النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

الثانى (١) والعشرون محب المال محب لكل جزأ من أجزائه وهو لصدد الآفات والنقص ، وفوات المحبوب مولم ، فكل من (الورقة ٢٨٢ ظ) كان ماله أكثر كان عدد أحبابه أكثر ، ومصائبه بآفاتهم أكثر ، فلا جرم تعظم مصائبه وتدوم (٢) احزابه أو تتواصل ، فهذا هو الكلام فى علاج صفة البخل وفرط محبة المال وذلك بطريق العلم.

(الفصل الرابع)

أما علاج البخل (٣) بطريق العمل فمن وجوه :

الأول أن يجالس الفقراء ويتباعد عن مجالسة الأغنياء والمتنعمين ، فإنه بالطبع (٤) يميل إلى ذلك فيتعب القلب إما بتحصيله أو لفواته ، فمجالسة الفقراء المنقطعين إلى الله يطيب القلب ويرضيه ويخفف الهم ، قال عليه‌السلام «اللهم احينى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» (١.

والغنى مظنة الانجذاب عن الله ، كما أن الفقر مظنة الانجذاب إلى الله والإعراض عما سواه.

الثانى أن البخيل إذا تأمل ما ذكرناه وقررناه من مذام البخل ومحاسن السخاء فلا بد أن يميل إلى اختيار المحاسن والحامد ، فينبغى له

__________________

(١) المخطوطة : الثالث

(٢) أيضا : وقدوم

(٣) أيضا : علاجه

(٤) أيضا : الطبع

١٢١

أن يبادر إلى البذل والجود قبل أن يعارضه الشيطان بشبه يصده (١) عن ذلك ويعيقه عنه فإن هذا دأبه.

يحكى أن بعض المشايخ (٢ دخل إلى الخلاء نزع خاتمه أو بعض ثيابه وصاح بتلميذ له ، فأعطاه وأمره أن يهبه لشخص عينه ـ فقال له «ألا صبرت أن تخرج» ، قال : «خفت أن يتغير خاطرى عن ذلك أو يشح نفسى به ، فبادرت».

الثالث : أن البخل عبارة عن فرط عشق المال ، والعشق إذا تمكن فهو مرض شديد ، ومن أجود ادويته البعد عن المعشوق ، والرحيل عن بلد هو فيها فيمكن السلو عنه ، فكذلك المال يجب أن يبعد بالإنفاق ليزول عشقه عن القلب ، فيزول صفة البخل المذمومة.

الرابع أنه من لطائف الحيل فى هذا الباب أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار فيما بين الناس بالجود والكرم ، فينتقل نفسه (٢) عن هذا المرض ويزول عنه ، وكذلك من يريد علاج البخل أن يشتغل بإنفاق المال كيف ما اتفق له ، وأن لا يقول ان هذا الإنفاق جائز ، وهذا غير جائز لأن المقصود إزالة عشق المال عن قلبه ، وذلك لا يحصل إلا بالافراط فى إهانته ، وتمييز بعض جهات الإنفاق عن بعض إعزازا لا إهانة.

ولذلك قالوا : إن البخيل لو رمى ما له فى البحر او أحرقه بالنار لكان خيرا (٣) من أن يمسكه ، وإذا حصل له خديعة نفسه باشتهار

__________________

(١) المخطوطة : يضده

(٢) أيضا : نفس

(٣) أيضا : خير

١٢٢

اسم الجود والكرم ، ينبغى أن لا يحصل فى ذلك مزلة الريا ـ فإنه مرض آخر اشد من الأول ، والحاصل أن المعالج لهذه الأخلاق الذميمة يسلط بعضها على بعض ، فيسلط الشهوة على الغضب ويكسر سورته بها ، وبالضد ، فكذا (١) هاهنا.

والبخل عبارة عن طلب ملك الأموال ؛ والريا عبارة عن طلب ملك الأرواح ، والجمع بينهما محال ، فكل من كان أخذ الأمرين فى قلبه أقوى عالجه بتسليط الجانب الآخر بشرط أن لا يقوى الجانب الآخر فيكون كمن انتقل من مرض مهلك إلى آخر مهلك.

