النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

الشهوة التى هى كالعبد الجالب للطعام إلى المدينة قد يكون خبيثا مكارا مخادعا يتمثل بصورة الناصح لكن يجلب نصحه كل شر هائل ، وسم قاتل ، وتكون عادته منازعة الوزير الناصح فى كل تدبيره ، وكما أنه يجب على الملك العاقل أن يسلط وزيره الناصح على العبد الجالب للطعام المخادع ثم على صاحب الشرطة ، وان لا يلتفت إلى تخليطها فى حق الوزير ، ليستقيم أمر المدينة ، فكذا (١) النفس الناطقة متى استنار بنور العقل واستضاء بضوء العلم والحكمة ، وجعل الشهوة والغضب مقهورين استقام أمر هذه الحياة الجسمانية (الورقة ٢٧٤ ظ) ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فى حقه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). وقال : (وَاتَّبَعَ هَواهُ (٤ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (٢) (٥ ، وقال : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٦ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

المثال الثالث : البدن كالمدينة (٧ ، والنفس الناطقة كالملك ، والحواس الظاهرة والباطنة كالجنود والاعضاء كالرعية والشهوة والغضب كعدو ينازعه فى مملكته ويسعى فى اهلاك رعيته ، فان قصد الملك قهر ذلك العدو استقامت المملكة وارتفعت الخصومة ، كما قال الله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (٨ ـ وان لم ينازع عدوه وضيع مملكة اختلت مملكته ، وصارت عاقبة امره الى الهلاك.

المثال الرابع : مثل النفس الناطقة مثل فارس (٩ ركب لأجل

__________________

(١) المخطوطة : فكذى

(٢) أيضا : القلب ،

٨١

الصيد ، فشهوته فرسه وغضبه كلبه ، فمتى كان الفارس حاذقا وفرسه مرتاضا منقادا وكلبه معلما كان جديرا بالنجح ، ومتى كان فى نفسه اخرق ، وكان الفرس جموحا ، والكلب عقورا فلا فرسه ينبعث تحته على حسب ارادته ولا كلبه يسترسل باشارته فهو خليق بان يعطب فضلا من ان ينال ما طلب.

المثال الخامس : اعلم ان بدنك نسبته نسبة الدار الكاملة التى بنيت واكملت بنوتها وخزانتها وفتحت ابوابها ، واعد فيها كلما يحتاج إليه صاحب الدار ، فالرأس كالغرفة فى اعلى الدار والثقب التى فى الرأس والمنافذ كالروازن والرواس فى غرفة الدار وسط دماغه كالانوار فى الدار والعين كباب الغرفة ، والانف كالطاق الّذي فوق باب الدار ، والشفتان كمصراعى الباب (١) ، والاسنان كالبوابين ، واللسان كالحاجب ، والظهر كالجدار القوى الّذي هو حصن الدار ، والوجه كصدر الدار ، والرية التى هى الجاذبة للنفس البارد كالبيت الصيفى ، وجريان النفس فيها كالهواء الّذي يجرى فى البيت الصيفى ، والقلب مع حرارته الغريزية كالبيت الشتوى ، والمعدة مع نضج الغذاء فيها كالمطبخ ، والكبد مع حصول الدم فيها كبيت الشراب ، والعروق التى يجرى فيها الدم كما لك الدار ، والطحال بما فيه من السوداء كالجوابى (٢) (١٠ التى بقيت فيها الدرديات والمرارة بما فيها من الصفراء الحارة كبيت السلاح ، والامعاء بما فيها من ثفل الطعام كبيت الخلاء ، والمثانة بما فيها

__________________

(١) المخطوطة : الدار

(٢) أيضا : كالخوالى

٨٢

من البول كبيت البير ، والمسيلان (١) فى اسفل البدن كالمواضع التى تخرج منها القاذورات من الدار ، والرجلان كالمركب المطيع ، والعظام مع بناء الجسد عليها كالخشب التى عليها بناء الدار ، واللحم فى خلال العظام كالطين والعصب الّذي يربط به بعض العظام كالصناديق ، فسبحان من هيأ فى بيت بدنك بمسامير نفسك الناطقة هذه المصالح العجيبة والبدائع الغريبة ، فهذا ما يتعلق ببيوت هذه الدار.

