النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

على تعب هذه الحرفة ، قلنا انما اتخذنا لطلب المال ، فاذا قلنا : ولم طلبنا المال؟ قلنا : لنقدر به على تحصيل اللذات ، فاذا قلنا : لم طلبنا اللذات؟ (قلنا) : بل قضى عقلنا أن اللذة مطلوبة بذاتها ، فكذا (١) أيضا الكمال مطلوب لذاته.

واذا تقررت هذه المقدمة فنقول : الكمال إما ان يعز فى الذات او فى الصفات. اما الكمال فى الذات فهو ان يكون واجبا لذاته من حيث غير قابل للعدم والفناء بوجه البتة إلا ان تحصيل هذا الكمال محال لأن الشيء إما ان يكون واجبا لذاته أو لا يكون ، فان كان واجبا لذاته كان الوجوب للذات (٢) حاصلا. والحاصل لا يمكن تحصيله وإن لم يكن واجبا لذاته ، امتنع ان ينقلب واجبا لذاته ، وما يمتنع وجوده لا يكون مطلوبا.

فثبت أن الكمال الحاصل بسبب الوجوب الذاتى ممتنع ان يكون مطلوبا ، بل الممكن لذاته لا يصير موجودا الا بسبب غيره ، وكلما كان موجودا لغيره كان واجب الوجود عند وجود ذلك الغير ، فيكون ذلك الغير هو الّذي به يتم وجوب وجوده. ولما كان وجوب الوجود محبوبا بالذات ، فما يكون سببا لذلك الوجود يكون أيضا محبوبا ، فلهذا المعنى كل ما كان سببا لوجود الشيء ولبقائه على افضل احواله الفاضلة كان محبوبا بالذات ، وكل ما كان سببا لعدم الشيء فى نفسه ولعدم أحواله الفاضلة كان مكروها بالذات.

__________________

(١) المخطوطة : فكذى

(٢) أيضا : الذات

٢١

ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته كان محبا لذاته ومحبوبا لذاته.

ولما كان من لوازم ذاته فيضان الممكنات عنه ، وقد بينا أن لوازم المحبوب محبوبة ، كانت أفعاله محبوبة ، فلهذا السبب قال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٤. لما سمع بعض مشايخ الصوفية هذه الآية قال : إنه وإن أحبهم فهو بالحقيقة ما أحب إلا نفسه (٥.

واما الكمال فى الصفات فلما تاملنا لم نجد من هذا الجنس شيئا سوى العلم والقدرة ، فالعلم لما كان كمالا لذاته كان محبوبا لذاته.

إذا عرفت هذا فنقول : الأرواح البشرية ، لما عرفت انه لا سبيل لها إلى تحصيل الوجوب بالذات طمعت فى تحصيل الوجوب بالغير ، فلا جرم كل ما كان سببا لحياة الإنسان ولبقائه كان محبوبا له بالذات. وكل ما كان سببا لموته ولفنائه كان مكروها له بالذات.

وأما الكلام بالعلم والقدرة (الورقة ٢٦٢ و) ، فقد عرفت ، ان الارواح البشرية لها انها قابلة ، ولها انها فاعلة ، فإذا توجهت إلى العالم الإلهي كانت قابلة ، وإذا توجهت إلى العالم الهيولانى الجسمانى كانت فاعلة.

فأما كونها قابلة من العالم الإلهي ، فتارة تكون قابلة للوجود ، وتارة تكون قابلة للجلايا القدسية والصور الروحانية ، وهى العلوم.

وأما كونها فاعلة فى العالم الهيولانى ، فذاك لكونها متصرفة فى هذا العالم بالتركيب والتحليل على مقتضى الإرادة. ولما كان لا نهاية لمراتب العلم والقدرة فذلك لا نهاية لمراتب حب الإنسان بهذين الأمرين ،

٢٢

ولا نهاية للخوض على تحصيل هذين المطلوبين ، لكنه يمتنع أن يحصل للإنسان علوم لا نهاية لها وقدرة على مقدورات لا نهاية لها. بل العلوم الحاصلة للأرواح البشرية وإن كثرت فهى متناهية ، والقدرة على الموجودات الهيولانية وإن كثرت فهى متناهية ، لا جرم لا تنتهى النفس الإنسانية فى العلم والقدرة إلى درجة إلا وكان الحاصل منها أمورا (١) غير متناهية ، لا جرم امتنع خلو جوهر النفس عن الحرص والطلب ، فحرص الإنسان على طلب المال ليس إلا انه يريد تحصيل القدرة على الجمادات ، وحرصه على طلب الجاه ، ليس إلا انه يريد تحصيل القدرة على أرواح العقلاء ، وحرصه على منازعة الأشكال ، ومصارعة الأبطال ليس إلا انه يريد أن يكون قادرا ويكره أن يكون (٢) مقدورا (٣) ، كل ذلك راجع إلى أصل القدرة التى هى صفة الكمال.

