النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

وإذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة ، (الورقة ٢٦٦ و) اسهل ، غير أن النفس لا تزال على صورة بعد صورة أبدا من غير أن تضعف فى وقت من الأوقات ، بل كلما كان قبولها للصور أكثر ، صارت الصفة المتقدمة أقوى وأكمل ظهورا ما قبل ذلك ، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وادراكا ، كلما ازداد ارتياضا وتخرجا فى العلوم ، فثبت أن فعل النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصور الحالة فيه ، وذلك يدل على أن النفس ليست بجسم.

الثانى أن المواظبة على الأفكار الدقيقة والتأملات العميقة لها أثر فى النفس وأثر (١) فى البدن.

أما أثرها فى النفس فهو إخراجها للنفس من القوة إلى الفعل ، وفى التعقلات والإدراكات ، وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل ، وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجمالها (٢).

وأما أثرها فى البدن ، فهو أنه يوجب استيلاء النفس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة (إن) استمرت لانتهت إلى الماليخوليا وموت البدن.

فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وجمالها (٣) ، وتوجب موت البدن ونقصانه واختلاله ، فلو كانت النفس هى البدن لصار الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا وذلك محال.

__________________

(١) المخطوطة : اثرا

(٢) أيضا : ولجلالها

(٣) أيضا : ولجمالها

٤١

الثالث أنا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا ، فإذا لاح له نور من أنوار عالم القدس ، وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان قوة عظيمة واستيلاء شديد ، ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ، ولم يتأثر من حضور العساكر الكثيرة والأهوال الشديدة ولم يثبت لها وزنا ولا قدرا.

ولو لا أن النفس شيء سوى البدن وان النفس إنما تحيى وتقوى بغير ما به يحيى البدن. وإلا لما كان الأمر كذلك بل من تأمل حق التأمل عرف كل ما هو سبب لحياة البدن ولقوته فهو سبب لموت النفس وضعفها ، وكل ما هو سبب لحياة النفس وقوتها فهو سبب لموت البدن وضعفه.

الرابع أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا فى قهر القوى البدنية وبتجويع الحس قويت قواهم الروحانية واشرقت اسرارهم بالمعارف الإلهية.

وكلما امعن الإنسان فى الأكل والشرب وقضاء الشهوات الجسدانية صار كالبهيمة (٤ وبقى محروما عن آثار النطق والعقل والفهم والمعرفة.

ولو لا أن النفس شيء غير البدن وان سعادتها مغايرة بسعادة البدن ، وقوتها غير قوة البدن ، وإلا لما كان الأمر كذلك.

الخامس أن الإنسان حال النوم يصير ضعيف البدن قوى النفس حتى أنه عند النوم ليطلع على ما يعجز عن الاطلاع عليه حال اليقظة ، ولو كانت النفس شيئا (١) غير الجسد لامتنع أن يكون حال النوم

__________________

(١) المخطوطة : شيء

٤٢

كذلك.

فهذا مجموع ما لحصناه وحصلناه فى إثبات أن النفس شيء غير الجسد ، وأما الدلائل التى ذكرها من تقدم [فقد] (١) لحصناها فى كتبنا وبحثنا عنها واعترضنا عليها بما لم يبق للقائل فيها شك وارتياب.

السادس : قال بعضهم إذا تفحصنا امر النفس وجدناها يفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن ، لأن الإنسان [إذا تصور بالعقل شيئا] (٢) فإنه لا يتصوره بآلة بدنية كما يتصور الألوان بالعين ، والروائح بالأنف فإن (الورقة ٢٦٦ ظ) الجزء الّذي فيه النفس لا يسخن ولا يبرد ولا يتغير عند حصول التصورات العقلية.

الفصل الخامس

فى الدلائل المستفادة من الكتاب الإلهي فى إثبات

أن النفس شيء غير الجسد.