ثم ان النفس الناطقة فى هذه الدار كالملك والمتصرف ، فيبصر بالعين ويسمع بالإذن ، ويشم بالمنخرين ، ويذوق باللسان ، وينطق بالفم ، ويمسك باليدين ، ويعمل الصنائع بالاصابع ، ويمشى بالرجلين ، ويبرك على الركبتين ، ويقعد على الاليتين ، وينام على الجنبين ، ويستند بالظهر ويحمل الاثقال على الكتفين ويتخيل (الورقة ٢٧٥ و) بمقدم الدماغ ويتفكر بوسط الدماغ ، ويتذكر بمؤخر الدماغ (١١ ، ويصوت بالحنجرة ، يستنشق الهواء بالخيشوم ، ويمضغ بالاسنان ويبتلع بالمريء ، والمقصود من كل هذه الآلات والأدوات أن يتحلى بحلية العلم أى يتكيف بكيفية العرفان ، وتصير هذه النفس متنفسة (٢) بنفس الملكوت ، متحلية بنور اللاهوت.

ثم أنه تعالى فوض تدبير هذه المملكة إلى ثلاثة من الرؤساء (١٢ :

وأحد منهم هو الشهوة وسلطنتها فى الكبد وجريانها مع الدم فى

__________________

(١) المخطوطة : السيلان

(٢) أيضا : منتفسه

٨٣

العروق الساكنة ، ولهذا المعنى قال عليه‌السلام : «ان الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم (١٣ ، وذلك لأن القوة الشهوانية لا تسرى إلا من الكبد مع الدم فى العروق».

والرئيس الثانى منهم هو قوة الغضب ومسكنها القلب وهى تجرى فى العروق المتحركة إلى جميع أطراف البدن.

والرئيس الثالث القوة النفسانية المدبرة ومسكنها الدماغ ، وهى تجرى فى الأعضاء إلى جميع أطراف البدن.

ثم هؤلاء الرؤساء الثلاثة ليسوا أشياء متباينة مستقلة بأنفسها بل هى كالفروع المتفرعة من أصل واحد ـ والاغصان النابتة من شجرة واحدة ، والمنبع الّذي يتشعب منه ثلاثة أنهار ، والأب الّذي يتولد منه أولاد كثيرون ، وكرجل يعمل أعمالا ثلاثة تسمى بثلاثة أسماء : الحداد والمصايغ والبناء.

فهذه الثلاثة كملوك الأطراف الذين ولا هم الملك الأعظم ، فالشهوة تشبه أفعالها أفعال النساء والصبيان والحمقى من الناس إذا لم يرد بهم آباءهم وأزواجهم ، والغضب تشبه أفعاله أفعال العيارين والقتالين إذا لم يرد بهم الملوك ، والقوة النفسانية المدبرة تشبه أفعالها أفعال الحكماء والفقهاء وأهل الخير والصلاح.

٨٤

الفصل العاشر

فى ان النفس الناطقة هل هى شيء متحد بالنوع أو مختلف

بالنوع؟

نقل محمد بن زكريا عن القدماء لا سيما أفلاطن أن جميع النفوس الإنسانية متساوية فى الجوهر والماهية إلا أنها لأجل الآلات (١) المختلفة تختلف أفعالها ، ولأجل هذا المذهب جوزوا التناسخ على النفوس.

أما الشيخ أبو (٢) على بن سينا ، فإنه نقل عن أرسطاطاليس واتباعه ان النفوس البشرية نوع مخالف بالماهية والحقيقة لنفوس سائر الحيوانات إلا أن النفوس البشرية ماهية واحدة نوعية ، وإنما يخالف بعضها بعضا بالذكاء والبلادة والعفة والفجور وسائر الأخلاق بسبب اختلاف الامزجة البدنية ، وهذا هو الّذي بصره الشيخ أبو على ، وذهب جماعة من قدماء الحكماء وجماعة من المتأخرين ان النفوس الناطقة البشرية جنس يدخل تحته أنواع ، وقد يكون بعضها يخالف البعض فى الماهية الذاتية والطبيعية الحقيقية ، فيكون بعضها خيرا لذاته ، وبعضها شريرا لذاته.

ثم إن القائلين بهذا القول ترددوا فى أنه هل حصل فى الوجود نفسان متساويان فى تمام الماهية لا الحقيقة ، أو لم يوجد فى ذلك بل يكون كل نفس بأن نوعها لم يحصل إلا فى شخصها شخص واحد.