الخامس أن يتفق للإنسان أستاذ مشفق فكل شيء عرف منه أنه يتعلق قلبه به أخرجه عن قلبه بعد أن يخرجه عن يده ويبطله عليه ، ولا يزال يفعل به ذلك إلى أن يضعف ميله إلى تلك الأشياء.

الحاصل أنه كما أن كثرة الأفعال تفيد الملكة الراسخة القوية فكذا (٢) كثرة المفارقة توجب ضعف تلك الملكة.

__________________

(١) المخطوطة : فكذى

(٢) أيضا : فكذى

١٢٣

الفصل الخامس

فى حقيقة البخل والجود

المال معد لأن يصرف فى المهمات (الورقة ٢٨٣ و) ، فالإمساك حيث يجب البذل بخل ، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير ، والتوسط بينهما هو المحمود ، وإليه الاشارة بقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١ ، وقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢.

فحاصل الكلام أن الّذي يجب بذله إذا لم يبذله فهو البخل ، ثم الّذي يجب بذله قسمان : واجب الشرع وواجب بالمروة ، فمن منع واحدا (١) منهما فهو بخيل إلا أن الّذي يمنع واجب الشرع فهو أبخل ، وهو كمانع الزكاة ومانع أهله وعياله النفقة ، والّذي يتمم الخبيث لا يطيب له أن يعطى من الطيب ، فهو أيضا بخيل. وأما واجب المروة فهو منع البر والمضايقة ، واستعمال المضايقة فى المحقرات فانها قبيحة ، ثم هذا الاستقباح يختلف باختلاف الأحوال والاعتبارات.

فالأول بسبب الفاعل ممن كثر ما له يستقبح منه ما لا يستقبح ممن يقل ما له ، وأيضا يستقبح من الرجل العاقل ما لا يستقبح من الصبى والمرأة ، ويستقبح من الحر ما لا يستقبح من العبد.

الثانى بسبب المضاف إليه فإنه يستقبح المضايقة مع الأهل والولد بما لا يستقبح المضايقة فيه مع الأجانب.

__________________

(١) المخطوطة : واحد

١٢٤

الثالث ما فيه من المضايقة فإنها تستقبح فى الطعام ما لا يستقبح فى غيره.

الرابع يتعلق بالوقت ، فإن المضايقة يستقبح فى أوقات ، ولا يستقبح فى أوقات أخر ، وبالجملة ، فهذه الأحوال غير مضبوطة فى نفس الأمر ، والرجوع فيه إلى الأمر الظاهر ، ويمكن أن يضبط ذلك ، فيقال قد ثبت أن المال خادم والطعام والشراب فهما خادمان للبدن ، وهو خادم للنفس ، وهى خادمة للفضائل العلمية والخلقية ، فالمال هو الخادم الآخر ، وهذه الأشياء مخدومة للمال ، فكل مال انصرف إلى تحصيل مرتبة من مراتب هذه الأشياء التى سميناها بالمخدومة كان ذلك سخاوة ، والامتناع منه يكون بخلا ، وكل مال انصرف إلى شيء آخر غير هذه المراتب كان ذلك تبذيرا.

١٢٥

الفصل السادس (١)

قد عرفت أن السخى هو الّذي يبذل من المال ما يجب عليه بذله إما بسبب الشرع وإما بسبب المروة ، والبخيل هو الّذي لا يفعل ذلك.

فاما الجواد فدرجته أعلى من درجة السخى ، وذلك أن حقيقة الجود هو إفادة ما ينبغى لا لعوض ، فلعل من يهب السكين لمن يعلم من حاله أن يقتل نفسه بها أو يقتل غيره لا يكون جوادا ، ولعل من يعطى ليستعيض (٢) شيئا آخر لم يكن جوادا ، إلا أن عدم طلب العوض بالكلية لا يتصور إلا من الله تعالى ـ أما الآدمى فإنه لا يبذل الشيء إلا لغرض ـ إما لثواب (٣) الآخرة أو اكتساب الفضيلة النفسانية المسماة بالجود ـ وتطهير النفس عن رذيلة البخل سمى جوادا ، أما إذا كان الباعث على البذل هو الخوف من هجو الشعر او من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يصل إليه من المنعم عليه ، فذلك ليس بجود ، لأنه إنما أتى بهذا الفعل على سبب الضرورة.