اعلم أن الكتاب الإلهي يدل على صحة هذا المطلوب من وجوه :

الحجة الأولى : أن القرآن دل على أن الشيء المشار إليه بأنه هو الإنسان المخصوص باق بعد الموت لهذا البدن حي ، قاهر ، عاقل ، قال تعالى فى صفة الشهداء : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ) (١. وقال فى صفة المعذبين : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢ ، وقال : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا

__________________

(١) لفظ غير واضح فى المخطوطة

(٢) هذه العبارة على هامش المخطوطة

٤٣

ناراً)

وهذه النصوص ناطقة بأن الشيء المشار إليه بأنه هو الإنسان باق بعد موت هذا البدن حي مدرك للألم واللذة.

وأما أن هذا الجسد المشار إليه ليس حيا بعد الموت فهذا معلوم بالضرورة ، ولو جوزنا كونه حيا لجاز مثله فى جميع الجمادات وذلك عين السفسطة.

وإذا لاحت المقدمتان علمنا أن المشار إليه بقولنا : «هذا الإنسان» ليس هو هذا البدن ، ولا عضوا من أعضاء البدن ، فإنا مضطرون إلى العلم بأن هذا البدن مات بجميع أجزائه وابعاضه.

وإنى لشديد التعجب من هؤلاء المنكرين لوجود النفس ، وذلك لأن تصديق القرآن والنصوص فى ثواب القبر وعقابه وفى الحشر والنشر تصير مقبولة معقولة بسبب إثبات النفس ويتخلص عن المطاعن والشبهات والإشكالات ، وإذا لم تثبت النفس توجهت الإشكالات وعظمت المطاعن مما الّذي حمل هؤلاء على إنكار النفس حتى وقعوا فى الظلمات الشديدة.

الحجة الثانية : قوله (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) (٤ ، وهذا صريح فى أن النفس شيء مغاير لهذا الجسد يتصل به تارة وينفصل به أخرى.

قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٥ ، وهذا يدل على أن النفس لا تموت بموت البدن ، بل يرجع من الجسد إلى عالم القدس والجلال.

وقال أيضا : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) (٦ ، وهذا يدل على أن

٤٤

الشيء المشار إليه بأنه هو الإنسان المخصوص لا يموت عند موت البدن بل يرد من هذا الجسد إلى عالم القدس وحضرة الجلال.

وأما لفظ الرجوع إلى الله عند الموت فهو فى القرآن كثير جدا ، وكل ذلك يدل على أن الشيء الّذي هو الإنسان فى الحقيقة لا يموت عند موت البدن بل يرجع من دار الدنيا وعالم الحس إلى عالم الآخرة ، وكل ذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد.

الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر مراتب الحلقة الجسمانية فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) (٧.

ولا نشك أن هذه المراتب اختلافات واقعة فى الأحوال الجسمانية ،

ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٧ ، وهذا تصريح بأن ما يتعلق بنفخ الروح جنس أخر مغاير لما سبق من التغيرات الواقعة فى الأحوال الجسمانية.

وذلك يدل على أن الروح ليس من جنس البدن ، فإن قلت هذه الحجة (الورقة ٢٦٧ و) عليكم ، لأنه تعالى قال : (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٧ ، وكلمة. من. للتبعيض ، وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين ، وأنتم تقولون أنه شيء غير ذلك ، فكان هذا تصريحا بنص الكتاب الكريم.

قلنا : هذا فى غاية البعد ، لأن كلمة «من» أصلها لابتداء الغاية ، تقول : خرجت من البصرة إلى الكوفة ، فقوله : (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ

٤٥

سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، يقتضي أن يكون ابتداء التخليق للإنسان حاصلا من هذه السلالة. ونحن نقول بموجبه ، لأنه تعالى سوى المزاج البدنى ، ثم نفخ فيه الروح ، فيكون ابتداء تخليقه من السلالة. فثبت أن ما ذكروه فاسد.