__________________

(١) المخطوطة : آلات

(٢) أيضا : ابن

٨٥

وأعلم ان الأقوال النبوية دالة على أن النفوس البشرية قد تكون (الورقة ٢٧٥ ظ) مختلفة بالماهية (١ ـ قال عليه‌السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة (٢ ، وقال : النفوس جنود مجندة (٣ ، وقال فى الكتاب الالهى : فطرة الله التى فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله» (٤.

والّذي يدل على أن النفوس الناطقة قد تكون مختلفة بالماهية والحقيقة هو انا نرى الإنسان قد يكون مجبولا على الشر والنذالة ، ولو أن ذلك الإنسان يحمل من المجاهدات ما لا يمكن الزيادة عليه لم يتغير أصلا عن طبيعة الإيذاء ، بل قد يصير بسبب المجاهدة أو بسبب الزواجر أن يترك تلك الأفعال فلا يقدم عليها ، فأما لو ترك بنفسه مع مقتضى أصل جبلتها فإنها تميل إلى ذلك الشر ، وأيضا ربما انتقل مزاجه من الحرارة إلى البرودة ومن الرطوبة إلى اليبوسة وبالعكس ، ويكون مقتضى أصل خلقته ما فيه ولا يتغير.

وأيضا قد يكون الإنسان بخيلا بمقتضى أصل الفطرة ، ثم أنه لو صار ملك الأرض وملك خزائن الدنيا ، فإنه لا يزول عن جوهر نفسه ذلك البخل ، وقد يكون جوادا بمقتضى أصل الفطرة ـ فلو صار مع ذلك أفقر الخلق ثم وجد قليلا من المال فإنه لا يزول عن جوهر فطرته ذلك الجود.

فلما رأينا هذه الأحوال الأصلية لا تنتقل ولا تتبدل الامزجة ولا باختلاف المعلمين (علمنا) أنها من لوازم الماهية الأصلية ـ فأما إذا رأينا انسانين متساويين فى الجود والبخل والسرقة والقوة وغيرها من الصفات ، فهذا لا يدل على تساوى تيك النفسين فى تمام الماهية ،

٨٦

لما ثبت أن الأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها فى اللوازم الكثيرة ، فعلى هذا لا يمكننا القطع يتماثل شيء من النفوس بل يبقى الاحتمال فى أصل الكل.

احتج من قال بتماثل النفوس البشرية فى الماهية بأن قال لا شك أنها متساوية فى كونها نفوسا ناطقة ، فلو اختلفت بعد ذلك فى أمر آخر دار بها (١) ، لكان ما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيلزم وقوع التركيب فى ذات كل واحد من هذه النفوس.

وكل مركب فإنه جسم ، فالنفس الناطقة جسم ، هذا خلف.

واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لوجوه :

الأول أنه لا معنى لكونها نفوسا إلا أنها امور مدبرة لهذا (٢) البدن ، وكونها مدبرة لهذا البدن وصف إضافى عرضى ـ فلم لا يجوز أن يقال جوهر النفس مختلف فى تمام ذواتها ، وإنما اشتراكها فى هذه الصفة العرضية الخارجية ، وعلى هذا التقدير لا يلزم وقوع التركيب فى ماهياتها ، فإن البسائط الموجودة المختلفة بتمام ماهياتها مشتركة فى كونها موجودة ومذكورة ومعلومة ولم يلزم وقوع التركيب منها.

الثانى سلمنا أن النفوس البشرية متساوية فى صفة ذاتية ، ثم أنها مختلفة أيضا فى صفة ذاتية فلا نزاع انه يلزم كونها مركبة فى ماهياتها ، فلم قلتم أن هذا التركيب محال.

أما قوله كل مركب جسم فهو مما لم يثبت بالبرهان ، والّذي

__________________

(١) المخطوطة : دلرها

(٢) أيضا : لهذه

٨٧

يدل على قولنا أن الحكماء قالوا ، الجوهر جنس يدخل تحته أقسام خمسة : العقل والنفس ، والجسم والصورة والهيولى.

فنقول : العقل يشارك الجسم فى الطبيعة الجنسية الجوهرية ، ويخالفه (١) فى خصوص كونه عقلا ، فيكون العقل المجرد مركبا (٢) ومشتركا فى ماهيته مع أنه ليس بجسم ، فكذا (٣) هاهنا.