__________________

(١) المخطوطة : الرابع

(٢) أيضا : ليستوعظن

(٣) أيضا : ثواب

١٢٦

فصل (سابع)

الكلام فى الجاه

قد عرفت كل واحد من هذه الأحوال إنما تتكون عن اعتقاد حال بخيل (١) فهاهنا يكون كذلك ، أما الاعتقاد ، فهو أن الإنسان إذا اعتقد فى غيره انه إنما يبخل منه فى خصلة من الخصال الدينية تولد عن هذا الاعتقاد (الورقة ٢٨٣ ظ) حالة نفسانية مخصوصة ، وتولد عن تلك الحالة أعمال مخصوصة وهى القيام بخدمته والثناء عليه بلسانه وترك المنازعة والتعظيم والمفاتحة بالسلام ، وتسليم الصدر فى المحافل ، والجاه عبارة عن ذلك الاعتقاد الموجب تلك الحالة النفسانية المؤثرة فى هذه الأحوال الجسدانية.

السبب الموجب لحب الجاه

كما أن ملك (١ الذهب والفضة يفيد القدرة على تحصيل الاغراض فكذلك ملك الارواح يفيد القدرة على تحصيل الاغراض ، إلا أن الجاه (٢ احب من المال عند ذوى الهمم العلية ، فإن لملك القلوب ترجيحا (٢) على ملك الأموال من ثلاثة أوجه :

أحدها أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه ، فالعالم أو الزاهد الّذي له جاه فى القلوب لو (٣) قصد اكتساب المالى تيسر له ذلك ، فإن قلت الإنسان متى صار ملكا للغير صار ما له ملكا لذلك الغير ـ أما الرجل الخسيس الّذي لا يتصف بصفة كمال إذا

__________________

(١) المخطوطة : حال وبخيل

(٢) أيضا : ترجيح

(٣) أيضا : او

١٢٧

وجد كنزا أو أراد أن يتوصل به إلى الجاه لم يتيسر له ، فالحاصل أن مالك الجاه مالك المال (١) ولا ينعكس ، فكان الجاه أفضل من المال وأحب.

والثانى وهو أن الارواح من جنس عالم الملائكة ، والذهب والفضة من الجمادات والتفاوت بين جوهر الملائكة ، وبين جوهر الجمادات كثير ، والاشرف اولى بالمحبوبية من الاخس ، فلا جرم كان الجاه أحب من المال.

الثالث ليس الّذي يحتاج الإنسان إليه من المال بخاصة نفسه قليل كالمأكول والملبوس ، وإنما يحتاج الإنسان إلى المال الكثير ليتوصل به إلى أن يصير مخدوما لغيره ، وإن كان غير خادم (٢) له ، والمخدومية عبارة عن التفرد بصفات الحلال والعزة وهو محبوب لذاته ـ فالجاه يوجب حصول هذا التفرد بلا واسطة والمال يوجبه بواسطة فذلك الأول أحب.

الرابع ان ملك القلوب (٣ ينمو ويتزايد بذاته ، فإن القلوب إذا دعيت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل اوضحت الالسنة بالثناء عليه ، وكل من سمع ذلك الثناء اعتقد أيضا فيه ، فثبت أن الجاه ينمو (٣) بذاته ، واما المال فإنه لا ينمو (٤) ولا يتزايد بذاته فكان الاول احب.

ومن الناس من قال أن الجاه إنما يراد ليكون صونا للمال ، فإن

__________________

(١) المخطوطة : مالك للجاه مالك للمال

(٢) أيضا : غير خادما له

(٣) أيضا : ينموا ... لا ينموا

(٤) أيضا : ينموا ... لا ينموا

١٢٨

من لا جاه له لا يمكنه حفظ ماله عن الهلاك ـ والتابع أخس من المتبوع فهذا الإنسان يكون المال عنده أثرا (١) من الجاه ، إلا أن الطبيعة البهيمية تكون غالبة على هذا الإنسان ، لأن المال من جنس المحسوسات ، والجاه من جنس المجردات ، فكل من كانت البهيمية أغلب عليه كان حب المال عنده آثر ، وكل من كانت الروحانية عليه أغلب كان الجاه عنده آثر (٢).