الحجة الرابعة أنه تعالى ميز بين عالم الأرواح وعالم الاجساد ، ثم ميز الأمر منه ، وذلك يقتضي أن يكون الأمر مبرأ عن (١) التقدير والحجمية.

ثم أنه تعالى بين فى آية أخرى ، أن الروح من عالم الأمر ، لا من عالم الحلق (٨. فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٩. وذلك يدل على أن جوهر الروح من عالم الأمر ، وأنه مبرأ عن الحجمية والتحيز والتقدير.

الحجة الخامسة : قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١٠ ، ميز بين التسوية وبين نفخ الروح ، فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والامشاج ، فلما ميز نفخ الروح عن التسوية ، ثم أضاف (٢) الروح إلى نفسه دل ذلك على أن الروح جوهر شريف ، ليس من جنس الجسد ، وذلك هو المطلوب.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها

__________________

(١) على هامش المخطوطة «..»

(٢) المخطوطة : اضاب

٤٦

فُجُورَها وَتَقْواها) (١١ ، وهذه الآية صريحة فى وجود نفس موصوفة بالإدراك وبالتحريك معا ، لأن الإلهام عبارة عن الإدراك ، وأما الفجور والتقوى فهو فعلى ، فهذه الآية صريحة فى أن الإنسان شيء واحد ، وهو موصوف بالإدراك ، وموصوف أيضا بفعل الفجور تارة ، وبفعل التقوى أخرى. ومعلوم أنه ليس كل البدن موصوفا بالإدراك وبالفعل معا ، وليس عضوا واحدا من اعضاء البدن موصوفا بجملة الإدراكات وجملة هذه الأفعال. فلا بد من إثبات جوهر واحد يكون موصوفا بكل هذه الأمور.

ومما تقرب من هذا الدليل قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٢ ، فهذا تصريح بأن الإنسان شيء هو موصوف بأنه هو المبتلى بالتكاليف الإلهية والأوامر الربانية ـ وبأنه هو الموصوف بالسمع والبصر.

ومعلوم أن جملة البدن ليس كذلك ، فإنه لا يمكن أن يقال : إن بدن الإنسان مكلف من قبل الله بالافعال [والترك وكذا] يده أو رجله أو جبهته أو حدقته أو أنفه أو لسانه مكلف بذلك. فإن العلم الضرورى حاصل بأنا إذا أمرنا الإنسان بأمر أو نهيناه عن فعل ، فهذا الأمر والنهى ما توجها على عضو من أعضائه ولا على جملته ، بل الشيء المتصرف الثابت لمجموع الجسم هى (النفس) التى تكون سارية فى مجموع ذلك الجسم (١٣ ، حاصلة فى كل واحد من أجزاء ذلك البدن ، موصوفة بذلك الوصف.

ولما تقرر وبين أن الإدراك والفهم والتكليف لم يتوجه على شيء

٤٧

من هذه الأعضاء ، علمنا أنه لا يمكن أن يقال : الموصوف بكونه عضوا واحدا يصدق عليه بعينه أنه سميع ، بصير ، مكلف ، مأمور ، مثاب ، معاقب ، وقد دل قوله تعالى : «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ (الورقة ٢٦٧ ظ) سَمِيعاً بَصِيراً» (١٢ على أن الإنسان شيء واحد مغايرا لهذا الجسد لكل واحد من اجزاء هذا الجسد وابعاضه ، وذلك هو المطلوب فإن عادوا وقالوا : إن قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) (١٣ ، يدل على أن الإنسان بعض من الامشاج ومن النطفة ، لأن كلمة «من» للتبعيض.

فنقول : إنه سبق الجواب عنه بما لا يبقى للعاقل فيه شك ولا شبهة.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١٤ ، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الشكل المشاهد ، وهذا الجسد المحسوس ، فدل ذلك على أن النفس التى ينساها الإنسان عند فرط جهله شيء آخر غير هذا البدن.