(الورقة ٢٧٦ و)

الفصل الحادى عشر

فى بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات

الحسية ،

اعلم أن الغالب على الطبائع انفاسه ، وإن أقوى اللذات وأكمل السعادات لذة المطعم والمنكح والملك ، فان لا يغتذوا (٤) لذة ، ولا ليجدوا المطاعم اللذيذة فى الآخرة ، ولا ليجدوا المناكح الشهية هناك ، وهذا القول يزول عند المحققين وارباب المجاهدات ويدل عليه وجوه :

الحجة الاولى لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة وإمضاء الغضب لكان الحيوان الّذي هو أقوى فى هذا الباب ألذ وأقوى (١ من الإنسان ، فالأسد أقوى على تسلط الغضب والعصفور أقوى على

__________________

(١) المخطوطة : ومخالفها

(٢) أيضا : حركتا

(٣) أيضا : فكذى

(٤) أيضا : فان لا تعبدوا

٨٨

النكاح من الإنسان ، ولما لم يكن كذلك علمنا ان سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور.

الحجة الثانية : كل شيء يكون سببا لحصول السعادة والكمال ، فكلما كان ذلك الشيء أكثر حصولا كانت السعادة والكمال أكثر حصولا ، فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سببا لكمال حال الإنسان وسعادته لكان الإنسان كلما أكثر اشتغالا بقضاء الشهوات البطنية والفرجية كان أكمل إنسانية وأعلى درجة ، لكن التالى باطل ، لأن الإنسان إذا أكل بقدر الحاجة ، فإن زاد على ذلك كان مضرا (٢ وعد عليه ذلك من الدناءة والنهمة ، وكذا (١) القول فى جميع اللذات البدنية ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الاشتغال بقضاء الشهوات ليس من السعادات والكمالات بل من دفع الحاجات.

الحجة الثالثة : أن الإنسان يشاركه فى لذة الأكل والشرب جميع الحيوانات ، (حتى) الخسيسة منها ـ فلو كانت هى السعادة والكمال لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة فى ذلك على الحيوانات ، فإن الجعل يلتذ بأكل السرجين كما يلتذ الإنسان بالسكر واشباهه.

وتقرير هذا أن نقول : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الحسية لوجب أن يكون الإنسان اخس الحيوانات ، والتالى معلوم الفساد بالضرورة ، فكذلك المقدم فليس وجه الملازمة.

فنقول : إن الحيوانات الحسيسة مشاركة للإنسان فى هذه اللذات

__________________

(١) المخطوطة : كذى

٨٩

الحسية البدنية ، إلا أن الإنسان تنتقص عليه هذه اللذات بسبب حصول القوة العقلية ، فإن العاقل إذا تأمل فى الماضى ، فذلك الماضى إن كان لذيذا طيبا تألم قلبه بسبب فواته ، وإن كان منافيا مؤذيا تألم قلبه بسبب تذكره ـ وإن تأمل فى الحال فهو لا يرضى بما كان حاصلا بل يطمع (١) نفسه إلى الزيادة عليها ، وإن تأمل المستقبل لم يعرف أن حاله فى المستقبل كيف يكون فيستولى عليه الخوف الشديد ، فثبت ان الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان فى اللذات الحسية البدنية إلا أن الإنسان تنتقص (٢) عليه تلك اللذات بسبب العقل وساير الحيوانات لا تنتقص (٣) عليها ولا تفتكر فيها لكونها فاقدة العقل.

ومعلوم أن حصول الكمال بشرط الخلو عن التنقيص (٤) يكون أشرف من حصوله مع الكد والنقص (٥) ، وذلك يدل على أن هذه اللذات الحسية البدنية لو كانت (الورقة ٢٧٦ ظ) موجبة لكمال الحال لكان الإنسان اخس من النمل والدود والذباب ، ولما كان هذا التالى باطلا ، علمنا أن هذه اللذات الحسية موجبة للغبطة والسعادة.

الحجة الرابعة أن هذه اللذات الحسية إذا بحث عنها فهى ليست لذات (٣ بل حاصلها يرجع إلى دفع الآلام ـ والدليل عليه أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا كان التذاذه بالاكل اتم ، وكلما كان الجوع أقل

__________________

(١) المخطوطة : يطمح

(٢) أيضا : تتنغص

(٣) أيضا : تتنغص

(٤) أيضا : التنغيص

(٥) أيضا : مع المكد والمنغص

٩٠

كان الالتذاذ بالأكل أقل ، وأيضا إذا طال عهد الإنسان بالوقاع واجتمع المنى فى أوعيته ، حصلت فى تلك الأوعية دغدغة شديدة وتمدد وثقل وكلما كانت هذه الأحوال أكثر كانت اللذة الحاصلة عند ادفاع ذلك المنى أشد ، ولهذا السبب فإن لذة الوقاع فى حق من طال عهده بالوقاع يكون أكمل منها فى حق من قرب عهده به ـ فثبت أن هذه الأحوال التى ظن انها لذات جسمانية فهى فى الحقيقة ليست إلا دفع الآلام ـ وهكذا (١) القول فى اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب فإنه لا يمثل (٢) لتلك اللذة إلا بدفع ألم الحر والبرد.

