مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

هذا ، مع أنّه يمكن الخدشة في عموم دليل سائر المختصّات التي ليس لها إطلاق دليل لفظيّ [بقصوره] (١) عن شمول الخنثى المشكل الذي هو في حدّ ذاته أمر ملتبس ، فليتأمّل.

ولا يجب على وليّ الطفل والمجنون فضلا عن غيره منعهما منه ؛ للأصل.

وهل يجوز تمكينهما منه؟ أمّا بالنسبة إلى الصبي الذي لا يطلق عليه اسم الرجل عرفا : فالوجه الجواز ؛ لقصور أدلّة الحرمة عن شمولها للأطفال ؛ حيث إنّها لم تدلّ إلّا على حرمته للرجال ، فالأطفال [الذين] (٢) لا يطلق عليهم اسم الرجل [خارجون] (٣) عن موضوع الحكم.

اللهمّ إلّا أن يستدلّ للحرمة : بإطلاق النبوي المشهور في كتب الفتاوى : «هذان ـ أي الذهب والحرير ـ محرّمان على ذكور أمّتي» (٤).

لكن يتوجّه عليه ـ بعد الغضّ عن إمكان دعوى انصرافه عن الأطفال ـ قصوره من حيث هو عن صلاحيّة الاستدلال به لإثبات حكم شرعيّ ، فمقتضى الأصل عدم حرمته بالنسبة إليهم ، وجواز تمكينهم منه.

وأمّا بالنسبة إلى من يصدق عليه اسم الرجل من المجانين والأطفال

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الذي». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «خارجة». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٩٩ ، الهامش (٤).

٣٢١

المراهقين للبلوغ ممّن تعمّهم أدلّة الحرمة بظاهرها لو لا حديث «رفع القلم» (١) واشتراط صحّة التكليف بالبلوغ والعقل : فقد يقوى في النظر أيضا جواز تمكينهم منه ؛ لانتفاء الحرمة في حقّ الصبي والمجنون بانتفاء شرط التكليف ، فلا يوصف لبس الحرير ـ الذي حصل بفعلهما ـ بالحرمة بالنسبة إليهما ، وحيث لا يحرم عليهما اللّبس فلا مانع من جواز تمكينهما منه ؛ فإنّ حرمة تمكين الغير من لبس الحرير إنّما هي لكونه إعانة على الإثم ، ولا إثم في الفرض كي يكون تمكينهما منه إعانة عليه.

ولكنّ الأقوى عدم الجواز ؛ إذ لو صحّ ما ذكر لاقتضى جواز ذلك بعث المجانين والأطفال على ارتكاب سائر المحارم من شرب الخمر وأكل مال الغير وغيره من النجاسات والمحرّمات ، وهو واضح الفساد.

ودعوى أنّ وضوح فساده إنّما هو فيما إذا كان المحرّم ممّا علم من حال الشارع إرادة عدم حصوله في الخارج من أيّ شخص كان بحيث لو قصد شخص إيجاده جهلا أو غفلة لوجب على من التفت إليه تنبيهه ومنعه عن الفعل ، كما في قتل النفوس وهتك الأعراض ، لا في مثل استعمال النجاسات في المأكول والمشروب ولبس الحرير ونحو ذلك ممّا لا يجب فيه تنبيه الغافل وإعلام الجاهل وردع غير المكلّف ومنعهم عن الفعل ، وأمّا في مثل هذه الموارد التي لا يجب فيها الردع ما لم يكن الفاعل منجّزا في حقّه التكليف بالاجتناب كي يندرج في موضوع النهي عن المنكر فلا نسلّم حرمة التمكين ، مدفوعة : بأنّ من الواضح أنّه

__________________

(١) يأتي تخريجه في ص ٣٢٤ ، الهامش (١).

٣٢٢

لا يجوز تقديم الخمر أو لحم الخنزير أو غيرهما من أنواع المحرّمات إلى الصبي والمجنون أو الغافل والجاهل الذي لا يتنجّز في حقّه التكليف بالاجتناب عنه ، مع أنّه لو تناوله بنفسه جهلا أو غفلة لم يجب منعه بلا إشكال ، لا لكونه إعانة على الإثم ؛ إذ لا إثم في شي‌ء من الفروض ، بل لأنّ بعث الغير على ارتكاب ما حرّمه الله عليه كارتكابه بنفسه للمحرّم قبيح عقلا وإن لم يتّصف فعل المباشر ـ من حيث صدوره منه ـ بالقبح ؛ لكونه مكرها أو لغفلته ، وعدم كونه بعنوانه المحرّم اختياريّا له إمّا حقيقة ، كما في الجاهل والغافل ، أو حكما ، كما في المجنون أو الصبي الذي عمدهما خطأ.

