النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

وأما الزى فغلظ الثياب ولبس الصوف وتقصير الثياب وتشميرها وقصر الاكمام ، وترك ترميم الثوب وتركه مخرقا أو مرقعا بعض الترقيع كل ذلك تورية ليستدل بها على اتباع السنة ، وطريق العباد الصالحين من السلف الفقراء ، ولو كان هذا الجاهل يلبس ثوبا رفيعا حلالا وكان قصده فيه أن لا يوصف بالرياء والناموس لكان خيرا له ، ومنه لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق التى يلبسها الصوفية مع التعرى عن حقايق التصوف فى الباطن.

وطبقة أخرى (٦ : أرادوا أن يتشبهوا بالصالحين فى الثياب والزى والهيئة ولم يسمح نفوسهم بلبس الثياب النازلة ، فأرادوا الجمع بين البابين فطلبوا الأصواف الرقيقة ، والفوط الرفيعة والمرقعات المصبوغة يلبسونها وقيمة ثيابهم قيمة لباس الأغنياء ، وأكثر ، وهذا من النزور.

وأما مراءاة (٧ أهل الدنيا فلباسهم الثياب الرقيقة النفيسة ، والمراكب الفارهة بالآلات (١) المذهبة والمموهة ليستدل بذلك على كثر أموالهم ويتحصلون به زيادة الجاه والمال.

النوع الثالث : الرياء بالقول (٨ ، أما لأهل الدين فبذكر (الورقة ٢٩٠ ظ) المواعظ وايراد الاخبار. وأما للشيوخ والفقهاء (٢) فبالمجادلة والمناظرة ليكون الغرض افحام الخصوم بحضرة الناس ليستدل به على كثرة العلوم ، وفى تحريك الشفتين بالذكر فى حضرة الناس والامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واظهار الغضب للمنكرات ،

__________________

(١) المخطوطة : بالآت

(٢) أيضا : واما الشيوخ واما الفقهاء

١٦١

كل ذلك ليستدل به على قوة الزهد.

واما اهل الدنيا فمراءاتهم (٩ بالاشعار والامثال والنكت المطربة والحكايات المضحكة ليستدل بذلك على لطافة الطبع وكثرة الاطلاع على الفنون.

النوع الرابع الرياء بالعمل (١٠ كمراءاة (١) المصلى بطول القيام وتطويل السجود والركوع واطراق الرأس وكذلك باظهار الصوم وتقليل الاكل والمضى إلى الحج والغزاة وفى سكون المشى وتجنب المزاحمة وغض البصر والتأنى فى المشى حتى اذا خلا بنفسه عاد إلى طبعه فى العجلة.

واما اهل الدنيا (١١ فمراءاتهم بالتبختر ومشى الخيلاء وتحريك اليدين وتقريب الخطى (٢) ليدل بذلك على الجاه والحشمة.

النوع الخامس المراءاة (٣) بالاصحاب (١٢ كالذى يستزير الامراء والوزراء واصحاب السلطان ، فيقال ان فلانا زاره فيزوره سائر الناس بناء على حشمته وفضله وكالذى يكثر بكثر لقاء المشايخ والرحلة ليقال انه حصل العلوم والفوائد فيقصد لذلك.

واما اهل الدنيا فمراءاتهم (انهم) خدموا عظماء السلاطين وشرعوا فى مهمات الملك.

فهذه مجامع (١٣ ما به يرائى المراءون وكلهم يطلبون به الجاه والمنزلة فى قلوب الناس.

__________________

(١) المخطوطة : كمرائا

(٢) أيضا : الخطا

(٣) أيضا : المرايا

١٦٢

بيان درجات اهل الرياء فى الرياء

الدرجة الاولى ان يكرم بحسن اعتقاد الناس فيه فكم من راهب (١٤ ينزوى إلى ديره سنين (١) كثيرة ، وكم من زاهد عابد انما هو متزهد متعبد اعتزل إلى زاوية او قلة جبل مدة طويلة ولذته وحياته قيام جاهه وسمعته عند الخلق ، ولو خطر بباله سوء اعتقادهم فيه لمات من الغم.

الدرجة (٢ الثانية ان لا يقنع (١٥ بذلك الاعتقاد بل يلتمس اطلاق لسان القوم بوصفه ومدحه ، والثناء على حسن طريقته ، وانتشار الصيت فى البلاد لتكثر الرحلة إليه.

الدرجة الثالثة أن يقصد به التوسل (١٦ الى كسب الحرام وجمع الحطام ولوث أموال اليتامى واوقاف المساكين او المرضى ، وهذا من اشر طبقات المرائين.

واعلم ان الشيخ الغزالى ذكر تفصيلا وهو ان من الرياء ما يحل منه ومنه ما يحرم ، ثم لما شرع فى بيان ذلك التفصيل تكلم فى بيان ان طلب الجاه قد يكون مباحا وقد يكون حراما (١٧ ، وهذا عندى مستدرك من وجوه.

الاول ان مراتب طلب الجاه قد تقدم ذكرها فى باب الجاه ، فلا فائدة فى الاعادة هاهنا.

الثانى ان الرياء غير ، وطلب الجاه غير ، وذلك لانا بينا ان الرياء مشتمل على التلبيس (١٨ والتدليس ومجادلة ان يقع فى الخواطر ما لا حقيقة له ، وذلك

__________________

(١) المخطوطة : سنبين.