ولما ثبت أن هذه اللذات الجسمانية لا حاصل لها إلا دفع آلام ، فنقول : سعادة الإنسان ليست عبارة عن رفع الآلام ، لأن هذا المعنى كان حاصلا عند عدمه ، فثبت أن السعادة الحقيقية للإنسان أمر مغاير لهذه الأحوال.

الحجة الخامسة هو ان الانسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذى خصمه ، يشارك بسائر الحيوانات (٤). ولا شك انه من حيث انه انسان اشرف من حيث انه حيوان ، فيلزم وقوع التساوى بين (٣) الجهة التى هى (٤) الشريفة وبين الجهة الخسيسة فى موجبات (٥) الشرف والكمال ، وذلك محال.

__________________

(١) المخطوطة : هكذى

(٢) أيضا : فانه لحصل

(٣) أيضا : من

(٤) أيضا : بين

(٥) أيضا : موجات

٩١

الحجة السادسة : العلم الضرورى حاصل بأن بهجة الملائكة وسعادتهم اشرف من بهجة الحيوانات الطيار منها والسابح والسارح فضلا عن الذر والحشرات.

ثم لا نزاع (فى) أن الملائكة ليس لها لذة الاكل والشرب والوقاع ، و (لا) هذه الحيوانات الحسيسة اشرف حالا واعلى درجة من الملائكة المقربين ، ولما كان ذلك باطلا بالبداهة علمنا كون المقدم أيضا باطلا.

واعلم أن هاهنا ما هو اقوى واعلى درجة مما ذكرناه ـ وهو انه لا نسبة لكمال واجب الوجود وجلاله وشرفه وعزته الى احوال غيره ـ مع أن هذه اللذات الخسيسة ممتنعة عليه ـ فعلمنا ان الكمال والشرف قد يحصلان باحوال سوى تحصيل هذه اللذات الجسدانية.

فإن قالوا انما ذلك الكمال لاجل حصول الالهية لكن حصول الالهية فى حق الخلق محال ، فنقول : لا نزاع فى ان حصول الالهية فى حق الخلق محال ، لكنه عليه‌السلام ، قال : تخلقوا باخلاق الله (٥. فيجب علينا أن نعرف معنى ذلك التخلق حتى عرف ان كمال حال الانسان انما يحصل بسبب ذلك التخلق لا بسبب تحصيل اللذات الجسمانية. ومعلوم أن ذلك التخلق لا يحصل الا بقطع الحاجات وافاضة الخيرات والحسنات لا بكثرة الاكل والشرب.

الحجة السابعة ان هؤلاء الذين حكموا بان سعادة الانسان فى تحصيل هذه اللذات (الورقة ٢٧٧ و) البدنية إذا رأوا انسانا اعرض عن طلب هذه اللذات مثل أن يكون مواظبا على الصوم مكتفيا بمباحات الارض ، عظم اعتقادهم فيه ، وزعموا انه ليس من جنس البشر بل

٩٢

هو من زمرة الملائكة ويعدون انفسهم بالنسبة إليه اشقياء اراذل ـ واذا رأوا انسانا مستغرقا فى طلب الاكل والشرب والوقاع معروف الهمة الى أن يحصل اسباب هذه الاحوال معرضا عن العلم والعبادة ، والزهد ، وقضوا (١) عليه بالبهيمية والخلاعة والبطالة والخزى والنكال ولو لا انه تقرر فى عقولهم ان الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص ودناءة وخساسة ، وان الترفع عن الالتفات إليها سعادة وكمال حال ـ وإلا لما كان الأمر على ما قلنا ، ولكان يجب ان يحكموا على المعرض عن تحصيل هذه اللذات بالخسار والنكال ، وعلى المنهمك فى تحصيلها بالسعادة والكمال. ولما لم يكن الأمر كذلك بل كان بالضد منه علمنا صحة ما ذكرناه.