ألا ترى أنّه لو حرّم المولى على بعض عبيده فعلا ، فحمله بعض آخر على إيجاد ذلك الفعل كرها أو من غير التفات وشعور ، استندت المخالفة إلى ذلك الآخر بحيث يحسن مؤاخذته على المخالفة؟

والحاصل : أنّه يستفاد من مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذان محرّمان على ذكور أمّتي» (١) وقوله عليه‌السلام : «وحرم ذلك على الرجال» (٢) وغير ذلك أنّ لبس الرجال للحرير مبغوض للشارع ، فمتى لبسه رجل عن عزم وإرادة ، فقد أتى بما هو مبغوض للشارع اختيارا ، واستحقّ بذلك العقوبة ، ولو أتى بها مكرها أو جهلا أو نحو ذلك ، فقد أتى بما هو المبغوض للشارع لكن على وجه لا يوصف من حيث صدوره منه بالقبح ؛ لعدم كونه بعنوانه المقبّح له اختياريّا له. ولو أوجد هذا الفعل شخص آخر بأن مكّن ذلك الشخص هذا الرجل من إيجاد هذا الفعل بحيث صدر

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٩٩ ، الهامش (٤).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٠١ ، الهامش (٧).

٣٢٣

منه لا عن اختيار ، فقد صدر القبيح من ذلك الشخص حيث أوجد بالتسبيب ما هو المبغوض للشارع عن عزم واختيار.

لا يقال : إنّه لو تمّ ما ذكر فهو بالنسبة إلى الغافل والجاهل ونحوهما ممّن تكون المحرّمات محرّمة عليهم في الواقع ، ولكن لا تتنجّز عليهم التكاليف الواقعيّة ؛ لجهلهم ، فمن ألجأهم إلى مخالفة تلك الأحكام الواقعيّة يكون بمنزلة عبد ألجأ العبد الآخر في مخالفة سيّده ، لا بالنسبة إلى المجنون وغير البالغ الذي لا تكليف عليه في الواقع.

لأنّا نقول : عدم كون غير البالغين ، والمجانين مكلّفين باجتناب المحرّمات وفعل الواجبات ؛ لنقص فيهم ، لا لقصور في أدلّة التكاليف ، فالتكاليف تكاليف شأنيّة في حقّهم بحيث لو جاز تنجّزها في حقّهم ومؤاخذتهم على مخالفتها ، لتنجّزت ، ولكنّه لا يجوز شرعا وعقلا ، فمن حملهم على مخالفتها ليس إلّا كمن أوقع الجاهل والغافل في مخالفة التكاليف الواقعيّة.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّه يستفاد من مثل قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق» (١) عدم ملحوظيّة الصبي والمجنون رأسا في مقام شرع التكاليف ، فلا أثر للتكاليف بالنسبة إليهم أصلا ، لا أنّها تكاليف شأنيّة بحيث يتفرّع عليها حسن مؤاخذة المكلّف الذي صار سببا لمخالفتها.

ولكن يتوجّه على ذلك ما تقرّر في محلّه من أنّ المراد بالحديث على ما يتبادر منه رفع قلم المؤاخذة دنيويّة كانت أم أخرويّة ، فلا يؤاخذ الصبي و

__________________

(١) الخصال : ٩٣ ـ ٩٤ / ٤٠ ، و ١٧٥ / ٢٣٣ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١١.

٣٢٤

المجنون بشي‌ء من مخالفة التكاليف والالتزامات الصادرة منه من العقود والإيقاعات وغيرها ، لا أنّهما غير ملحوظين رأسا في مقام شرع التكاليف ، ولذا قوّينا صحّة عبادات الصبي واستحقاقه الأجر والثواب بإطاعة الفرائض والسنن والاجتناب عن المحرّمات والمكروهات ، بل وكذلك المجنون إذا كان له من العقل بقدر أن يتأتّى منه قصد الامتثال.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ما ادّعيناه من حرمة تمكين الغير وبعثه على ارتكاب ما حرّمه الله على عباده وإن كان ذلك الغير صبيّا أو مجنونا أو غافلا إنّما هو فيما إذا لم يكن عنوان البلوغ أو العقل أو العمد والاختيار مأخوذا في الأدلّة السمعيّة قيدا لمتعلّق التكليف ولو من حيث الانصراف الناشئ من المناسبة بين الحكم وموضوعه أو غير ذلك من الأمور المقتضية للصرف ، وإلّا فلا تأمّل في أنّه لو كان مفاد الدليل السمعي الدالّ على حرمته أنّه يحرم على العاقل أو على البالغ أو الملتفت أو نحو ذلك ، لا يحرم تمكين من لم يندرج في موضوع متعلّق الحكم وبعثه على ذلك الفعل.

اللهمّ إلّا أن يعلم من الخارج أنّ أخذه قيدا في الموضوع لكونه شرطا في صحّة التكليف من غير أن يكون له مدخليّة في أصل الحكم ، فحاله حينئذ حال ما عرفت.