السبب الموجب لحب المال والجاه

له سببان :

احدهما ان حاجات الإنسان غير متناهية ولا دافع لها إلا المال ولازم المطلوب مطلوب ـ فلا جرم لزم أن يكون لا نهاية لحب المال ، والجاه صوان المال وحافظ له ، فصار الجاه أيضا محبوبا حبا لا نهاية له.

الثانى ما ذكرنا ان ملك المال وملك القلوب قدرة والقدرة كمال (٤) ، والكمال محبوب لذاته ، فهذه الاشياء محبوبة لذواتها ، وهذه القدرة بالنسبة إلى كل واحد من اعيان الاموال واعيان الارواح مملكته ، فلا جرم كانت محبوبة مطلوبة لأعداد غير متناهية (٣).

وأيضا كون كل (الورقة ٢٨٤ و) الاموال مملوكة وكون كل القلوب مملوكة يقتضي توحده بالمالكية والاستعداد والقهر ،

__________________

(١) المخطوطة : عنده اثر

(٢) أيضا : الجاه عند اثره

(٣) أيضا : للاعداد الغير متناهية.

١٢٩

والتوحد بالكمال أيضا غاية الكمال ، والكمال محبوب لذاته ، والاستكثار من ملاك الاموال ، ومن تملك القلوب (٥ تقلل من الشركة.

وكلما كان التوحيد مطلوبا بالذات كل ما كان اقرب (١) الى ثبوت التوحيد وإلى نفى الشركاء كان أولى بالمحبوبية ، فهذا هو السبب فى حب جمع الاموال وكثرة الكنوز ، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى وراءهما ثالثا ، وهو السبب أيضا فى حبه لاتساع الجاه وانتشار (٢) الصيت إلى اقاصى البلاد التى يعلم قطعا انه لا يصل إليها ولا شاهدها ولا اهلها ، ولا ينتفع بهم البتة فانه مع ذلك يلتذ غاية الالتذاذ ببلوغ صفته إلى هذه البلاد.

__________________

(١) المخطوطة : كلما اقرب كان الى الخ

(٢) أيضا : واشار

١٣٠

فصل (ثامن) اجنبى عن هذا الباب

وهو فى بيان الكمالات الحقيقية والوهمية (١

اعلم ان الكمال اما أن يعتبر فى الذات أو فى الصفات أو فى الأفعال.

أما الكمال فى الذات فهو من وجهين :

الأول أن يكون واجب الوجود لذاته لا يتعلق وجوده بغيره اصلا ، وأن يكون واجب الوجود فى جميع صفاته من جميع جهاته ، ولو افتقر فى شيء من صفاته إلى غيره لزم منه كونه مفتقرا فى ذاته إلى غيره ، على ما تبين ذلك فى العلوم الحقيقية.

الثانى أن يكون منفردا بذاته ولذاته فى ذلك الكمال دون المساواة فى الكمال ، لأن المساواة توجب النقصان ، لكن فيضان الكمالات عنه لا يوجب النقصان البتة ـ لأن كل كمال حصل للمعلول فهو فى الحقيقة حاصل للعلة ، فاشراق نور الشمس فى جميع الآفاق لا يوجب نقصانا فى الشمس بل هو الدليل على غاية كما لها. اما لو وجدت شمس أخرى تساوى هذه (١) الشمس فى الرتبة والاشراق ، كان ذلك نقصانا فى هذه الشمس ، ومعلوم ان كل ما سوى الواجب لذاته كامل (٢) فى ذاته بذاته من هذين الوجهين.

وأما كمال الصفات فهو فى العلم والقدرة ، اما كمال العلم فهو لله تعالى وهو من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) المخطوطة : هذا

(٢) أيضا : كاملا

١٣١

الأول انه تعالى عالم بجميع المعلومات ولذلك كلما كان العبد أكثر علما كان أقرب إلى الله تعالى (٢.