ولو أن الإنسان صار نافذ الحكم على بلدة واحدة دعته نفسه إلى أن يصير نافذ الحكم فى الإقليم ، ولو وجد ذلك دعته نفسه إلى أن يصير نافذ الحكم فى الأقاليم والبحار والجبال ، بل ربما دعته نفسه إلى التعلق بأجرام الأفلاك والكواكب ، بل قد لا يقصد ذلك لعلة تتعذر هذه القدرة عليه ، فامتناع الإنسان عن هذا الطلب يكون لقيام المانع لا لعدم المقتضى.

__________________

(١) المخطوطة : امور

(٢) أيضا : تكون

(٣) أيضا : مقدورات

٢٣

ثم هاهنا دقيقة أخرى ، وهى أن الإنسان قبل وجدان لذة القدرة والمملكة لا يكون عظيم الرغبة فى تحصيل هذه الحالة ، فإذا ذاقها والفها ازداد تشوقه إلى تحصيلها ورغبته فى الوصول إليها والازدياد منها ، لأن مثاله فى هذا الحب مثال الذوق ، مثاله من سمع اسم امرأة جميلة فعشقها بمجرد سماع الاسم وما رآها ، ثم إذا ذاق لذة النفاذ والمملكة كان أحب امرأة على أنه رءاها وارتضاها والتذ بمخالطتها ، فأما تلك المخالطة مما تقوى العشق فى جوهر الروح ويزيد العاشق حرصا على المخالطة ، فكذلك هاهنا كلما كان وصوله إلى المراتب العالية فى الدولة والمملكة أكثر كان حرصه على الازدياد منها أقوى وأكمل ، فثبت بما ذكرنا انه لا نهاية لحرص الإنسان على طلب العلم وعلى طلب القدرة ، وثبت ان جملة العالم الجسمانى (١) متناهية ، فلو قدرنا إنسانا واحدا استولى عليه بكليته لكان الحاصل عنده مملكة متناهية.

وقد بينا أنه يطلب قدرة غير متناهية ، فثبت أن الإنسان الواحد لو قدر على كل العالم الجسمانى لم يسكن عن طلب الازدياد ، ولو حصل عند الإنسان علم بجميع ما دخل فى الوجود لكان حرصه على طلب العلم باقيا ، لما بيناه ان الحاصل عنده من مراتب القدرة والعلم (مقدور متناه) (٢) ويكون الغائب عنه مقدورا (٣) غير

__________________

(١) المخطوطة : الجسمانية

(٢) أيضا : بياض طويل ، وعلى الهامش : «متفاوتا متناهيا»

(٣) أيضا : مقدور

٢٤

[متناه] (الورقة ٢٦٢ ظ) فلهذا السبب قال صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا» (١٦.

إذا عرفت هذا فنقول : أما تحصيل القدرة على التصرف فى الأفق الأسفل (١) وهو العالم الجسمانى ، فهو وإن كان كمالا إلا انه يلزمه أمر محذور (٢) ، وهو أن قدرة النفس على التصرف فى العالم الجسمانى مشروط ببقاء تعلق النفس بالجسد ، ثم هذا التعلق منقطع ، وعند انقطاعه تزول تلك القدرة بزوال المعشوق بعد طول الإلف به زوالا لا يسكنه (٣) تحصيله ، يوجب البلاء العظيم والشوق المعلق المهلك ، فلأجل الحذر عن الوقوع فى هذا المحذور صار هذا المطلوب مرغوبا عنه.

وأما اشتغال النفس بطلب كمال العلم فهو لذة فى الحال وسعادة فى الاستقبال ، وذلك لأن تصرف النفس فى العالم الجسمانى مشروط بتعلق النفس بالبدن.