وملخّصه أنّه إذا دلّ الدليل على أنّ الله تعالى حرّم على عباده ـ مثلا ـ شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير ، أو حرّم على الرجال لبس الحرير أو النظر إلى الأجنبيّة أو نحو ذلك ، فهم من ذلك الدليل أنّ صدور ذلك الفعل من كلّ من صدق عليه

٣٢٥

ذلك العنوان الذي تعلّق به الحرمة ـ وهو مطلق العباد في المثالين الأوّلين ، ومطلق الرجال في الأخيرين ـ مبغوض لدى الشارع ، وقبيح من حيث الذات ، فمتى استند إلى بالغ عاقل مختار صحّت مؤاخذته عليه من غير فرق بين أن يكون سببا أم مباشرا ، ولكن هذا إنّما هو بحكم العقل ، وإلّا فالمنساق إلى الذهن من الأدلّة السمعيّة الدالّة على الحرمة إرادتها بالنسبة إلى المباشر لا غير ، وبالنسبة إليه أيضا مخصّصة عقلا وشرعا بما إذا كان بالغا عاقلا مختارا ، فهي بالنسبة إلى فعل السبب قاصرة عن إفادة الحرمة ، وبالنسبة إلى فعل غير البالغ والمجنون مخصّصة ، ولكن منشأ التخصيص لدى العقل والشرع نقص الفاعل وقصوره عن حدّ التكليف ، كالغافل والناسي ، ومتى كان الأمر كذلك استقلّ العقل بقبح فعل من بعثهم على ذلك الفعل ، كما في المثال المزبور ، فليتأمّل.

(وفيما لا تتمّ فيه الصلاة منفردا كالتكّة والقلنسوة) ونحوهما (تردّد) واختلاف بين الأصحاب.

فعن الشيخ المفيد والصدوق وابن الجنيد : المنع (١). وعن العلّامة في المختلف : تقويته (٢) ، وجعله في محكيّ المنتهى الأقرب بعد الاستشكال في المسألة (٣). وعن جملة من متأخّري المتأخّرين (٤) الميل إليه.

__________________

(١) المقنعة : ١٥٠ ، المقنع : ٨٠ ، وحكاه عنهم العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٩٨ ، المسألة ٣٨.

(٢) مختلف الشيعة ٢ : ٩٩ ، ذيل المسألة ٣٨ ، وحكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٤١.

(٣) منتهى المطلب ٤ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٩٧.

(٤) كالعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٧٩ ، والسبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٢٧ ، والمحدّث الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ١١٠ ، مفتاح ١٢٥ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٤١.

٣٢٦

وعن الصدوق في الفقيه المبالغة في المنع حتى أنّه قال : لا تجوز الصلاة في تكّة رأسها من إبريسم (١).

وعن غير واحد من الأصحاب بل الأشهر فيما بينهم بل ربما نسب إلى المشهور القول بالجواز (٢).

حجّة القائلين بالمنع : عموم الأخبار المانعة عن الصلاة في الحرير ، وخصوص صحيحتي محمّد بن عبد الجبّار ، المتقدّمتين (٣) اللّتين كادتا أن تكونا صريحتين في عدم الجواز في التكّة والقلنسوة حيث وقع فيهما السؤال عنهما ، فيكون الجواب كالنصّ في إرادتهما.

احتجّ القائلون بالجواز : برواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكّة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنّار يكون في السراويل ويصلّى فيه» (٤).

وهذه الرواية كما تراها حاكمة على عمومات المنع عن الصلاة في الحرير ، مع أنّا لم نعثر على عموم يدلّ على ذلك عدا بعض الأخبار المتقدّمة (٥) ، المشتمل على لفظ «الثوب» الغير الصادق على مثل هذه الأشياء وضعا وانصرافا.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٢ ، ذيل ح ٨١٠ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٩٨ ، المسألة ٣٨ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٤١.

(٢) نسبه إلى المشهور المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٤١ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٩٧.

(٣) في ص ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٥٧ / ١٤٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٥) في ص ٣٠٥.

٣٢٧

وأمّا العمومات الناهية عن لبس الحرير المحض ، الشاملة بإطلاقها لحال الصلاة : فسيأتي عند التكلّم في حرمة لبس الذهب التنبيه على قصورها عن إفادة المنع عن الصلاة فيه من حيث هي ؛ حيث إنّ النهي متعلّق بأمر خارج عن ماهيّة الصلاة ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

ولكن مع ذلك ، الرواية المتقدّمة مخصّصة لتلك العمومات أيضا ؛ فإنّها كما تدلّ على نفي البأس عن الصلاة في التكّة الإبريسم ونحوها من حيث هي ، كذلك تدلّ على نفي البأس عن لبسها من حيث هو ، فإنّ المتبادر من التمثيل بالتكّة الإبريسم أنّه لا حرج في لبسها حال الصلاة لا من حيث كونها لبسا للحرير ولا من حيث مانعيّتها عن الصلاة.