الثانى كون العلم جليا منكشفا (٣ انكشافا تاما ، لا محالة يخالطه احتمال النقيضين ، وكذلك كلما كانت علوم العبد اجلى واظهر ، كان اقرب الى الله تعالى.

الثالث كون العلم (٤ باقيا ممتنع التغير ، فلذلك كلما كانت علوم العبد أبعد عن الذم كان أقرب إلى الله تعالى.

والمعلومات قسمان ، متغيرات وازليات (٥. أما المتغيرات فيلزم من تغيرها تغير العلم بها ، لو بقى بعدها لكان ذلك جهلا لا علما (٣). ولو لم يبق فهو المطلوب ، وامثال هذه العلوم لا تكون كمالا البتة.

أما المعلومات الباقية فالعلم بها يكون باقيا وهو كالعلم بالماهيات المجردة ، والتصديقات التى يمتنع التغير عليها كالعلم بوجوب الواجبات ، وامتناع الممتنعات.

فثبت أن كمال العلم ليس إلا بسبب هذه الاعتبارات ، فكل علم حصل للعبد موصوفا بهذه الصفات كان ذلك العلم كما لا للعبد ، وما لا يكون كذلك لا يكون البتة من باب الكمالات.

والقسم الأول وهو الّذي يكون صفة كمال هو الّذي يبقى مع العبد قبل الموت. (الورقة ٢٨٤ ظ) وعند الموت وبعد الموت ،

__________________

(٣) المخطوطة : «لو بقى بعدها .. جهلا لا علما» ، هذه الجملة مكتوبة مرتين

١٣٢

ويكون هذا العلم نورا للعارفين (٦ بعد الموت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون : ربنا اتمم لنا نورنا (٧ أى تكون هذه العلوم رأس مال يتوصل بها إلى كشف ما لم ينكشف فى الدنيا ، كما أن من معه سراج خفى فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بل يقتبس منه سراج اخر اقوى منه ومن لم يحصل معه فى الحياة الدنيا شيئا (١) من هذه العلوم لم يكن له طمع فى استكمال هذا النور بعد الموت ، فيبقى بعد الموت كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها ، بل (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ). (٨

وأما القسم الثانى وهى العلوم المتعلقة (٩ بالمعلومات المتغيرة وهى كعلم اللغات والتفسير والفقه والأخبار فشيء منها لا يبقى ولا يحصل للنفس بسببها كمال البتة. أما القدرة بكمالها كونها مستفيدة بالتأثير والإيجاد والإبداع والإخراج من العدم إلى الوجود.

وأقول : إن الغزالى رحمة الله عليه ، بين ان كمال الذات لا يحصل إلا عند التفرد (١٠ والوحدانية ، فاذن يجب عليه أن يعرف بأنه لا مؤثر فى الإخراج من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى ، إذ لو شاركها غيرها فى هذه المؤثرية لوجب أن يقدح ذلك فى كون القدرة الالهية كاملة ، ولو قال بهذا الأصل للزم أن لا يثبت شيئا يؤثر فى شيء إلا قدرة الله ، وذلك يبطل أصل الفلسفة.

ثم قال : أما القدرة فليس للعبد فيها كمال حقيقى بل للعبد علم حقيقى ، وإنما القدرة الحقيقية لله تعالى وما يحدث من الاشياء عقيب إرادته وقدرته فهى حادثة باحداث الله تعالى (١١.

__________________

(١) المخطوطة : شى

١٣٣

ولقائل أن يقول : مذهبك فى هذه المسألة ليس (١) إلا مذهب الحكماء وعندهم ان القدرة مع الداعية الحادثة يوجبان الفعل بهذا الفعل مستند إلى الله تعالى بمعنى انه تعالى هو الّذي أوجد القدرة والداعية الموجبتين لهذا الفعل ، وأيضا فعنده أن حصول المشاركة يوجب النقصان ، وهاهنا قد سلم ان للعبد علما حقيقيا (٢) فهذا يلزم وقوع النقص فى علم الله تعالى ، فإن لم يلزم هذا فكيف ادعى لو حصل ما يساوى الله تعالى فى وجوب الوجود لزم النقصان.