أما قبول النفس للجلايا القدسية (٧ والمعارف الإلهية ، فغير موقوف على تعلق النفس بالبدن ، بل هذا التعلق كالعائق عن حصول كمالها ، فإذا انقطع هذا التعلق اشرقت تلك الجلايا الالهية ، فثبت بما ذكرنا أن التوجه إلى الافق الأعلى لطالب قبول الجلايا الالهية يوجب الكمال فى الحال والاستقبال.

__________________

(١) المخطوطة : الاعلى ، وعلى الهامش : «لعله الاسفل»

(٢) أيضا : محدود

(٣) أيضا : لا يمكنه

٢٥

وأما التوجه إلى الافق الأسفل لأجل حصول الاستيلاء على العالم الجسمانى ، فهو وإن كان يوجب لذة فى الحال ، إلا أنه يوجب الألم العظيم بعد الموت ، فلهذا السبب أطبق العقلاء على أنه يجب على كل العقلاء أن يشتغلوا بتوجه الروح إلى العالم الأعلى ولصرفها عن العالم الأسفل ، فإن المتوجهين إلى عالم القدس وجدوا بقاء بلا فناء وعزا بلا ذل ولذة بلا ألم وأمنا بلا خوف.

إذا عرفت هذا ظهر ان النفوس (٨ على ثلاثة أقسام (١) :

فأعلاها درجة المتوجهين إلى العالم الالهى المستغرقين (٢) فى تلك الأنوار الصمدية والمعارف الالهية ، وهم المسمون فى القرآن تارة بالسابقين حيث قال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٩ وتارة بالمقربين حيث قال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١٠.

والدرجة الوسطى هى النفوس التى لها التفات إلى العالمين ، فتارة تترقى إلى العالم الأعلى بالعبودية والخضوع ، وتارة تنزل إلى العالم الأسفل بسبب التدبير والتصرف ، وهم أصحاب الميمنة والمقتصدون.

والدرجة الثالثة هم المتوجهون إلى العالم الأسفل ، المتوغلون فى طلب لذاته ، وهم أصحاب الشمال والظالمون.

فالعلم الهادى إلى طريق المقربين هو علم الرياضة الروحانية ، والعلم الهادى إلى طريق أصحاب اليمين هو علم الأخلاق.

__________________

(١) المخطوطة : اقسام ثلاثة.

(٢) أيضا : المستغرقون

٢٦

الفصل الرابع

فى البحث عن ماهية جوهر النفس

اعلم أن الّذي يشير إليه كل أحد بقوله : «أنا جئت» ، يقول : «أنا انصرف» و «أنا سمعت» و «أنا فهمت» و «أنا فعلت» شيء غير هذه البنية (١ الظاهرة المحسوسة ، ويدل عليه المعقول والمنقول.

أما المعقول فمن وجوه : الأول أن نقول النفس واحدة ، ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه.

أما المقدمة الأولى ، وهو قولنا : إن النفس واحدة فنحن هاهنا بين مقامين ، تارة ندعى العلم البديهى ، وتارة نقيم البرهان على صحة هذا المقام.

أما الأول وهو ادعاء البديهية ، فنقول : المراد من النفس ما إليه يشير كل أحد إلى ذاته المخصوصة بقوله (الورقة ٢٦٣ و) : «أنا» ، وكل أحد يعلم بالضرورة ، إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله : «أنا» فإن ذلك المشار إليه واحد غير متعدد.

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون ذلك الشيء المشار إليه واحدا ، إلا أنه مركب من أشياء كثيرة : قلنا : إنه لا حاجة بنا فى هذا المقام إلى إبطال هذا السؤال ، بل نقول المشار إليه بقوله : «أنا» ، معلوم بالضرورة انه شيء واحد ، فأما ان ذلك الواحد ، هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة ، أم هو واحد فى نفسه وذاته وحده وحقيقته مما لا

٢٧

حاجة إليه فى هذا المقام البتة.

وأما المقام الثانى وهو مقام الاستدلال والّذي يدل على توجه النفس وجوه :

الأول إن الغضب عند بقائه يحدث عند محاولة دفع المنافى ، وطلب الملائم مشروط بالشعور بكون الشيء ملائما ومنافيا.