هذا ، مع إمكان دعوى انصراف تلك العمومات أيضا عن مثل التكّة والقلنسوة ؛ فإنّ المنساق من النهي عن لبس الحرير إرادة الثوب ، لا مطلق الملابسة الصادقة على مثل هذه الأشياء.

وكيف كان فلا يصلح شي‌ء من هذه العمومات لمعارضة الرواية المتقدّمة (١).

والخدشة في سندها بأحمد بن هلال ، يدفعها ـ بعد الغضّ عمّا قيل (٢) من أنّ ابن الغضائري لم يتوقّف في حديثه عن ابن أبي عمير والحسن بن محبوب ـ أنّه لا ينبغي الالتفات إلى ضعف السند في مثل هذه الرواية المشهورة المقبولة عند الأصحاب ، التي عملوا بها قديما وحديثا في باب النجاسات وغيره بحيث لا يكاد يوجد من يطرحها رأسا من حيث القدح في السند وإن رفع اليد عنها كثير من

__________________

(١) في ص ٣٢٧.

(٢) القائل هو العلّامة الحلّي في خلاصة الأقوال : ٢٠٢ / ٦.

٣٢٨

الأصحاب في بعض مواردها ـ كما في المقام وفي أجزاء ما لا يؤكل لحمه ـ لأجل ابتلائها بالمعارض ، فهذا لا يوهن الرواية خصوصا بعد الالتفات إلى أنّها هي عمدة مستند التفصيل المعروف بين الأصحاب قديما وحديثا في جميع هذه المسائل ، فلا إشكال فيها من هذه الجهة.

ولكن قد يعارضها صحيحتا محمّد بن عبد الجبّار ، المتقدّمتان (١) ، وهما وإن كانتا أعمّ مطلقا من هذه الرواية ولكن لابتنائهما على السبب الخاصّ ـ وهو التكّة والقلنسوة ـ كالنصّ في إرادتهما ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فتتحقّق المعارضة بينهما وبين هذه الرواية ، والترجيح لهما من حيث السند والبعد عن التقيّة ؛ لصراحتهما في نفي الصحّة المخالفة للعامّة. وأمّا رواية الحلبي : فيحتمل صدورها تقيّة ؛ فإنّ ما تضمّنته من صحّة الصلاة في الأمور المزبورة ينطبق على مذهبهم ، ودلالتها على نفي الصحّة في غيرها إنّما هي بالمفهوم الضعيف.

هذا غاية ما يمكن أن يقال بل قيل (٢) في تشييد هذا القول وترجيح مستنده.

ولكن يتوجّه عليه :

أوّلا : أنّ الصحيحتين أيضا كسائر العمومات قابلتان للتخصيص ، غاية الأمر أنّه يلزم منه تخصيص المورد ، ولا محذور فيه بعد قيام احتمال عدم إرادة بيان حكم خصوص المورد لبعض دواعي الاختلاف من تقيّة ونحوها خصوصا مع مشاركته لسائر الموارد في جنس التكليف ، وهو مرجوحيّة الفعل ، بل قابلتان للتأويل أيضا بحمل نفي الحلّ على إرادة نفي الإباحة الغير المنافية لإرادة الكراهة

__________________

(١) في ص ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٢) القائل هو الطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

٣٢٩

في بعض مصاديقهما أو غير ذلك ممّا تقدّمت الإشارة إليه في مبحث الصلاة في جلد السنجاب عند التكلّم في جواز ارتكاب التخصيص أو التأويل في موثّقة (١) ابن بكير بواسطة الأخبار الخاصّة الواردة في السنجاب ، فراجع (٢).

هذا ، مع أنّ الصحيحتين بمقتضى إطلاقهما تعمّان النساء ، وقد عرفت آنفا أنّ النهي بالنسبة إليهنّ محمول على الكراهة ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ الصحيحتين وإن كانتا أقوى سندا من حيث الاتّصاف بالصحّة المصطلحة ولكن رواية الحلبي أوثق منهما من حيث الشهرة بين الأصحاب فتوى ورواية ، فهي من الروايات المشهورة التي لا ريب فيها.

هذا ، مع أنّ الترجيح فرع عدم إمكان الجمع من حيث الدلالة ، وستعرف إمكانه.

وأمّا ما قيل (٣) من أقربيّة هذه الرواية إلى التقيّة وأنّ دلالتها على نفي الصحّة في غيرها إنّما هي بالمفهوم الضعيف ، فهو من غرائب الأوهام ، كيف! وهذه الرواية كالنصّ في أنّ الحرير ممّا لا تجوز الصلاة فيه ، وأنّ المنع عنه وعن غيره ممّا لا تجوز الصلاة فيه إنّما هو فيما إذا لم يكن ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده ، كالتكّة من الإبريسم والقلنسوة ونحوها. وأمّا الصحيحتان : فالغالب على الظنّ كونهما رواية واحدة وقد وقع الاختلاف في نقلها من حيث التعبير باللفظ أو المضمون.