الحجة الثامنة : قوله عليه‌السلام : «من عرف نفسه عرف ربه» (١٥ ، وجاء فى كتب الله المنزلة : «يا انسان! اعرف نفسك تعرف ربك». ولو كان المراد من النفس هو البدن المشاهد والشكل المحسوس لما أمرنا بمعرفته لأن معرفته حاصلة بالضرورة وتحصيل الحاصل محال.

الحجة التاسعة : الأحاديث الكثيرة الواردة فى بيان أن الإنسان يبقى فاهما ناطقا عاقلا بعد موته ، وقال عليه‌السلام : أنبياء الله لا يموتون ، ولكن ينقلون من دار إلى دار ، وقال عليه‌السلام فى خطبة

٤٨

له طويلة : حتى إذا حمل الميت على نعشه وفرقت روحه فوق النعش ويقول : يا أهلى! ويا ولدى! وذكر الحديث ، وجه الاستدلال به أن النبي عليه‌السلام : صرح بأن الميت يكون على النعش ، ويبقى هناك شيء حي ينادى ، ويقول : يا أهلى ويا ولدى! ومعلوم أن الّذي كان الأهل (١) أهلا له ، وكان الولد ولدا له ، وكان الّذي جمع المال من الحلال والحرام يبقى الوبال فى ذمته ورقبته ، هو كناية بل تصريح بالإنسان وأن الجسد ميت محمول على النعش ، والإنسان المخصوص باق ، حي ، ناطق ، فاهم (١٦ ، وهو صريح فى أنه شيء مغاير لهذا الجسد المحسوس والشكل المشاهد.

ولما عرفت نسق الاستدلال بهذا الحديث الدال على إثبات النفس أمكن أن يستدل بأحاديث كثيرة من هذا الجنس خارجة عن الحد والإحصاء.

الحجة العاشرة أنه تعالى قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) ، ولن يكون الإنسان خليفة إلا إذا علم ما يجرى فى العالم ، ثم يمكنه أن يتصرف فى تلك الأحوال بالنفى والاثبات ، فذلك الشيء المحكوم عليه بأنه خليفة الله فى أرضه ، لا بدّ وأن يكون موصوفا (١٧ بالإدراك وبالفعل.

ثم انه تعالى بين أنه تعالى (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٣) ، والحقائق ،

__________________

(١) المخطوطة : للاهل

(٢) البقرة : ٣٠

(٣) أيضا : ٣١

٤٩

فثبت أن ذلك الشيء المحكوم عليه بأنه هو الحليفة ، يجب أن يكون عالما بأحوال عالم الاجسام متصرفا فيها ، ويجب أن يكون هو بعينه عالم الغيوب وأسرار الملكوت ، فالإنسان جوهر واحد موصوف بجميع هذه الصفات ومجموع البدن ليس كذلك ، وليس فى البدن عضو واحد ، موصوف بكل هذه الأمور ، فوجب القطع بأن جوهر الإنسان فى ذاته أمر مغاير لمجموع هذا البدن لكل واحد من أعضائه وابعاضه.

ولنختم هذه الدلائل القرآنية البرهانية بوجه اقناعى اعتبارى ونثبت أن صريح العقل شاهد بانا نضيف كل واحد من هذه الأعضاء إلى أنفسنا ـ فنقول : يدى ورجلى وقلبى ودماغى ، والمضاف غير المضاف إليه.

فعلمنا أن النفس شيء مغاير لهذه الأعضاء ـ فإن قالوا : فقد نقول أيضا : نفسى وذاتى (الورقة ٢٦٨ و) وهذا يقتضي أن تكون نفس مغايرة لنفسه وهو محال.

وجوابه أن النفس قد يراد بها المعنى المشار إليه بقوله «أنا» وقد يراد به الجثة المحسوسة ، والهيكل المشاهد.

أما النفس بالمعنى الأول فصريح العقل شاهد بأنه لا يمكن اضافته إلى نفسه ، فإنه لا يمكن اضافة المعنى المشار إليه «بأنا» إلى غير ذلك المعنى.