الحجة الثامنة : كل شيء يكون فى نفسه كمالا وسعادة ، وجب ان لا يستحيى (٢) من اظهاره ، بل يجب ان يفتخر باظهاره ، وينجح بفعله.

ونحن نعلم بالضرورة ان احدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الاكل ولا الشرب ولا المناكح ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان فى هذه الاعمال وأيضا فالناس لا يقدمون على الوقاع إلا فى الخلوة. فاما عند حضور الناس فلا احد من العقلاء لا يجد من نفسه تجويز الاقدام عليه ، وذلك يدل على انه فعل خسيس وعمل بحت يستحيى (٣) منه.

وأيضا ، فقد جرت عادة السفهاء ان لا يشتم بعضهم بعضا إلا

__________________

(١) المخطوطة : قضو

(٢) أيضا : لا يستحيا

(٣) أيضا : يستحيا

٩٣

بذكر الفاظ الوقاع. ولو أن واحدا من السفهاء احر يحكى عند حضور الجمع العظيم ان فلانا كيف يراقع زوجته. فان ذلك الرجل يستحيى من ذلك الكلام ويتأذى من ذلك القائل ، وكل هذا يدل على ان ذلك الفعل ليس من الكمالات لا من السعادات بل هو عمل باطل وفعل قبيح.

الحجة التاسعة : كل حيوان كان ميله الى الاكل والشرب والإيذاء اكثر ، وكان قبوله للرياضة اقل كانت قيمته عند الناس اقل ، وكل حيوان كان اقل رغبة فى الاكل والشرب وكان اسرع قبولا للرياضة كان قيمته عند الناس اكثر. ألا ترى ان الفرس الّذي يقبل الرياضة والتعليم والكر والفر والجرى الشديد فإنه يشترى بالثمن الكثير ، والضامر اشد جريا واسبق من البطين السمين ، وكل فرس لا يقبل الرياضة ، ولا هذه الافعال ، ويوضع على ظهره الاكاف (٦) ويحمل الاثقال ويسوى بينه وبين الحمار لا يشترى (١) الا بالثمن القليل ، فإذا كانت الحيوانات التى هى غير ناطقة لم يظهر فضائلها ومنافعها بسبب الاكل والشرب ، بل بأمور أخر. فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل؟

الحجة العاشرة : سكان اطراف الأرض لما لم يكمل عقولهم واخلافهم ومعارفهم لا جرم صاروا فى غاية الخسة والدناءة. ألا ترى ان سكان الإقليم الاول وهم الزنوج ، وسكان الاقليم السابع وهم الصقالبة لما قل نصبهم من المعارف الحقيقية والاخلاق الفاضلة لا جرم تقرر فى العقول حظ درجاتهم ودناءة مراتبهم ،

__________________

(١) المخطوطة : ولا يشترى

٩٤

واما سكان وسط (٧) المعمور لما حازوا المعارف الحقيقية والاخلاق الفاضلة لا جرم أقر كل احد بانهم خير طوائف البشر (الورقة ٢٧٧ ظ) وافضلهم وذلك يدل على ان فضيلة الانسان وكماله لا يظهر إلا بالعلوم والمعارف والاخلاق الفاضلة لا بالاكل والشرب والوقاع.

٩٥

الفصل الثانى عشر

فى شرح ما فى اللذات الحسية من وجوه الذم والنقصان

اعلم أن الشيء قد يكون مذموما (١) لذاته وقد يكون مذموما لغيره ، واللذات الحسية مشتملة على الوجهين.

أما كونها مذمومة لذاتها فيدل عليه وجوه :

الأول وهو الأصل والعمدة فى الباب أن هذه اللذات ليست فى الحقيقة بلذات بل حاصلها يرجع إلى دفع الآلام (١ ، فإنه لا معنى للذة الأكل إلا دفع الم الجوع ، ولا معنى للذة الوقاع ، إلا لدفع المشتهاة (٢) بالمنى لما كثرت واحتفنت فى اوعية المنى أو جبت تمديد تلك الاوعية وحدوث دغدغة مولمة منها ، فاندفاعها يوجب زوال تلك الآلام. ولا معنى للذة الملابس سوى دفع الم الحر والبرد.