وكيف كان فهما من الأخبار التي يلوح منها آثار التقيّة ، فإنّهما مع كونهما

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

(٢) ص ٢٧١ وما بعدها.

(٣) القائل هو الطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ٣٢٨.

٣٣٠

من المكاتبة التي قد يقوى فيها احتمال التقيّة تشتمل أولاهما على نفي البأس عن الصلاة في وبر الأرانب مشروطا بالتذكية ، ومعلّقا على المشيئة (١) ، وهذه جميعها من أمارات التقيّة ، وقد أعرض الأصحاب عنها بالنسبة إلى هذه الفقرة ، وحملوها على التقيّة ، فكيف يدّعى مع ذلك إباؤها عن التقيّة وترجيحها على رواية الحلبي ، التي ليست فيها شائبة التقيّة أصلا!؟

بل ربما يستشعر التقيّة أيضا ممّا وقع فيهما من التعبير بأنّه «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض» أو «في حرير محض» حيث إنّهم ـ على ما حكي عنهم ـ يقولون بحرمة لبسه وصحّة الصلاة الواقعة فيه (٢) ، فالعدول عن التصريح بالمنع عن الصلاة فيه إلى التعبير بنفي الحلّيّة القابل للحمل على إرادة حرمة لبسه حال الصلاة لا بطلان الصلاة الواقعة فيه يشعر بصدوره تقيّة.

وكيف كان فالأقوى ما عن المشهور من القول بالجواز (و) لكنّ (الأظهر) أنّه على سبيل (الكراهية) كما في المتن وغيره ؛ تنزيلا للصحيحتين بالنسبة إلى ما لا تتمّ فيه الصلاة ـ كما هو موردهما ـ عليها إمّا بإدراجه فيما لا يحلّ من باب التغليب ، أو على سبيل عموم المجاز.

وأمّا احتمال التخصيص وعدم كون المورد ملحوظا رأسا في إطلاق الجواب لنكتة مقتضية لإهماله فهو في غاية البعد خصوصا على تقدير تعدّد الروايتين ، كما هو مقتضى ظاهرهما.

__________________

(١) راجع ص ٣٠٣.

(٢) الأم ١ : ٩١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٧٣ ، المجموع ٣ : ١٨٠ ، وحكاه عنهم النراقي في مستند الشيعة ٤ : ٣٤٨.

٣٣١

وكذا احتمال إرادة التقيّة بقوله : «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» مع مخالفته بظاهره لفتوى العامّة أيضا ، لا يخلو عن بعد وإن قوّينا هذا الاحتمال بالنسبة إلى سائر فقرات الصحيحة ، بل بالنسبة إلى نفس هذه الفقرة أيضا من حيث التعبير بعدم الحلّيّة ، لكنّ الظاهر إرادة بيان الحكم الواقعي بهذه العبارة المناسبة للتقيّة ، لا التقيّة في أصل الحكم ، مع أنّه لا يعتنى باحتمال التقيّة ولو في بعض فقرات الرواية مع إمكان العمل بها والجمع بينها وبين ما ينافيها بتخصيص أو تأويل كما فيما نحن فيه ، والله العالم.

ثمّ إنّ المدار في كون الثوب ممّا تتمّ فيه الصلاة وحده على الشأنيّة والاستعداد ، لا على الفعليّة ، فلا تجوز الصلاة في العمامة ونحوها من الثياب الصغيرة المركّبة من طيّات عديدة ممّا يمكن ستر العورة به على تقدير تغيير وضعه ، ويعتبر فيما لا تتمّ فيه الصلاة وحده كونه كذلك من حيث الصغر كالتكّة والقلنسوة ، لا من حيث الرقّة ونحوها ، كما يظهر وجه ذلك كلّه ممّا أسلفناه في مبحث النجاسات.

(ويجوز الركوب عليه) أي على الحرير المحض (وافتراشه على الأصحّ) وفاقا للمشهور كما ادّعاه غير واحد ، بل في المدارك : أنّه المعروف من مذهب الأصحاب (١).

وحكي عن المصنّف رحمه‌الله في المعتبر التردّد فيه ، منشؤه الصحيحة الآتية (٢)

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٧٩.

(٢) في ص ٣٣٤.

٣٣٢

الدالّة على الجواز ، وعموم التحريم على الرجال (١).

واعترضه غير واحد (٢) ممّن تأخّر عنه : بأنّ المحرّم لبسه ، كما هو المنساق من أدلّته حتى من مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذان محرّمان على ذكور أمّتي» (٣) فإنّ المتبادر منه إرادة لبسهما ، وهو غير الافتراش ، مع أنّ الصحيحة أخصّ مطلقا منه ، فلا مقتضي للتردّد فيه.

وحكي عن المختلف أنّه نسب القول بالمنع إلى بعض المتأخّرين ، قال في محكيّ المختلف ـ بعد الحكم المذكور ـ : ومنع بعض المتأخّرين من ذلك ؛ لعموم المنع عن لبس الحرير. وليس بمعتمد ؛ لأنّ منع اللّبس لا يقتضي منع الافتراش ؛ لافتراقهما في المعنى (٤). انتهى.