وأما النفس بالمعنى الثانى فيمكن اضافتها إلى المعنى المشار إليه «بانا» لأن هذه الجثة كالمملكة لذلك المعنى المشار إليه «بأنا»

٥٠

إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا : «نفسى وذاتى» ، يجب أن يكون المراد من النفس هو المعنى الثانى لا المعنى الأول حتى لا يلزم التناقض ، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال.

الفصل السادس

فى أن المتعلق بجوهر النفس هو القلب ، وبواسطة القلب

يتعلق بسائر الأعضاء

مذهب الجمهور من المحققين وأصحاب المكاشفات (١ أن القلب هو الرئيس المطلق لسائر الأعضاء ، وأن النفس متعلقة به أولا وبواسطة ذلك التعلق تصير متعلقة بسائر الأعضاء ، وهذا هو مذهب أرسطو واتباعه من عدة الحكماء ، وذهب قوم إلى أن الإنسان عبارة عن مجموع نفوس ثلاثة :

١ ـ النفس الشهوانية ، وتعلقها أولا بالكبد ،

٢ ـ والنفس الغضبية ، وتعلقها أولا بالقلب ،

٣ ـ والنفس الناطقة الحكيمة ، وتعلقها أولا بالدماغ (٢ ، وهذا مذهب جماعة من الأطباء كجالينوس (١) وأتباعه.

الّذي يدل على صحة القول الأول وجوه من القرآن والأخبار والمعقول.

__________________

(١) المخطوطة : لجالينوس ،

٥١

أما الدلائل القرآنية فوجوه :

الأول قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (٣ ، وفى الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٤ ، فدلت هاتان الآيتان بصريحهما على أن التنزيل والوحى كانا (١) على القلب ، وذلك يقتضي أن يكون المخاطب والمعاقب هو القلب.

الحجة الثانية قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٥. فهذه الآية دالة بصريحها على أن محل الذكر والفهم هو القلب.

وأعلم ، ان هذه الآية مشتملة على لطيفة عجيبة ، إلا أن بيانها أنها يتم بتقديم سؤال ، فإنه يقال : أن الواو العاطفة أليق بقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) من الواو القاسمة ، وذلك لأن حصول الذكرى لا بد فيه من مجموع أمرين : لا بدّ فيه من القلب ، ولا بد فيه من إلقاء السمع ، لأن القلب عبارة عن محل إدراك الحقائق ، وإلقاء السمع ، عبارة عن الجد والاجتهاد فى تحصيل تلك الإدراكات والمعارف.

ومعلوم أنه لا بد من الأمرين معا فكان ذكر الواو القاسمة هنا أليق من ذكر الواو العاطفة ، إلا أنا نقول بل الحق أن الواو القاسمة أولى من واو العاطفة.

وبيانه أن القوى العقلية قسمان : منها ما يكون فى غاية الكمال والإشراق ، ويكون مخالفا لسائر القوى العقلية بالكم والكيف ـ أما

__________________

(١) المخطوطة : كان ،

٥٢

الكم فلأن حصول المقدمات البديهية والحسية والتجربية أكثر ، وأما الكيف فلأن تركيب تلك المقدمات على وجه ينساق أمر النتائج الحقة أسهل وأسرع.

إذا عرفت هذا ، فنقول : مثل هذه النفس القدسية والقوة العقلية الإلهية تستغنى فى معرفة (الورقة ٢٦٨ ظ) حقائق الأشياء عن التعلم والاستعانة بالغير ، إلا أن مثل هذا فى غاية الندرة والقلة.

أما القسم الثانى : وهو الّذي لا يكون كذلك فهو يحتاج فى اكتساب العلوم الفكرية فى أن يبقى مصونا (٦ عن الحلل والزلل.

إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : «إِنَّ فِي ذلِكَ (١) لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» (٥ اشارة إلى القسم الأول.

وإنما ذكر القلب بلفظ التنكر ليدل بهذا التنكر على كون ذلك القلب فى غاية الشرف ونهاية الجلالة ـ وإن مثل هذا القلب يكون عزيز الوجود ونادر الحصول.

وأما قوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) فهو إشارة إلى القسم الثانى ، والّذي يفتقرون (فيه) إلى الكسب والاستعانة بالغير ، وهذه القاعدة من الأسرار التى عليها بناء علم المنطق ، وقد لاح تقريرها فى هذه الآية ـ فتأكد هذا الفرقان البرهانى بالبيان القرآنى ، فلا جرم بلغ الغاية من الوضوح والظهور ، ولما كان القسم الأول نادرا جدا ، وكان الغالب هو القسم الثانى ، لا جرم أمر الكل فى أكثر الآيات بالطلب

__________________

(١) المخطوطة : هذا ،

٥٣

والاكتساب ، فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٧ ،

فقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، محمول على الطلب والجد والجهد فى الكسب ، وقال صاحب المنطق أن القسم الأول وإن كان غنيا عن الاستعانة بالمنطق إلا أنه نادر جدا ، والغلبة للقسم الثانى ، وكلهم محتاجون إلى المنطق ، فأنظر إلى هذه الأسرار العميقة كيف تجدها مدرجة فى الفاظ القرآن.

الحجة الثالثة : الآيات الدالة على أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما فى القلب من السعى والطلب ، فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٨ ، وقال : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (٩ ثم ذكر فى آية أخرى أن موضع التقوى هو القلب ، فقال (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) (١٠ ، وقال : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١١.

الحجة الرابعة : ان محل العقل هو القلب ، وإذا كان كذلك ، كان المامور والمنهى والمعاقب والمثاب هو القلب.

إنما قلنا : ان محل العقل هو القلب لقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٧ ـ وقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) (١٢ ، وقوله : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ

٥٤

قَلْبٌ» (٥ أى عقل أطلق اسم القلب على العقل تسمية الحال باسم المحل ، وأيضا أضاف اضداد العلم إلى القلب ، فقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١٣ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١٤ ، (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (١٥ (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (١٦ ، (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) (١٧ ، (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١٨ ، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١٩ ، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٠ ، فدلت هذه الآيات على أن موضع العقل والفهم والجهل والغفلة هو القلب ، وكل ذلك يدل على ما قلناه.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢١ ، معلوم ان السمع والبصر لا فائدة فيهما إلا ما يؤديانه إلى القلب ـ فكان السؤال عنهما فى الحقيقة سؤالا عن القلب ـ ونظيره قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٢٢ ومعلوم أن خائنة الأعين لا تكون إلا بما [تضمن] القلوب (الورقة ٢٦٩ و) ، تقرر منه قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢٣ ، فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة عليها واستدعاء الشكر منها ، وقد عرفت انه لا طائل فى السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضى والحاكم عليهم ـ ونظيره قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢٤ ، فجعل تعالى هذه الثلاثة تمام ما الزمهم من حجته ، والمقصود من الكل هو الفؤاد القاضى فى الكل ما يؤدى إليه السمع و

٥٥

البصر ، وتقرر منه قوله وتعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) فجعل العذاب لازما لهذه الثلاثة ، ونظيره قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) (١٢.

وجه الاستدلال بهذه الآية ان المقصود من هذه الآية بيان أنه لا علم لهم أصلا ، ولو ثبت العلم فى غير القلب كثباته فى القلب لم يتم الغرض.

الحجة السادسة انه تعالى كلما ذكر الايمان فى القرآن اضافه الى القلب ـ فقال تعالى : (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٢٥ ، وقال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، (٢٦ وقال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢٧ ، وقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢٨ ، فثبت ان محل هذه المعارف هو القلب ، واذا كان كذلك كان محل الارادات هو القلب ، لأن الإرادة مشروطة بالعلم ، واذا كان محل العلم والإرادة هو القلب كان الفاعل هو القلب ، وإذا كان كذلك كان هو المخاطب والمثاب والمعاقب.