فالقوة الغضبية التى هى قوة دافعة للمنافى (١) على سبيل الاختيار والقصد ، لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى الدفع أخرى ، مشروط بالشعور بالشيء ، فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعا للمنافى على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون من وجه له شعور وبكونه منافيا ، والّذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا ، والّذي يشتهى لا بد وأن يكون بعينه مدركا. فثبت بهذا البرهان أن الادراك والغضب والشهوة صفات ثلاثة لذات واحدة لا أنها صفات متباينة فى محال مختلفة

الحجة الثانية أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما يستقل بفعله الخاص ، امتنع أن يكون اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا للآخر من الاشتغال بفعله الخاص به.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان محل الفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا ثانيا ومحل الشهوة جوهرا ثالثا (٢) وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس ، لكن التالى باطل ، فإن اشتغال الإنسان بالشهوة والصبابة

__________________

(١) المخطوطة : للمبانى

(٢) أيضا : ثانيا

٢٨

إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه وبالعكس ، فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هى صفات مختلفة لجوهر واحد ، فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال مانعا له عن الاشتغال بالفعل الأخر.

الحجة الثالثة أنا إذا ادركنا شيئا فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة ، وقد يصير سببا لحصول الغضب ، فلو كان الجوهر المدرك مغايرا للذى يغضب والّذي يشتهى ، فحين أدرك صاحب الإدراك لم يكن ولا خبر عند صاحب الشهوة ولا عند صاحب الغضب ، فوجب أن لا يترتب (١) على هذا الإدراك إلا حصول الشهوة ، وهو حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة ، وهو أيضا صاحب الغضب.

الحجة الرابعة : حقيقة الحيوان أنه جسم دون نفس ، حساسة متحركة بالإرادة ، فالنفس لا تمكن أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعى ، ولا معنى للداعى إلا الشعور بخير يرغب فى تحصيله ، أو شر يرغب فى دفعه ، فهذا يقتضي أن يكون المتحرك (٢) بالإرادة هو بعينه حاسا بالخير والشر والمؤذى والمضر.

فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد ، وثبت أن تلك النفس هى المبصرة والسامعة والشامة والذائقة واللامسة ، وهى الموصوفة بعينها بالتخيل والفكر (الورقة ٢٦٣ ظ) والتذكر وتدبير البدن واصلاحه.

__________________

(١) المخطوطة : لا ترتب

(٢) أيضا : المحرك

٢٩

إذا عرفت هذا فلننتقل إلى إثبات المقدمة الثانية وهى أنه لما كان الأمر كذلك لم يكن النفس هذا البدن ولا شيئا من أجزائه.

أما أن النفس يجب أن لا يكون جملة هذا البدن فلأنا علمنا بالضرورة أن القوة الباصرة غير سارية فى جملة أجزاء البدن ، وكذا (١) القوة السامعة والذائقة والشامة ، وكذا (٢) القول فى القوة الفكرية والذكرية والمتخيلة وكذا (٣) القول فى الشهوة والغضب. والعلم بأن هذه القوى غير سارية فى جميع أجزاء البدن ، علم بديهى اولى بل هو من أقوى البديهيات واجلها واجلاها.

وأما أن النفس يجب أن لا يكون عبارة عن شيء من أجزاء هذا البدن ، فالدليل عليه أنا نعلم بالضرورة أنه ليس فى البدن جزأ واحدا هو بعينه موصوف بالأبصار ولا بالسماع وبالذوق وبالفكر وبالذكر ، بل الّذي يتنادى فى أول الأمر إلى الخاطر أن الابصار مخصوصة بالعين وكذا (٤) القول فى سائر الإدراكات وسائر الأفعال.

وإما أن يقال أنه حصل فى البدن جزء واحد ، ذلك الجزء هو مخصوص بكل هذه الادراكات ، وكل هذه الأفعال. فالعلم الضرورى حاصل بأنه معدوم ، فثبت أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بهذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال ، فثبت بالبداهة (٥) أن جملة البدن ليس كذلك ، وشيء من أجزاء البدن أيضا ليس كذلك ، فحينئذ يحصل اليقين ان النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل (٦) واحد من أجزائه ،

__________________

(١) المخطوطة : كذى

(٢) المخطوطة : كذى

(٣) المخطوطة : كذى

(٤) المخطوطة : كذى

(٦) المخطوطة : كذى

(٥) أيضا : بالبديهة

٣٠

وهو المطلوب.

ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى ، فنقول : إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه أو كرهناه ، فإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فلا بد من القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهى له والمحرك إلى التقرب منه واحد ، إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا (١) ، والمشتهى شيئا ثالثا والمحرك رابعا (٢) لكان الّذي ابصر لم يعرف والّذي عرف لم يشته ، والّذي اشتهى لم يحرك ، لكن من المعلوم أن ابصار شيء لا يقتضي كون شيء عالما (و) لا يقتضي كون شيء أخر شبيها له.

وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الرائى للمرئيات «أنا» وإنى لما رأيتها عرفتها ولما عرفتها فقد اشتهيتها ولما اشتهيتها طلبتها ، وحركت الأعضاء إلى القرب منها ، ونعلم أيضا بالضرورة ان الموصوف بهذه الروية وبهذا العلم وبهذه (٣) الشهوة وبهذا التحريك شيء واحد لا أشياء كثيرة.

فالعقلاء قالوا الحيوان لا بد وأن يكون حساسا متحركا بالإرادة ، وذلك لأنه إن لم يحس بشيء البتة لم يشعر بكونه ملائما وبكونه منافرا ، وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو للدفع ، فثبت أن الشيء الّذي يكون متحركا (٤) بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا ، وثبت ان المدرك بجميع الإدراكات والمباشر لتحريك جميع الأعضاء شيء

__________________

(١) المخطوطة : وبكل

(٢) أيضا : تابعا

(٣) أيضا : وبهذا

(٤) أيضا : محركا

٣١

واحد فى الإنسان ، لأنا إذا تكلمنا فقد عقلنا أولا معنى ، ثم أردنا أن نعرف غيرنا ذلك المعنى ثانيا ، ثم انا باختيارنا أدخلنا تلك الحروف والأصوات ثالثا لنعرف غيرنا بواسطة (الورقة ٢٦٤ و) تلك الحروف والأصوات تلك المعانى التى عرفنا.

إذا ثبت هذا فنقول : إن كان محل العلم والإدراك هو بعينه محل تلك الحروف والأصوات لزم أن يقال أن محل العلوم والإدراكات هو الحنجرة واللهاة واللسان. ومن العلوم بالضرورة أن الأمر ليس كذلك

وإن قلنا : إن محل العلوم والإدراكات هو القلب ، ومحل الحروف والأصوات أيضا هو القلب ، فذاك أيضا معلوم البطلان بالضرورة.

وإن قلنا : إن محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ، ومحل العلوم والإدراكات هو القلب والدماغ ، ومحل القوة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد فرعنا هذه الأمور على الأعضاء المختلفة ، لكنا أبطلنا ذلك.

وقد بينا أن المدرك لكل المدركات بتلك (١) الإدراكات والمحرك لجميع الأعضاء بكل التحريكات بحيث أن تكون شيئا واحدا ، فلم يبق إلا أن يقال محل الإدراك فى البدن شيء سوى هذه الأعضاء ، وأن هذه الأعضاء جارية مجرى آلات وأدوات له ، فكما أن النجار يفعل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة ، فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتفعل بالقلب ، فهذه الأعضاء آلات للنفس و

__________________

(١) المخطوطة : تلك

٣٢

ادوات لها ، وذات النفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير.

وهذه الحجة برهان قاهر فى إثبات هذا المطلوب.

الحجة الثانية : لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة وإرادة له بمجموع الاجزاء (أو لا) ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد.

أما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء هذا البدن حيا عالما مريدا قادرا على سبيل الاستقلال ، فوجب أن لا يكون الإنسان (١) الواحد حيا واحدا قادرا وأحدا ، بل أحياء ، علماء ، قادرين (٢) ، وحينئذ لا يبقى بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم ببعض بسلسلة واحدة. لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا القول لأنى أجد ذاتى ذاتا واحدة وحيوانا واحدا لا حيوانات كثيرين لأن بتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا على حدة ، فحينئذ لا يكون لكل واحد منها خبر عن حال صاحبه. فيجوز أن يريد هذا الجزء أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآخر أن يتحرك إلى جانب آخر ، فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء البدن الواحد كما يقع بين الشخصين ، وفساد ذلك معلوم بالضرورة.