وفي الحدائق ـ بعد نقل ما سمعته عن المختلف ـ قال : لا يبعد أن يكون كلام المختلف إشارة إلى منع صاحب المعتبر وإن كان على جهة التردّد حيث لم ينقل فيما وصل إلينا عن غيره (٥). انتهى.

وفي المدارك ـ بعد أن حكى عن المختلف نسبة القول بالمنع إلى بعض المتأخّرين ـ قال : وهو مجهول القائل والدليل (٦).

واعترضه في الجواهر : بأنّه حكي عن ابن حمزة في آخر كتاب المباحات

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٨٩ ـ ٩٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٩٩.

(٢) كالعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨٠ ، والشهيد في الذكرى ٣ : ٤٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٩٩ ، الهامش (٤).

(٤) مختلف الشيعة ٢ : ٩٩ ، المسألة ٣٩ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٩٩.

(٥) الحدائق الناضرة ٧ : ٩٩.

(٦) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٠.

٣٣٣

التصريح بالمنع ، فقال : وما يحرم عليه لبسه يحرم فرشه والتدثّر به والاتّكاء عليه وإسباله سترا ، بل عن المبسوط مثل ذلك أيضا (١). انتهى.

وكيف كان فالقول بالمنع على تقدير تحقّقه ضعيف ؛ إذ لا دليل عليه عدا ما أشار إليه في محكيّ المعتبر من عموم التحريم على الرجال (٢).

وفيه : ما تقدّمت الإشارة إليه من اختصاصه باللّبس ، فمقتضى الأصل جواز ما عداه ممّا لا يصدق عليه اسم اللّبس من الافتراش والركوب عليه وغير ذلك.

وممّا يدلّ على المشهور ـ مضافا إلى الأصل ـ صحيحة عليّ بن جعفر ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الفراش الحرير ومثله من الديباج والمصلّى الحرير هل يصلح للرجل النوم عليه والتكأة والصلاة عليه؟ قال : «يفترشه ويقوم عليه ولا يسجد عليه» (٣).

وربما يؤيّد المنع ما عن الفقه الرضوي أنّه قال : «ولا تصلّ على شي‌ء من هذه الأشياء إلّا ما يصلح (٤) لبسه» (٥) وكأنّه أراد بهذه الأشياء الميتة والحرير والذهب.

ولكنّك عرفت مرارا أنّ الرضوي لا ينهض حجّة فضلا عن صلاحيّته لمعارضة ما عرفت.

تنبيه : في المدارك ـ بعد أن صرّح باختصاص النهي باللّبس دون الافتراش ـ

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ١٢٧ ، وراجع : الوسيلة : ٣٦٧ ، والمبسوط ١ : ١٦٨.

(٢) راجع : الهامش (١) من ص ٣٣٣.

(٣) الكافي ٦ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ / ٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ١٥٥٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٤) في المصدر : «ما لا يصلح».

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٨.

٣٣٤

قال : وفي حكم الافتراش التوسّد عليه والالتحاف به ، أمّا التدثّر به فالأظهر تحريمه ؛ لصدق اسم اللّبس عليه (١). انتهى.

واعترضه غير واحد ممّن تأخّر عنه : بمنع صدق اسم اللّبس على التدثّر ، فهو أيضا ـ كالالتحاف والتوسّد ـ بحكم الافتراش.

أقول : ربما يظهر من كتاب مجمع البحرين صدق اسم اللّبس على التدثّر ، قال في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (٢) أي المتدثّر بثيابه ، وهو اللابس. الدثار : الذي هو فوق الشعار. والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه : تدثّر ، أي لبس الدثار وتلفّف به (٣). انتهى.

وعن بعض (٤) تفسير التدثّر بالتغطّي ، فعلى هذا لا يصدق عليه اسم اللّبس.

وكيف كان فالمدار في الحرمة على صدق إطلاق اللّبس حقيقة ، والمرجع لدى الشكّ في الصدق أصالة البراءة ، والله العالم.

(وتجوز الصلاة في ثوب مكفوف به) كما لعلّه المشهور ، بل عن بعض (٥) دعوى الإجماع عليه.

ولكن حكي عن القاضي (٦) والسيّد (٧) في بعض مسائله ، وعن ظاهر

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٠.

(٢) المدّثّر ٧٤ : ١.

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٣٩٩ «دثر».

(٤) راجع : مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٣٨٣.

(٥) الطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٢٩.

(٦) المهذّب ١ : ٧٤ ـ ٧٥ ، والحاكي عنه هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٠٤ ، المسألة ٤٤.

(٧) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨١ ، الهامش (٢) نقلا عن بعض رسائله.