فثبت أن هذه كلمات ضعيفة فى علاج حب المال وهو من وجوه :

الأول أن حب المال والجاه تأثر وانفعال لها بالنسبة إلى المال وإلى الجاه ، والتأثر ضعف ونقصان ، وعدم حب المال والجاه قوة للنفس لسببها لم يتأثر للمال ولا للجاه ـ فالحالة الأولى صفة من صفات الهيولى ، والحالة الثانية صفة من صفات الحق ، والّذي يقرر ذلك على سبيل التمثيل ان الإنسان إذا وضع إصبعه على جسم واعتمد عليه فتأثر ذلك الجسم بذلك الاعتماد دل ذلك على أن ذلك الجسم المتأثر له طبعية ضعيفة قابلة للتأثر من القوى.

أما إذا لم يتأثر كالحديد دل على أن ذلك الجسم له طبيعة قوية شديدة مفيضة للبقاء والدوام ، فالمتأثر يدل على كمال الضعف وقبول الفناء. وأما عدم التأثر فيدل على القوة والبقاء والدوام والاستغناء. فالنفس إذا تأثرت بحب المال والجاه دل ذلك على ضعف جوهر تلك النفس.

__________________

(١) المخطوطة : السن.

(٢) أيضا : علم حقيقى

١٣٤

ثم إن مراتب هذا التأثر كثيرة ، فكلما كان ذلك التأثر أقوى وأشد كان ضعف النفس ودناءتها أشد ، وكلما كان عدم التأثر أشد وعدم الالتفات إليه (الورقة ٢٨٥ و) وقلة المبالاة به كانت النفس أشد قوة وأكمل وجودا وأبعد عن طبيعة العدم والانفعال ، وأصحاب علم الأخلاق يعبرون عن هذا المعنى فيقولون فى القسم الأول إنها نفس مطبوعة على طبيعة العبودية وملكة الهيولى ، والثانى نفس مطبوعة على الحرية وصفاء الجوهر وعدم التأثر.

(الفصل التاسع)

فى بيان ان طلب الجاه قد يكون واجبا

وقد يكون مندوبا ومباحا مكروها وحراما

فنقول : الجاه والمال أما أن يحصل بنفسه أو يحاول الإنسان تحصيله ،

أما الأول فلا بأس به ، لأنه لا جاه اوسع من جاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ، ومن بعد هم من علماء الدين ، ولهم فيه الجلالة العظيمة ولا عيب عليهم فيه.

واما القسم الثانى وهو طلب المال والجاه فنقول هذا على مراتب :

المرتبة الاولى أن يكون واجبا وهو قسمان : تارة فى الدين ، وتارة فى الدنيا.

اما فى الدين ، فهو ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بعث لدعوة الخلق إلى الحق ، فلا بد وأن لا يظهر لهم إلا على الوجه الأحسن حتى يصير ذلك سببا لأن يقبلوا قوله ، وإلا صارت احواله منفرة فهاهنا طلب الجاه

١٣٥

بقدر هذه الحاجة واجب ، قال ابراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١.

وأيضا العلماء الذين إليهم الرجوع فى أمر الدين والفتوى وجب عليهم طلب الجاه بقدر ما يكمل اغراضهم فى الدين.

وأما فى الدنيا فهو أن الانسان خلق محتاجا ، ولا يمكنه دفع حاجاته الضرورية إلا بالمال ولا يمكن حفظ ذلك المال إلا بالجاه ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فطلب (١) ذلك القدر من الجاه واجب.

ثم نقول : هذه الحاجة إما أن تكون جسمانية أو روحانية ، أما الجسمانية فهو ان المقدار المعين من الطعام والشراب والملبس والمسكن الّذي لو لم يحصل لوقع الإنسان إما فى الموت أو المرض ، فتحصيله واجب بالجاه والمال اللذين (٢) لا يمكن تحصيل ذلك القدر إلا بهما.

وأما الروحانية فهو ان طلب العلم ربما احتاج من مصالح المطعم والمشرب والملبس إلى أمور فوق القدر الاول ، فإذا كان ذلك العلم علما يجب عليه طلبه كان المال والجاه اللذان لا يمكن تحصيل ذلك العلم إلا بهما يكون واجب التحصيل.