__________________

(١) المخطوطة : للانسان

(٢) أيضا : قادرون

٣٣

وأما بطلان القسم الثانى فإنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحل الكثير ، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ، ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة دفعة واحدة فى المحال الكثيرة لجاز حصول الجسم الواحد دفعة واحدة فى الاحياز الكثيرة ، وذلك معلوم البطلان بالضرورة. ولأن بتقدير أن يحصل الصفة الواحدة دفعة واحدة فى المحال المتعددة ، فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حيا عالما قادرا فيعود الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناسا كثيرين لا إنسانا (الورقة ٢٦٤ ظ) واحدا ، ولما ظهر فساد هذين القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال أنه تقوم الحياة بالجزء الواحد ، ثم أن تلك الحياة تقتضى ضرورة جملة الأجزاء حيا ، قلنا هذا باطل ، لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ولا للعلم إلا العالمية ، إلا أنا نقول : إن حصل فى مجموع الأجزاء حيية واحدة ، وعالمية واحدة ، فقد حصلت الصفة الواحدة فى المحال الكثيرة ، وهو محال ، وإن حصل فى كل جزء حيية واحدة على حدة وعالمية واحدة على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسا كثيرين ، وذلك الفساد معلوم بالضرورة.

الحجة الثالثة : لو كان الّذي يشير إليه الإنسان بقوله «أنا» موجودا متحيزا (١) لا يتبع أن يشير إلى نفسه بقوله «أنا» ويعلم المتحيز لكن التالى كاذب فالمقدم كاذب.

بيان الشرطية أنه لو كان المشار إليه بقوله «أنا» متحيزا مخصوصا

__________________

(١) المخطوطة : موجود متحيز

٣٤

لكان المتحيز احد جزئى الماهية ، ويمتنع حصول العلم بالماهية إلا عند العلم بكونه متحيزا.

وأما بيان كذب التالى فلأن الإنسان عند اهتمامه بمهم من المهمات قد يقول : تفكرت وعقلت وفهمت ، ومع هذه الحالة قد يكون عالما بذاته المخصوصة مع أنه قد يكون غافلا عن استحضار ماهية المتحيز والحجم وذلك يفيد صحة ما قلنا.

فإن قيل ما الدليل على أن العالم (١) بالماهية يجب أن يكون عالما باجزائها ، ثم يقول لم لا يجوز أن يقال : أجزاءها المخصوصة ماهية يلزمها المتحيز به ، وماهية اللازم مغايرة لماهية الملزوم ، وعلى هذا التقدير لا يلزم من علمنا بذواتنا المخصوصة علمنا بماهية المتحيز.

ثم نقول : لا نسلم أنا نعقل ذواتنا المخصوصة مع ذهولنا عن معنى الحجم والتحيز.

قوله انا قد نقول «علمت وفهمت وتفكرت» حال ما اكون (٢) غافلا عن معنى التحيز والحجمية.

قلنا لم لا يجوز أن يقال العلم بالتفصيل (٣) وإن غاب ، إلا ، أن العلم به على سبيل الجملة حاصل.

ثم نقول : كما أنا نعلم ذواتنا المخصوصة حال الذهول عن الجسم فكذلك (٤) قد نعقل ذواتنا المخصوصة حال الذهول عن استحضار ماهية النفس ، وحال الذهول عن استحضار موجود لا يكون جسما ولا يكون جسمانيا ، فما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.

والجواب عن الأول أنه لا حقيقة لذلك المركب إلا تلك الأجزاء ،

__________________

(١) المخطوطة : العلم

(٢) أيضا : نكون

(٣) أيضا : العلم التفصيل

(٤) أيضا : فلذلك

٣٥

فالعالم بذلك المركب (١) يكون لا محالة عالما بتلك الأجزاء ، وإلا لزم كون الشيء الواحد معلوما (و) غير معلوم معا وهو محال.

وعن الثانى أنا نعلم بالضرورة أن ذواتنا ذوات قائمة بأنفسها ، فلو جعلنا المتحيز لازما من لوازمها لوجب كون التحيز صفة من صفات نفوسنا وذواتنا وذلك محال ، لأن التحيز لو كان صفة لشيء آخر لكان ذلك الشيء الآخر ، إن كان متحيزا يلزم افتقاره إلى محل آخر ويلزم التسلسل ، وإن لم يكن متحيزا كان مجردا عن الوضع والجزء ، والمتحيز مختص بالوضع والجزء ، وحلول ماله وضع وحيز فيما لا وضع له ولا حيز له محال.