٣٣٥

الكاتب (١) : المنع عنه. وعن جماعة من المتأخّرين (٢) الميل إليه ؛ لعموم منع الرجال عن لبس الحرير المحض والصلاة فيه.

وفيه : أنّ ما دلّ على المنع عن الصلاة في ثوب إبريسم محض وحرمة لبسه لا يعمّ الثوب المركّب من الحرير وإن كان التركيب بانضمام قطع الحرير إلى غيره وجعل المجموع ثوبا واحدا ، فإنّ الثوب لا يصدق على أبعاضه ، ولا يصدق على المجموع أنّه ثوب إبريسم محض ، خصوصا إذا كان معظم أجزائه من غير الحرير ، كما فيما نحن فيه.

نعم ، يصحّ الاستشهاد للمنع بإطلاق مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار : «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» (٣) بدعوى صدقه على ما إذا كان جزءا من اللباس.

ولكن يتوجّه على هذا أيضا ـ بعد الغضّ عن إمكان دعوى انصرافه عن ذلك ـ أنّه يتعيّن صرفه عنه ؛ جمعا بينه وبين رواية يوسف بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بالثوب أن يكون سداه وزرّه وعلمه حريرا ، وإنّما يكره الحرير المبهم للرجال» ورواه الصدوق بإسناده عن يوسف بن محمّد بن إبراهيم (٤).

وخبر أبي داود يوسف بن إبراهيم ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام و

__________________

(١) الحاكي عنه هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٠٠ ، المسألة ٤٠.

(٢) منهم : العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨١ ، والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٢٢ ، والحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٢٩.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٣٠٤ ، الهامش (١).

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٣٠٢ ، الهامش (٤).

٣٣٦

عليّ قباء خزّ وبطانته خزّ وطيلسان خزّ مرتفع ، فقلت : إنّ عليّ ثوبا أكره لبسه ، فقال : «وما هو؟» قلت : طيلساني هذا ، قال : «وما بال الطيلسان؟» قلت : هو خزّ ، قال : «وما بال الخزّ؟» قلت : سداه إبريسم ، قال : «وما بال الإبريسم؟ لا يكره أن يكون سدى الثوب إبريسم ولا زرّه ولا علمه ، وإنّما يكره المصمت من الإبريسم للرجال ، ولا يكره للنساء» (١).

وظاهر الخبرين اختصاص الحرمة بما إذا صدق على الثوب أنّه حرير محض ، فلا يلاحظ أجزاؤها من حيث هي على سبيل الاستقلال.

وتوهّم إمكان تخصيص الخبرين بغير حال الصلاة مدفوع :

أوّلا : بأنّ من الواضح أنّه لو كان الثوب الذي أريد في الرواية نفي البأس عنه محرّما لبسه في الصلاة ، لم يكن الإمام عليه‌السلام ينفي الكراهة عنه على الإطلاق.

وثانيا : أنّ الخبرين بمنزلة المفسّر للحرير المحض الذي علّق عليه حرمة اللّبس والصلاة فيه في سائر الأخبار.

واستدلّ له أيضا بخبر جرّاح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج ، ويكره لباس الحرير ولباس الوشي ، ويكره الميثرة الحمراء فإنّها ميثرة إبليس» (٢).

ونوقش فيه : بأنّ الكراهة أعمّ في عرفهم من الكراهة المصطلحة ، كما يؤيّد ذلك تتمّة الرواية حيث تعلّقت الكراهة فيها بالأشياء التي بعضها محرّم وبعضها

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٠٢ ، الهامش (١).

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٧ ، و ٦ : ٤٥٤ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٣٦٤ / ١٥١٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٩.

٣٣٧

مكروه.

وبالخبر العامّي عن أسماء أنّه كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جبّة كسروانيّة لها لبنة (١) ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج (٢).

وخبر عمر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الحرير إلّا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع (٣).

ولا بأس بذكرهما في مقام التأييد ، وإلّا فلا يعوّل على مثل هذه الأخبار في إثبات حكم شرعيّ ، مع أنّ تماميّة الاستدلال بأوّلهما مبنيّ على أن يكون الديباج اسما للحرير المحض ، وهو لا يخلو عن تأمّل ، وأمّا ثانيهما فمقتضاه اختصاص الجواز بموضع الأربع أصابع فما دون ، والمنع عمّا زاد على ذلك ، وقد شاع التحديد بذلك فيما بين الأصحاب بحيث نسبه بعض (٤) إلى المشهور ، وآخر (٥) إلى الأصحاب ، فمن هنا قد يترجّح في النظر صحّة هذا التحديد ، وجواز التعويل على ذلك الخبر ؛ إذ الظاهر أنّ مستند هذا التحديد ـ الذي اشتهر بين الأصحاب ـ ليس إلّا هذه الرواية ، فهي لدى الأصحاب متلقّاة بالقبول ، وهذا من أبين أنحاء التبيّن الذي يجوز معه العمل بكلّ رواية.

