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

١٩٢

فحينئذ نقول : مقتضى التحقيق تبعيّة الحكم في المقام ـ جوازا أو منعا ـ لحكم ما لو علم تفصيلا بخطأ الإمام وانحرافه عن القبلة ، فإن قلنا بجواز الاقتداء به مع العلم بخطئه وانحرافه عن القبلة ولو كثيرا ـ بدعوى أنّ جواز الاقتداء من آثار صحّة صلاته بنظره بحسب ما يقتضيه تكليفه في الظاهر ، أو بدعوى أنّه يكفي في حمل صلاته على الصحيح وجواز الاقتداء به إمكان صحّتها في الواقع ولو على بعض التقادير ، كما فيما نحن فيه ؛ حيث إنّ فسادها موقوف على انكشاف خطئه لديه قبل أن يفوته الوقت ، كما عرفته فيما سبق ـ فالمتّجه جوازه ؛ إذ لا أثر للعلم الإجمالي بأنّ صلاته أو صلاة إمامه إلى غير القبلة على هذا التقدير ؛ إذ المفروض أنّ كون صلاة الإمام إلى غير القبلة غير قادح في جواز الاقتداء به ، فعلم المأموم بخطأ أحدهما ليس إلّا كعلم الإمام بذلك في عدم كونه مانعا عن الأخذ بما يقتضيه تكليفه من حيث هو من اتّباع ظنّه ما لم ينكشف خطؤه بالخصوص.

لكنّ الدعوى الأولى فاسدة جدّا ؛ ضرورة عدم الاعتداد بصلاة معلومة البطلان.

وأمّا الثانية : فهي لا تخلو عن وجه وإن كان الأوجه عدم سماعها أيضا ؛ فإنّ حمل فعل الغير على الصحيح مع العلم بكون صحّتها في الواقع متزلزلة لا يخلو عن إشكال.

وإن قلنا بعدم جواز الاقتداء به مع العلم التفصيلي بخطئه كما هو الأظهر فيما لو كان الانحراف كثيرا ، فلا يجوز الائتمام في المقام ؛ حيث إنّه يتولّد للمأموم بسبب علمه الإجمالي بانحراف أحدهما عن القبلة علم تفصيليّ ببطلان صلاته ، كما أنّ الأمر كذلك مع الانحراف اليسير الغير الخارج عمّا بين المشرق والمغرب

١٩٣

لو قلنا بأنّه موجب لبطلان الصلاة وإعادتها في الوقت ، كما مال إليه أو قال به بعض (١) المتأخّرين ، الذي عرفته في محلّه ، أو قلنا بأنّ الصلاة وإن كانت صحيحة ولكنّها صلاة اضطراريّة لا يجوز الاقتداء بها اختيارا وإن كان في كلّ من المباني نظر بل منع ، ولكن على تقدير الالتزام بها يعلم المأموم إجمالا بأنّه إمّا منحرف عن القبلة أو مقتد بمن لا تصحّ صلاته أو لا يجوز الاقتداء به ، فيعلم تفصيلا ببطلان صلاته.

اللهمّ إلّا أن يقال : هذا إنّما هو فيما لو قلنا بأنّ الانحراف اليسير كالكثير موجب لبطلان الصلاة ، وأمّا على تقدير الالتزام بصحّة الصلاة وكونه مانعا عن جواز الائتمام فلا أثر لعلمه الإجمالي بانحرافه أو انحراف إمامه عن القبلة ؛ لأنّ انحرافه بنفسه غير قادح في صحّة صلاته بعد كونه عاملا باجتهاده ، وانحراف إمامه غير معلوم ، فهو بمنزلة ما لو شكّ ابتداء في كون إمامه منحرفا عن القبلة ، فلا يلتفت إليه. وعلمه إجمالا بأنّ إحدى الصلاتين اضطراريّة فإن كانت صلاة الإمام ، لا يجوز الاقتداء به ، وإن كانت صلاته بنفسه ، لا يجوز فعلها اختيارا ، ممّا لا أثر له بعد كونه بالفعل مكلّفا بالصلاة إلى الجهة التي يراها بحسب اجتهاده قبلة ، كما تقدّم نظيره في بعض الفروع السابقة.

قد فرغ من البحث عن أحكام القبلة مصنّفه أقلّ الطلبة محمد رضا ابن المرحوم الآقا محمّد هادي الهمداني في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (١٣٠٣) ثلاث وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة.