بل نقول : إن الإنسان إذا أراد قضاء الحاجة من البول أو الغائط فربما تعذر عليه ذلك لأسباب اضافية من خارج ، فحينئذ يعظم الماء بسبب أمثال هذه الفضلات ، ثم أنه بعد الالم الشديد إذا قدر على دفعها وجد لذة عظيمة وراحة تامة ، وكلما كان ألمه بإمساكها واحتقانها اشد كان التذاذه باندفاعها أشد وأكثر ، وذلك يدل على أن حاصل هذه اللذات دفع الآلام. إذا عرفت هذا ظهر لك هذه الأشياء التى يظن بعض الناس أنها لذات ليست بحقيقة بل هى سعى فى دفع الآلام و

__________________

(١) المخطوطة : مكرما

(٢) أيضا : المسماة

٩٦

اشتغال النفس فى ذلك ألم اخر ، وما كان كذلك فليس من السعادات ولا الكمالات البتة.

الثانى أن الشيء كلما كانت الحاجة إليه أشد كان الالتذاذ به أقوى إذا وجد وبالعكس ، كلما كانت الحاجة إليه أقل واضعف كان الالتذاذ به إذا وجد أقل ، ألا ترى انك رميت قلادة من الدر بين يدى الكلب لم يلتفت إليها ، إذ لا حاجة له بها ولو رميت إليه عظما قفز إليه واختطفه وقاتل عليه من ينازعه ، والإنسان بالعكس من ذلك فإنه يفرح ويهش لوجدان القلادة من الدر ويلتذ إما ليتزين بها أو لينتفع بثمنها. وإن طرح العظم عنده لم يلتفت إليه لعدم الحاجة إليه. فثبت أن اللذة والطلب على قدر الحاجة ، إلا أن الحاجة آفة ومحنة وبلية ، والشيء إذا لم يتم حصوله إلا بالبلاء والمحنة كان هو أيضا كذلك ، فثبت أن هذه اللذات الجسدانية كالحبيص المسموم فى أبدان تلتذ بحلاوته ، وهو وهم سم قاتل.

ولقائل أن يقول هذا الاشكال وارد عليكم فى اللذات الروحانية ، إلا أنا نقول الجواب عنه سيأتى.

الثالث : هذه اللذات بتقدير أن تكون فى أنفسها لذات الا أن الالتذاذ بها لا يحصل إلا حال حدوثها ، فإن استمرت لم يبق الالتذاذ بها فى استمرارها ، والسبب فيه أن اللذة يعتبر فى حصولها إدراك الملائم وانفعاله عنه وذلك لا يحصل إلا فى أول زمان الحدوث. أما بعد ذلك فهو حال الاستمرار والاستقرار ، وفى حال الاستقرار لا يكون الانفعال. فلا يحصل الشعور ، وإذا لم يحصل الشعور لا يحصل الالتذاذ.

٩٧

الرابع أن الإنسان إذا استوفى من هذه اللذات قدر الحاجة والكفاية فإنه لا يلتذ بعد ذلك بما يستعمله منها ، بل يملها (١) ويسأم منها ، ثم بعد حصول (الورقة ٢٧٨ و) الملال لو كلف باستيفائها مرة اخرى لتألم بادراكها ، فإنه إذا أكل اكلا تاما وكلف بعد ذلك بالاكل تألم به. ومن قضى وطره من الوقاع ثم كلف بالزيادة عليه لتألم منه ، وهذا يدل على أن هذه اللذات ليست فى أنفسها خيرات وسعادات ، بل إنما ينتفع بها عند حصول الاحتياج إليها ، فعند زوال الحاجة تصير هذه الاشياء كلا ووبالا على النفوس والأرواح.

الخامس الأشياء التى تستلذ وتستطاب فى الدنيا قد كانت موصوفة بصفات مكروهة منفرة وستصير أيضا كذلك. ألا ترى أن الحنطة قد كانت قبل صيرورتها حنطة عفنة فى رطوبة الأرض ممن صارت عشبا وتشربت رطوبات القاذورات والسرجين. ثم إذا استوت وصنعت فأكلت اختلطت فى الفم بالبصاق واللعاب الّذي لو رآه آكله لأنف من أكله واستقذره ، ثم يعود فى آخر الأمر إلى الرجيع المنتن والشيء المستبعد ، وكذا (٢) اللحوم والحلاوات والفواكه ، فالعاقل إذا تأمل فيها وجدها منتنة الأصل ، قذرة الجوهر ، فاسدة السنخ (٢ ، إلا أنه تعالى أعارها لونا ورائحة وطعما فى زمان قليل مقدار ما ينتفع المكلف به ليقدر به على طاعة الله ومصالح معاشه ، ثم أنها فى الحال تعود إلى القذارة الأصلية والرداءة الطبيعية.