وأعلم أن من وقف على الاستدلال بهذه الآيات امكنه ان يجد من جنسها آيات كثيرة فى القرآن.

وأما الأخبار ، فما روى النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ألا وان فى الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب (٢٩ وباقى الاعضاء تبع له».

٥٦

ويروى ان اسامة لما قتل الكافر الّذي قال : لا إله لا الله ، فقال له النبي عليه‌السلام ، لما انكر عليه قتله ، واعتذر بانه قالها عن الخوف ، فقال : الا شققت عن قلبه ، وهذا يدل على ان المعرفة والايمان هو بالقلب ، وكان يقول (١) عليه‌السلام : يا مقلب القلوب! ثبت قلبى على دينك (٣٠ ، وهذا تصريح بالمطلوب.

واما الدلائل العقيلة فلها وجوه وحجج :

الاول ان نقول النفس الانسانية واحدة ، فاذا كان كذلك وجب ان يكون ذلك العضو الرئيس هو القلب.

اما المقدمة الاولى وهى بيان ان النفس الانسانية واحدة ، فقد ذكرنا براهين هذه المقدمة فى الفصل المشتمل على دلائل إثبات النفس فلا حاجة الى الاعادة ، الا انا نذكر هاهنا حجة القائلين بتعدد النفس فنجيب عنها.

قالوا : رأينا النفس المدبرة لامر الغذاء حاصلة فى الثبات منفكة عن النفس الغضبية ، ورأينا النفس الغضبية حاصلة فى كثير من الحيوان بدون الناطقة ، ثم رأينا هذه الآثار الثلاثة حاصلة فى الانسان ـ فعلمنا ان كل واحد من هذه الثلاثة جوهر مستقل بنفسه ينفرد بذاته لكنها اجتمعت فيه.

وجوابنا انه ثبت فى علم المنطق ان الماهيات المختلفة يجوز

__________________

(١) المخطوطة : يقوله

٥٧

اشتراكها فى آثار متساوية ، واذا ثبت هذا ، فنقول : لم لا يجوز ان يقال النفس (الورقة ٢٦٩ ظ) النباتية مخالفة للنفس الانسانية فى الماهية ، ثم انها مشاركة لها فى الغذاء ، وتدبيرها ، وان كانت مخالفة لها فى امور أخرى ، وهو انها تقوى على تدبير الاحوال المنطقية ، وان كانت النفس النباتية لا تقوى على ذلك ، وكذا القول فى القوة الغضبية.

فإن قالوا : النفس الواحدة كيف تكون مصدرا للافعال المختلفة قلنا ، لم لا يجوز ذلك بسبب آلات مختلفة (١) ، وذكر الجواب عن شبهة من خالف فيه.

اما المقدمة الثانية : وهى قولنا : لما كانت النفس واحدة كان العضو الرئيس هو القلب ، فالدليل عليه ان اوّل عضو يتكون فى البدن هو القلب (٣١ ، واذا كان كذلك وجب ان يكون هو العضو الرئيس ،

والدليل على صحة المقدمة الاولى التجربة والقياس :

اما التجربة : إن اصحاب التجارب (٣٢ شهدوا به.

واما القياس : فهو ان المنى جسم مركب من ارضية ومائية وهوائية ونارية ، فالهوائية والنارية غالبتان (٢) عليه (٣) ، ويدل عليه ان بياض الرطوبة انما يكون بسبب اختلاط الهوائية بها كما يكون

__________________

(١) المخطوطة : المختلفة

(٢) أيضا : غالبان

(٣) أيضا : عليها

٥٨

فى الزبد ، فوجب ان يكون بياض المنى لهذا السبب ، ويتأكد ما ذكرناه ان المنى اذا ضربه البرد رق وزال بياضه مع ان البرد اولى بالتكثيف ، وذلك يدل على ان بياضه انما كان لاجل ما اختلط به من الاجزاء النارية والهوائية ـ فلما (١) ضربه البرد فارقته تلك الاجزاء النارية والهوائية ، فزال بياضه.