__________________

(١) البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

١٩٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(المقدّمة الرابعة) من مقدّمات الصلاة : (في) البحث عن (لباس المصلّي).

(وفيه مسائل) :

(الأولى : لا تجوز الصلاة في جلد الميتة) وغيره من أجزائها التي حلّ فيها الحياة.

وتخصيص الجلد بالذكر لعلّه لمتابعة النصّ ، أو لمناسبة المقام ؛ لأنّه هو الذي من شأنه أن يلبس ، أو لكونه مورد توهّم الجواز بناء على طهارته بالدبغ ، كما

١٩٥

حكي القول به عن العامّة (١) ، وابن الجنيد (٢) من الخاصّة.

وكيف كان فلا تجوز الصلاة فيه مطلقا (ولو كان ممّا يؤكل لحمه ، سواء دبغ أو لم يدبغ) للنصوص المستفيضة بل المتواترة الدالّة عليه ، التي وقع في جملة منها التصريح بالمنع ولو دبغ سبعين مرّة.

ومن هنا يتّجه الالتزام بالمنع مطلقا وإن قيل بطهارته بالدبغ ، ولذا لم يخالف في ذلك ابن الجنيد القائل بطهارته بالدباغ (٣) ، بل صرّح ـ في عبارته المحكيّة عنه ـ بالمنع عن الصلاة فيه مطلقا (٤) من باب التعبّد ، لا من حيث النجاسة.

ففي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الجلد للميتة أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ فقال : «لا ولو دبغ سبعين مرّة» (٥).

وخبر الأعمش ـ المرويّ عن الخصال ـ عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، قال : «[و] لا يصلّى في جلود الميتة وإن دبغت سبعين مرّة ، ولا في جلود السباع» (٦).

__________________

(١) الأم ١ : ٩ ، الحاوي الكبير ١ : ٥٧ و ٥٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ١٧ ، المجموع ١ : ٢١٧ ، الوجيز ١ : ١٠ ، الوسيط ١ : ٢٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ١ : ٨١ ، روضة الطالبين ١ : ١٥١ ، التفسير الكبير ـ للرازي ـ ٥ : ١٧ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ١ : ١١٥ ، بدائع الصنائع ١ : ٨٥ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ٢٠ ، بداية المجتهد ١ : ٧٨ ، المغني ١ : ٨٤.

(٢) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٦٣ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٤٢ ، المسألة ٢٦٢.

(٣) في «ض ١٦» : «بالدبغ».

(٤) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ١ : ١٣٥.

(٥) الفقيه ١ : ١٦٠ / ٧٥٠ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ٧٩٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٦) الخصال : ٦٠٣ ـ ٦٠٤ / ٩ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٩٦

وعن دعائم الإسلام مرسلا عن جعفر بن محمّد (١) عليهما‌السلام أنّه قال : «لا يصلّى بجلد الميتة ولو دبغ سبعين مرّة ، إنّا أهل بيت لا نصلّي بجلود الميتة وإن دبغت» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار التي سيأتي بعضها إن شاء الله.

ومقتضى إطلاق المتن وغيره بل في الجواهر : بلا خلاف صريح أجده فيه (٣) : عدم الفرق بين كون جلد الميتة ممّا تتمّ الصلاة فيه وبين ما لا تتمّ ، كالخفّ ونحوه.

ويشهد له ـ مضافا إلى إطلاق الأخبار الناهية عن الصلاة في الميتة ـ خصوص مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الميتة ، قال : «لا تصلّ في شي‌ء منه ولا في شسع (٤)» (٥).

ورواية الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق ، فقال : «اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت (٦) بعينه» (٧).

وخبر عليّ بن [أبي] حمزة : [أنّ رجلا] سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ

__________________

(١) في المصدر : «عن أبي جعفر محمّد بن علي».

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١٢٦ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٧ : ٥٠.

(٣) جواهر الكلام ٨ : ٦١.

(٤) شسع النعل : هو السير الذي يشدّ به في ظهر القدم. لسان العرب ٨ : ١٨٠ «شسع».

(٥) التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ١٩٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٦) في «ض ١٦» : «ميتة».

(٧) التهذيب ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢ ، والباب ٣٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

١٩٧

عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه ، قال : «نعم» فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت؟ قال : «وما الكيمخت؟» فقال : جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه» (١).