المرتبة الثانية المال والجاه اللذان يكون تحصيلهما غير واجب لكنه يكون مندوبا إليه ، وذلك لأن القدر الّذي لا يمكن بقاء الحياة إلا به ولا يحصل ضروريات الدين إلا معه غير ، والقدر الّذي لا يمكن كمال هذه الافعال إلا به فهو غير ، فلما كان الأول من قسم الواجبات

__________________

(١) المخطوطة : فحفظ ، وفوق هذا اللفظ «فطلب»

(٢) أيضا : اللذان

١٣٦

كان هذا التالى من المندوبات ، فإن الانسان إذا كان بحيث لو لم يكن فارغ البال طيب النفس بالكلية لم يتمكن من طلب العلوم الدقيقة ولم يقدر على المباحث الغامضة ، فكل مال وجاه لا يمكن تحصيل تلك الحالة إلا معه كان طلبها مندوبا ، ولهذا قال يوسف عليه‌السلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٢ ، وطلب المال عند ذلك الملك والسبب فيه ما ذكرنا.

المرتبة الثالثة طلب المال والجاه (الورقة ٢٨٥ ظ) بشرط أن يكون ذلك الطلب مباحا وهو ما إذا عرض نوع فضيلة من فضائله التى يكون هو صادق فيها ليحصل له فى قلوب بعض الناس جاه ومنزلة فهذا من باب المباحات (١) ، إلا ان بقاء هذه الحالة على هذا الحد متعذر جدا ، لأن الإنسان إذا التذ بطلب الجاه ، فقد يدعوه التذاذه إلى طلب الزيادة عليه ، وقد (لا) يمكنه طلب الزيادة بالصدق العارى عن التلبيس فحينئذ يقع الكذب فلما كان بقاء هذه الحالة الموصوفة بكونها مباحة على ذلك الحد امرا متعذرا لا جرم كان الاولى الاحتراز عنه ،

المرتبة الرابعة : المكروه وهو ما إذا علم الإنسان شدة ميل طبعه إلى طلب الجاه والتذاذه به فيكره له طلب الجاه بالصدق لأن الداعية الطبيعية لما كانت قوية فإذا التذ بها ألفها وسربها ، فصارت تلك الحالة موجبة لإعراضه عن ذكر الله تعالى وكونها على هذا الخطر يوجب ترك الطلب.

المرتبة الخامسة الحرام وهو أن يتوسل إلى طلب الجاه بالريا والكذب فهذا إلقاء التلبيس فى قلوب الناس والاعراض عن الصدق

__________________

(١) المخطوطة : المباحاة

١٣٧

والصواب ، والاقبال على الضلال والاضلال فكان حراما. ثم ان التوسل إلى طلب الجاه بإظهار الصفات الحميدة مع كون الإنسان عاريا عنها ، ليس له مرتبة واحدة ، بل له مراتب لا نهاية لها فى القلة والكثرة والضعف والشدة ، فلا جرم لا نهاية للمراتب الأربعة فى هذه المرتبة.

(الفصل العاشر)

بيان السبب فى حب المدح والثناء وبغض الهجو والذم

له اسباب : الاول ان عند المدح يحصل شعور النفس بالكمال ، والكمال مجبوب لذاته (١ ، وكل محبوب فإداركه لذة ، فلهذا السبب كان سماع المدح لذيذا (١) ، وتقريره ان الوصف الّذي به مدح إما أن يكون جليا ظاهرا أو خفيا مستورا ، فإن كان جليا ظاهرا لم يقو الالتذاذ به ، فإن السلطان القاهر الّذي عظمت قدرته واتسعت مملكته إذا مدح بكونه لذلك لم يفرح به لأنه لما كان الوجود كان الشعور به حاصلا لكل احد ، والغرض من المدح تحصيل الشعور به وهو حاصل فجرى هذا مجرى تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وانه لا فائدة فيه.