اذا عرفت هذا ، فنقول : انه تعالى قدر ان الأجزاء الارضية والمائية الموجودة فى المنى يجعلها مادة للاعضاء ، والاجزاء الهوائية والنارية يجعلها مادة للارواح ، إلا ان تلك الاجزاء اللطيفة والكثيفة يكون مختلطا بعضها ببعض فى اوّل الأمر الا ان الجنسية علة الضم ، فتنضم الاجزاء اللطيفة بعضها الى بعض ، والاجزاء الكثيفة بعضها الى بعض.

ولما كان اللطيف سريع التحلل والتلاشى اقتضت الحكمة الالهية ان جعل تلك الاجزاء اللطيفة فى الوسط ، وجعل الاجزاء الكثيفة كالصوان لها ـ وعند ذلك يصير الكل كالكرة المستديرة ، ويكون باطن تلك الكرة مملوا من تلك الاجزاء اللطيفة الهوائية والنارية ، ويكون ظاهرها مؤتلفا من الاجسام الكثيفة ، وذلك هو الموضع الّذي اذا استحكم وكمل كان قلبا ، فلهذا السبب قال اهل العلم بالتشريح : اوّل الاعضاء الانسانية تكونا هو القلب (٣٣ ، واخرها موتا هو القلب.

إذا ثبت هذا فنقول : لما كان القلب أول الأعضاء تكونا ، وكان القلب هو المجمع لتلك الأجزاء التى منها تتكون الأرواح ، ودلت التجارب الطبية على أن المتعلق الأول للنفس هو الروح ، لزم أن يكون

__________________

(١) المخطوطة : فكما

٥٩

تعلق النفس بالقلب قبل تعلقها بسائر الأعضاء وبواسطة القلب تسرى إلى سائر الأعضاء ـ فثبت ان العضو الرئيس المطلق فى البدن هو القلب (٣٤.

الحجة الثانية فى إثبات هذا المطلوب أن العقلاء لا يجدون (١) الفهم والإدراك والعلم إلا من ناحية القلب ـ فعلمنا ان القلب محل العلم بواسطة كون النفس متعلقة ، وأن تعلقها بالقلب ، وإذا كان محل العلم ليس إلا القلب كان محل الإرادة مشروطة بالعلم ، وإذا كان محل الإرادة هو القلب (الورقة ٢٧٠ و) كان محل القدرة على التحريك هو القلب ، فثبت ان محل هذه الصفات هو القلب.

قال جالينوس : مسلم أن القلب محل الغضب ، وأما أنه محل العلم فباطل ، وجوابه أن الغضب دفع المنافى ، ودفع المنافى لا بد وأن يكون له شعور بالمنافى ، فلما سلم أن القلب محل الغضب لزم تسليم «أن القلب محل العلم والإدراك».

الحجة الثالثة : لا نزاع أن النفس الحيوانية لا بد وأن تكون حساسة متحركة بالإرادة ، فإذا تعلقت النفس بالقلب فلا بد وأن تفيده الحس والحركة الإرادية ، وذلك يقتضي أن يصير القلب متبعا للادراك والشعور ، والقوة المحركة ، وذلك يبطل قول جالينوس : أن الهيولى للإدراك والتحريك الإرادي هو من الدماغ لا القلب.

الحجة الرابعة : ان الحس والتحريك الإرادي إنما يحصلان بالحرارة لا بالبرودة (٢) ، فإنها عائقة عنهما ، ويدل على صحة ما ذكرناه

__________________

(١) المخطوطة : يجدون

(٢) أيضا : لا البرودة

٦٠