السادس أن استعمال هذه اللذات ينافى معى الإنسانية ، وذلك

__________________

(١) المخطوطة : يميلها

(٢) أيضا : كذى

٩٨

لأن الإنسان إنما يكون إنسانا لحصول نور العقل واطلاعه على عالم الغيب والأنوار الإلهية ، فإذا اشتغل الإنسان باستيفاء هذه اللذات الجسدانية تكدرت القوة العقلية ، وانسد عليه باب المعارف ، وصارت البهيمية عليه غالبة ، والإنسانية مفقودة ، ولما كان شرف الإنسان باستيفاء هذه اللذات الحسية يبطل عليه معنى الإنسانية ، ثبت ان الاشتغال بها شيء فى غاية المذمة.

السابع أن أصل أحوال الإنسان اشتغاله بمعرفة الله تعالى واقباله على طاعته واستغراقه فى محبته ، ثم اشتغال الإنسان باستيفاء اللذات الجسدانية والطيبات الحسية يمنعه عن عبودية الله ويصده عن ذكر الله ، ولما كانت تلك المعارف أشرف مراتب المخلوقات وهذه اللذات الحسية مانعة عنها كانت هذه اللذات أخس الأشياء ضرورة أنه كلما كان الشيء أشرف كان ضده العائق عنه والمنافى لحصوله أخس ، فهذه وجوه دالة على كون الدنيا مذمومة لذاتها.

فأما الوجوه الدالة على كونها مذمومة لأمور لازمة لها فكثيرة ـ ونحن نشير إلى بعضها : فنقول :

الأول انها سريعة الزوال ، قريبة الانقضاء ، ومعلوم أن الإنسان إذا احب شيئا ، ثم اتصل بمحبوبه والتذ بمواصلته وابتهج بالاختلاط به ثم إنه فارقه وانفصل عنه ، تألم بسبب ذلك الفراق ، ويكون مقدار التألم الحاصل بسبب مفارقته مساويا لمقدار الالتذاذ الحاصل بسبب مواصلته ، وإذا كان كذلك فكلما كان حب الدنيا أشد فى هذه الحياة كانت الآلام الحاصلة بمفارقته بعد الموت والحسرات المترادفة هناك أقوى وأكمل ، ثم مع حصول التساوى من هذا الوجه حصل الترجيح

٩٩

لجانب الآلام فهذه اللذات منقطعة وتلك الآلام غير منقطعة ، فلهذا السبب صارت اللذات الجسمانية مذمومة (الورقة ٢٧٨ ظ) عند العقلاء.

الثانى أن لذاتها غير خالصة بل هى ممزوجة بالآلام والحسرات (١) بل الإنسان لو تأمل لوجد اللذة قطرة والألم بحرا لا ساحل له (٢) ، ونحن ننبه على معاقد هذا الترجيح.

فنقول : هذا الترجيح حاصل من وجوه :

أولها أن الضرر منه ثلاثة ، الماضى والحال والمستقبل :

أما الماضى فنقول : الاحوال التى كانت حاصلة للإنسان فى الزمان الماضى ، إما أن يقال أنها كانت اسبابا للسعادة واللذة ، أو كانت أسبابا للذة والألم ، أو كانت غير موجبة لا لذاك ولا لهذا ، أو قدرنا أنها كانت موجبة للسعادة والغبطة ، فإما أن يقال : انها بقيت أو ما بقيت فإنها موجبة (٣) للسعادة ، وقد بقيت إلى الوقت الحاضر فمن المعلوم لا مرتبة إلا وفوقها مراتب غير متناهية هى أعلى وأكمل منها ، وإذا كان كذلك فكلما ابتهج الإنسان بتلك السعادة التى كانت حاصلة فى الماضى ، وبقيت إلى الزمان الحاضر حاصلة فى قلبه شعور سائر (٤) المراتب التى ما وجدها وما وصل إليها ، فيقع فى قلبه أنواع من الحسرة بسبب ما فاته من تلك السعادات.

__________________

(١) المخطوطة : الخسران

(٢) أيضا : يحر لا سال له

(٣) أيضا : فان موجبه للسعادة ،

(٤) أيضا : شعور بسائر المراتب

١٠٠