ثم هاهنا دقيقة وهى انه من الجائز أن يكون الإنسان موصوفا بصفات كثيرة ، كل واحد منها يكون ظاهر الوجود فلا يلتذ الانسان عند سماع كل واحد منها لكنه يلتذ بسماع مجموعها ، والسبب

__________________

(١) المخطوطة : لذيذ

١٣٨

فيه ان الذهن لا يحصل له شعور بالمجموع ، وإذا كان كذلك كان ذلك المجموع أخفى من كل واحد منها ، فلا جرم يلتذ الانسان إذا مدح بمجموع تلك الصفات فوق ما يلتذ إذا مدح بكل واحد منها.

وأيضا فحصول كل واحد منها اكثر وحصولها على الجمع أقل فالمدح بالمجموع اقرب إلى الشعور بالتفرد وقد ذكرنا انه الكمال الحقيقى فكلما كان اقرب منه كان إلى الكمال الحقيقى اقرب ، فكان اسماعه ألذ.

وأما القسم الثانى وهو أن يمدح بحصول صفات الكمال إما كمال فى الزهد او كمال فى القوة والسلطنة فذلك يورث اللذة من وجوه :

الأول ان الممدوح ربما كان شاكا فيه فإقرار المادح بذلك كالشهادة على ثبوته فيه (الورقة ٢٨٦ و) اعتقاده فى حصول ذلك الكمال له ، ويزول عنه الشك والريب ، ولما كان حصول الكمال محبوبا بالذات كان قوة الاعتقاد فى حصوله أقوى وألذ ، ولكن هذه اللذة من هذا الوجه إنما يحصل إذا صدر الثناء ممن لا يكذب ولا يخالف ـ وأما إذا كان كاذبا مجازفا فلا يحصل هذه اللذة.

الثانى ان صدور ذلك المدح عن ذلك المادح يدل على انه يقبله معتقدا فى كمال هذا الممدوح واعتقاد الفضيلة يوجب كون الناقص منقادا للكامل ومطواعا له ، فهذا المدح يدل على صيرورة ذلك المادح مسخرا بتسخير هذا المدح وذلك نوع قدرة ، والقدرة

١٣٩

كمال ، والكمال محبوب ، ولهذا السبب كلما كان المادح اعلى (١) شأنا كان الالتذاذ بمدحه اكثر إلا أن الاستيلاء على الملك العظيم يقبل الاستيلاء على كل رعيته ولا ينعكس.

الثالث ان ذلك المدح يسمعه الحاضرون سيصل إلى الغائبين وعند ذلك يصير السامعون معتقدين فى فضيلته وجلالته ، فيصيرون منقادين له ، وذلك يوجب ان المدح اقرار بكونه افضل ، فيتضمن الاقرار يكون هذا القائل ناقصا واقرار الانسان بنقصان نفسه مكروه متعرض ، فثبت ان النافي للإقرار بفضيلة الغير قائم ، فاذا اقدم الانسان على هذا الإقرار دل ذلك على ان الموجب للاقرار بهذه الفضيلة قد بلغ مبلغا عظيما فى القوة حتى حصل مع قيام المنافى وتلك القوة لا تنفك عن احد أمرين ، لأن تلك الصفات الحميدة إما أن يقال انها بلغت فى القوة والظهور إلى حيث عجز هذا المادح عن انكاره ، أو يقال انها وان كانت مفقودة ، إلا ان هذا المادح بلغ فى الخوف من هذا الممدوح إلى حيث اقدم على هذا المدح مع قيام صادقين قويين ، وهما الاقرار بفضل الغير والاقدام على الكذب ، ومتى كان الامر كذلك استقر ذلك بغاية قدرة هذا الممدوح وقهره وغاية ضعف ذلك المادح وذلته ، والقدرة من صفات الكمال ، والكمال محبوب ، وهذا المدح مشعر بهذا الكمال فلا جرم كان محبوبا.

فهذه الاسباب الاربعة هى الموجبة لحب المدح والثناء ، فان اجتمعت بالكلية كان الالتذاذ اكثر فى الغاية القصوى (٢) وان حصل بعضها كان الالتذاذ بقدر ما حصل من هذه الاسباب.

__________________

(١) المخطوطة : اعلا

١٤٠