ولكنّ الأقوى خلافه ؛ فإنّ رفع اليد عن مقتضيات الأصول والقواعد وارتكاب التأويل في ظواهر الأدلّة المعتبرة بمثل هذه المراسيل مشكل ، واعتماد

__________________

(١) اللبنة : هي رقعة تعمل موضع جيب القميص والجبّة. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٤ : ٢٣٠ «لبن».

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٦٤١ / ٢٠٦٩.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٦٤٣ ـ ١٦٤٤ / ١٥ ، سنن أبي داود ٤ : ٤٧ / ٤٠٤٢ ، سنن الترمذي ٤ : ٢١٧ / ١٧٢١.

(٤) الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٨٥.

(٥) الشيخ نجيب الدين في شرحه كما حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٥٦.

٣٣٨

من حدّد الكفّ ونحوه بالأربع أصابع على خصوص هذا الخبر غير معلوم كي يدّعى انجبار ضعفه بالعمل ، فالأصل في المقام إنّما هو ظواهر الأدلّة المتقدّمة التي قد عرفت أنّ مفادها إنّما هو حرمة لبس الحرير المحض ، ولا يتحقّق هذا المفهوم عرفا إلّا إذا صدق على الملبوس من حيث هو أنّه حرير محض ، دون ما إذا كان الحرير المحض جزءا منه ، خصوصا إذا كان مثل الكفّ ونحوه ممّا يعدّ عرفا من توابع اللباس ، لا من مقوّمات موضوعه ، بل قد أشرنا إلى أنّ المتبادر من «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» (١) من حيث هو مع قطع النظر عن القرائن الخارجيّة أيضا ليس إلّا ذلك ؛ حيث إنّ ظاهره إرادة الظرفيّة الحقيقيّة بأن يكون الحرير المحض لباسا للمصلّي ، لا متعلّقا به أو بلباسه بنوع من أنواع العلائق ، كالكف والعلم ونحوه.

نعم ، لا يبعد دعوى صدق لبس الحرير المحض والصلاة فيه على ما إذا كان جزءا مستقلّا من اللباس بحيث لو انفصل عن الجزء الآخر لعدّ بنفسه لباسا مستقلّا ، فالأظهر في مثل الفرض عدم جواز الصلاة فيه وحرمة لبسه.

ولا ينافيه الخبران (٢) المتقدّمان ، فإنّه وإن لا يصدق على المجموع المركّب الذي هو ثوب واحد بالفعل أنّه المصمت من الإبريسم ، أو أنّه الحرير المبهم ، ولكن لا يبعد دعوى انصراف الخبرين عن مثل هذا الثوب الذي يكون جزؤه الحرير بمنزلة لباس مستقلّ.

وممّا يؤيّد أيضا نفي البأس عن الكف والعلم ونحوهما رواية الحلبي ،

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٠٤ ، الهامش (١).

(٢) أي خبرا أبي داود يوسف بن إبراهيم ويوسف بن ـ محمّد بن ـ إبراهيم ، المتقدّمان في ص ٣٠١ و ٣٠٢.

٣٣٩

المتقدّمة (١) الدالّة على نفي البأس عن كلّ ما لا تتمّ فيه الصلاة وحده ؛ فإنّها بإطلاقها شاملة لمثل الكف وأشباهه ، إلّا أنّ المتبادر منها إرادة الألبسة المستقلّة ، كالقلنسوة والتكّة ونحوهما ، ولذا جعلناها من المؤيّدات لا الأدلّة ، مع أنّه لا يبعد أن يدّعى أنّ انصرافها عن مثل العلم والكف ونحوهما من توابع الثوب وأجزائه بدويّ منشؤه خفاء صدق وقوع الصلاة فيه من حيث عدم ملاحظته على سبيل الاستقلال ، لا خفاء إرادته من الرواية على تقدير الصدق ، فليتأمّل.

واستدلّ للقول بالمنع ـ مضافا إلى العمومات التي عرفت حالها ـ بموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الثوب يكون علمه ديباجا ، قال : «لا يصلّي فيه» (٢).

وفيه : أنّ الخبرين المتقدّمين (٣) المعتضدين بغيرهما ممّا عرفت نصّان في نفي البأس عن العلم ، فيجمع بينهما وبين الموثّقة بحمل النهي على الكراهة ، كما صرّح به في محكيّ الذكرى (٤) وغيره.

ولكن قد يقال بأنّ الموثّقة إنّما دلّت على النهي عن الصلاة في الثوب الذي يكون علمه ديباجا ، فيمكن الجمع بينها وبين الخبرين بتخصيص الجواز بغير حال الصلاة.

ويدفعه ما تقدّمت الإشارة إليه آنفا من بعد ارتكاب التخصيص في

__________________

(١) في ص ٣٢٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٢ / ١٥٤٨ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٨.

(٣) في ص ٣٠١ و ٣٠٢.

(٤) الذكرى ٣ : ٤١ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٩٨.

٣٤٠