وموثّقة سماعة بن مهران أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام في تقليد السيف في الصلاة وفيه الفرا (٢) والكيمخت ، فقال : «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة» (٣).

ولكنّك عرفت في باب النجاسات (٤) عند التكلّم في جواز الصلاة فيما لا تتمّ الصلاة فيه وحده أنّه يظهر من بعض بل ربما يستظهر من المشهور عدم الفرق في ذلك بين المتنجّس ونجس العين ، ميتة كان أم غيرها ، وأنّ هذه الأخبار غير سليمة عن المعارض ، ولذا تردّدنا في المسألة.

ولكنّ الإنصاف أنّ القول بالمنع عن الصلاة في اللباس المتّخذ من نجس العين مطلقا وإن لم يكن ساترا ـ كالقلنسوة المنسوجة من شعر الكلب والخنزير ـ فضلا عن الميتة ـ التي وردت في خصوص ما لا تتمّ الصلاة فيه منها النصوص المتقدّمة ـ هو الأقوى ، كما لا يخفى وجهه على من تدبّر فيما أسلفناه في المبحث المزبور حيث يظهر للمتأمّل قصور ما يعارض الأخبار المانعة عن المكافئة من

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، والباب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) في الفقيه : «الغرا» بالغين المعجمة ، وهي شي‌ء يتّخذ من أطراف الجلود يلصق به. لسان العرب ١٥ : ١٢١ «غرا».

(٣) الفقيه ١ : ١٧٢ / ٨١١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٥ / ٨٠٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ١٢.

(٤) راجع ج ٨ ، ص ١١٣.

١٩٨

وجوه ، والله العالم.

تنبيهان :

الأوّل : المشكوك ذكاته ملحق بغير المذكّى ؛لأصالة عدم التذكية ، والأخبار المتقدّمة ونظائرها ممّا دلّ على جواز الصلاة فيه حتّى تعلم أنّه ميتة مصروفة بل منصرفة في حدّ ذاتها إلى ما إذا اقترن بشي‌ء من الأمارات المعتبرة شرعا ، كما تقدّم الكلام في تحقيق ذلك وشرح الأمارات المعتبرة مفصّلا في آخر كتاب الطهارة عند التكلّم في عدم جواز استعمال جلد الميتة ، فراجع (١).

الثاني : صرّح في الجواهر باختصاص المنع بميتة ذي النفس ؛لأنّه المنساق إلى الذهن ، خصوصا مع ملاحظة ما في النصوص من الدبغ ونحوه ممّا لا يعتاد إلّا في ذي النفس ، بل هو ظاهر في مقابلة العامّة وخصوصا مع مقابلة الميتة بالمذكّى المنصرف إلى المذبوح (٢). انتهى.

أقول : لا ينبغي التأمّل في انصراف الأخبار المانعة عن الصلاة في جلد الميتة عن ميتة غير ذي النفس ، لا لمجرّد عدم تعارف استعمال جلد غير ذي النفس ، بل لأنّ معهوديّة نجاسة الميتة ووضوح المناسبة بين النجاسة والمنع عن الصلاة موجبة لصرف الأخبار إلى إرادة الميتة النجسة ، ولو لا ذلك لأشكل استفادة حكم أغلب أنواع ذي النفس أيضا ممّا لا يعتاد استعمال جلده من تلك الأخبار.

__________________

(١) ج ٨ ، ص ٣٧٦ وما بعدها.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ٦٣.

١٩٩

(وما لا يؤكل لحمه وهو طاهر في حال حياته) وكان (ممّا تقع عليه الذكاة إذا ذكّي كان طاهرا) كما تقدّم (١) الكلام فيه مع الإشارة إلى بعض الحيوانات القابلة للتذكية ، ويأتي تفصيله وتحقيق ما يقتضيه الأصل عند الشكّ في قبول الحيوان للتذكية في الصيد والذباحة إن شاء الله.

(و) لكن (لا يستعمل) جلده (في الصلاة) وإن دبغ بلا خلاف فيه على الظاهر في الجملة ، بل إجماعا ، كما ادّعاه غير واحد فيما عدا ما استثني ممّا يأتي ذكره إن شاء الله.

ويشهد له جملة من الأخبار :

منها : موثّقة ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله» ثمّ قال : «يا زرارة هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحفظ ذلك يا زرارة ، وإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح ، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله ، فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسدة ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» (٢).

__________________

(١) في ج ٨ ، ص ٣٧٥.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ / ١٤٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٢٠٠