وعن الثالث أن العلم بالشيء عبارة عن الشعور به على وجه يميز بينه وبين غيره ، فلما أمكننا أن نعقل ذواتنا حال كوننا غافلين عن التحيز والحجم غير شاعرين به فقد حصل الغرض.

وعن الرابع (الورقة ٢٦٥ و) نفسى عبارة عن ذاتى المجردة المخصوصة فيستحيل أن أعرف ذاتى المخصوصة حال ما أكون غافلا عن نفسى ، بل يمكن أن أعرف نفسى حال ما أكون غافلا عن وصفها بأنها ليست متحيزة ولا حالة فى المتحيز إلا أن قولنا أن الشيء الفلانى ليس متحيزا ولا حالا فى المتحيز عبارة عن سلب غيره عنه مغاير لذاته المخصوصة لأن حقيقة الموجود (٢) ليست عين عدم غيره ، فثبت أن هذه السلوب (٢ مغايرة لتلك الذات المخصوصة ، فلا جرم جاز العلم

__________________

(١) المخطوطة : فالعالم بذلك الاجزاء المركب ،

(٢) أيضا : الموجودة

٣٦

بتلك الذات المخصوصة حال الذهول عن تلك السلوب.

ولأنا قد دللنا على أن بتقدير كون النفس جسما مخصوصا كان الجسم جزأ من أجزاء الماهية ، وعلى هذا التقدير يمتنع شعوره بالنفس حال الذهول عن الجسم فظهر الفرق.

الحجة الرابعة على أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد ، أن نقول : هذا الجسد اجزاؤه واقعة فى التبدل ابدا ، والمشار إليه لكل أحد بقوله «أنا» باق (١) مستمرا.

أما المقدمة الأولى فجلية (٢) ، وذلك لأن جسد الإنسان جوهر رطب ، والحرارة إذا عملت فى الرطوبة اصعدت عنها البخارات ، وذلك يوجب انحلال بدن الإنسان ، ولهذا السبب احتاج بدن الإنسان إلى الغذاء ليقوم الغذاء ببدل ما يتحلل ، فثبت أن التحلل والذوبان دائم الحصول فى بدن الإنسان ، وأيضا فبدن الإنسان حال ما كان طفلا كان منا أو منين أو ثلاثة أمناء ، وحال صيرورته شابا قد يبلغ سبعين منا وأكثر ، وذلك يوجب كون أجزائه فى التبدل ، وأيضا الإنسان قد يكون سمينا فيصير هزيلا ، ثم يعود سمينا ، فالأجزاء قد تبدلت بالزيادة والنقصان. وأيضا فانا نشاهد ونحس كون هذه الأجزاء الجسدانية واقعة فى الانحلال بسبب العرق وسائر الرطوبات ، فثبت أن الجسد واقع أبدا فى الانحلال والذوبان.

وأما المقدمة الثانية : وهى أن المشار إليه لكل واحد بقوله «أنا» غير واقع فى التبدل ، والأمر فيه ظاهر ، لأنى أعلم بالضرورة أنى

__________________

(١) المخطوطة : باقيا

(٢) أيضا : مجلية

٣٧

الآن عين ما كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة ، والإنسان إذا قطعت يداه ورجلاه وقلعت عيناه فإنه يعلم بالضرورة أنه عين الإنسان الّذي كان موجودا قبل ذلك فثبت بما ذكرنا أن الجسد بجميع أجزائه واقع فى التبدل ، وثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله «أنا» عين هذا الجسد وغير كل واحد من أجزاء هذا الجسد.

واعلم أنه يبقى هاهنا سؤال واحد (١) ، وهو أن يقال لم لا يجوز أن يقال هذا الجزء المحسوس يشتمل على أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى أخره مصونة عن الاختلال والانحلال.

وأما سائر الاجزاء فإنها واقعة فى الانحلال والتبدل ، والإنسان عبارة عن تلك الأجزاء الأصلية ، إلا اننا نقول (٢) : ظهر على جميع التقديرات أن الانسان ليس عبارة عن جميع هذا الجسد المحسوس وعن هذا الهيكل الظاهر ، فأما أن يقال انه عبارة عن أجزاء مخصوصة سارية فى تضاعيف هذا الجسد ، فنقول : الفلاسفة يدفعون هذا الاحتمال بناء على مقدمتين :

أحدهما ، أن الأجسام متماثلة (٣ ، وبرهانه أن الاجسام لا شك (الورقة ٢٦٥ ظ) أنها متساوية فى طبيعة الحجمية والامتداد ، فلو اختلفت نفس بعد ذلك فى ماهياتها ، لكان ما به المخالفة مغايرا (٣) لما به المشاركة لا محالة. فيلزم ان تكون تلك الخصوصيات مغايرة لطبيعة الحجمية والامتداد ، ولو كان كذلك لكان إما ان يكون كل

__________________

(١) المخطوطة : سؤالا واحدا

(٢) أيضا : الا انها تقول

(٣) أيضا : مغاير

٣٨

واحد من هذين الاعتبارين ذاتا والآخر (١) صفة. والأول محال ، لان على هذا التقدير تكون طبيعة الحجمية والامتداد ذاتا مستقلة بنفسها.

اقصى ما فى الباب أنه حصل فى الوجود ذات أخرى ، إلا أن حصول هذه الذات لا توجب وقوع المخالفة فى الذات الاولى ، وحينئذ يرجع القول إلى أن الاجسام متماثلة.

وأما القسم الثانى ، وهو أن يكون احد الاعتبارين ذاتا والآخر صفة ، فنقول : إما أن يقال إن طبيعة الحجمية هى الذات ، والّذي به حصلت المخالفة ذات ، او (٢) (ان) الحجمية التى حصلت بها المشاركة صفة ، فإن كان الأول فحينئذ كانت الذوات متساوية فى تمام الماهية ، إلا أنها مختلفة فى الصفات العرضية ، وذلك لا يمنع (٣) قولنا. وإن كان الثانى لزم كون الحجمية والتحيز صفة وقد ابطلناه. فثبت بهذا البرهان أن الأجسام متماثلة.

والمقدمة الثالثة أن واجب الوجود لذاته عام الفيض ويمتنع أن يختص أحد المثلين بخاصية ، وانه لا يحصل فى الثانى ، وهذه المقدمة فلسفية محضة.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : تلك الأجزاء الأصلية البدنية مساوية للأجزاء الفرعية فى تمام الماهية والحقيقة ، فكانت نسبة الأحوال الموجبة للانحلال والذوبان إليها وإلى غيرها على السوية ، ويمتنع ان يقال ان واجب الوجود لذاته خص بعض تلك الأجزاء بالإبقاء

__________________

(١) المخطوطة : وللآخر

(٢) أيضا : والحجمية

(٣) أيضا : لا يمتنع

٣٩

والصون عن الذوبان ، لما ذكرنا أن الفيض عام والتخصيص محال ، فإذا كان الأمر كذلك وثبت حصول الذوبان والانحلال فى جميع الأجزاء البدنية فيندفع (١) هذا السؤال.

الحجة الخامسة المشار إليه لكل واحد بقوله «أنا» قد يكون معلوما له حال كونه غافلا عن جميع الأجزاء الجسدانية الظاهرة والباطنة ، فإن الإنسان حال اهتمامه بمهم قد يقول «تفكرت» و «سمعت» مع أنه يكون حال تكلمه بهذا الكلام غافلا عن وجهه ويده وقلبه ودماغه وسائر أعضائه ، والمشعور به مغاير للمغفول عنه ، وإلا لزم أن يصدق على الشيء الواحد كونه مشعورا به غير مشعور به ، فيلزم اجتماع النقيضين فى الشيء الواحد وهو محال ، وهذا البرهان إنما يكمل بالعود إلى ما ذكرناه فى البرهان الثالث.

الحجة السادسة : أنا لما تأملنا فى أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست بجسم ، وتقريره من وجوه :

الأول : إن كل جسم يحصل فيه صورة بعد صورة أخرى من جنس الصورة الأولى لا يحصل إلا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالا تاما ، مثاله أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث فإنه يمتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه. ثم إنا وجدنا الحال فى قبول النفس تصور المعقولات بالضد من ذلك ، فإن النفس (التى) لم تقبل صورة عقلية يعسر قبولها لشيء من الصور العقلية ، فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ،

__________________

(١) المخطوطة : فندفع

٤٠