١٦٣

يكون حراما بالكلية لان التلبيس والاضلال محرمان (١) بالكلية ، فثبت انه لا يلزم من اهتشام الجاه على سبيل التلبيس وهذا كله يكون حراما.

علاج الرياء وهو إما بالعلم وإما بالعمل ، وهو ان يعرف الانسان ما فى الرياء من المضار العظيمة فى الدين وفى الدنيا.

أما فى الدين فمن وجوه :

الأول أن العمل الّذي ما وضع حيث وضع إلا لتعظيم الله إذا أتى الإنسان به ويدعى (الورقة ٢٩١ و) انه أراد به الله تعالى مع أنه فى قلبه ، إنما أتى به لغير الله (١٩ فهذا يدل على أنواع كثيرة من الكبائر :

أحدها أن هذا يدل على ذلك الغير أعظم وقعا فى قلبه من الله ، وإلا لما صرف ما هو حق الله إلى الغير ، وهذا يدل على كون ذلك الإنسان جاهلا من كل الوجوه.

وثانيها أنه لو أخلص الطاعة لله لاستوفى حمد الله ، ولما أتى بها لأجل الرياء فقد استدل بحمد سلطان السلاطين حمد أخس خلقه وما ذاك إلا جهل وحماقة.

وثالثها أنه إذا ادعى بلسانه أنه أتى بهذه الطاعة لله ، وانما أتى بها فى قلبه غير الله فكان كالمستهزئ بالله (٢٠ ومثاله أن يقوم رجل بين يدى الملك طول النهار كما جرت عادة الخدمة ، وكان غرضه من ذلك الوقوف أن ينظر إلى جارية من جواريه أو إلى واحد من غلمانه ، فإن هذا استهزاء بالملك.

__________________

(١) المخطوطة : محرما

١٦٤

ورابعها (١) أن هذا كالاستخفاف (٢١ بالحق سبحانه لأن من حضر فى حضرة أعظم الملوك قدرة وقهرا وكرما وفضلا ، وعرض عليه حاجة من حاجاته ، وكان قلبه غير معلق فى ذلك الكلام بذلك الملك ، بل كان قلبه معلقا باخس من حضر هناك من العبيد ، كان ذلك سوء ظن بالملك واستخفافا به وكذا (٢) هاهنا ، وذلك يدل على أنه يعتقد فى ذلك الملك أنه كاذب فى ادعائه كونه قادرا وكونه كريما ، وبهذه الأسباب سمى النبي عليه‌السلام : «الرياء الشرك الأكبر» (٢٢.

(الفصل السادس عشر)

بيان الرياء الخفى

اعلم أن الاقسام الثلاثة : اعنى أن لا يكون غرض الثواب معتبرا فى الفعل أصلا ، أو يكون معتبرا اعتبارا مرجوحا أو مساويا ، فهى المسماة بالرياء الخفى.

أما القسم الرابع وهو أن يكون غرض الثواب (١ معتبرا فى الفعل اعتبارا راجحا إلا أنه قد حصل معه غرض الرياء فهذا هو المسمى بالرياء الخفى ، وهذا مما لا يمكن أن يعرف إلا بالعلامات ، فمن تلك العلامات أن يحصل (٢ السرور (٣) فى قلبه باطلاع الناس على عبادته ، وذلك لأن السرور حالة نفسانية تحصل عند وجدان المطلوب ، فلو لا

__________________

(١) المخطوطة : وثالثها

(٢) أيضا : وكذى

(٣) أيضا : النزور

١٦٥

أنه حين أتى بتلك الأفعال كان يتوقع اطلاع غيره عليه وإلا لما حصل (١) السرور لحصول هذا (٢) الاطلاع ، وينبغى أن يعالج ، فإنه إن لم يعالج استحكم ، ولو استحكم لانعكست هذه الداعية التى هى الرياء من حد المرجوحية إلى حد الاستواء ، ومن حد الاستواء إلى حد الرجحان.

والعلامة الثانية أن يأتى الفعل مبنيا (٣) على كونه كثير العادة (٣ كالنحول والصفار وخفض الصوت وشعث الشعر واكثار البكاء ، وغلبة النعاس الدال على إظهار التجلد.

والعلامة الثلاثة أن يترك كل هذه الأمور لكنه رأى الناس (٤ بأن أحبوا ابتداء بالسلام ، وأن يتبركوا بحضوره (٤) وبمصافحته ، وأن يهبوه ويهادونه ، وإذا اشترى شيئا سامحوه.

يروى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال (٥ : «إن الله تعالى يقول يوم القيمة ألم يكن يرخص لكم الاسعار ، ألم تكونوا تبدءون بالسلام ، ألم تكن تقضى لكم الحوائج ، اذهبوا ، فقد استوفيتم أجوركم.

واعلم أن كل المقصود من العبادات والطاعات انقطاع (٥) النفس

__________________

(١) المخطوطة : حصلت

(٢) أيضا : هذه

(٣) أيضا : بنيه

(٤) أيضا : بان احب ابتداءه بالسلام ، وان يتركوا بحضوره الخ ،

(٥) أيضا : وانقطاع

١٦٦

عن عالم المحسوسات واقبالها على عالم الروحانيات ، حتى أن الإنسان عند الموت يفارق من المنافى إلى الملائم ، والآتى بالطاعات لأجل داعية الريا ، فقد أكمل العلاقة مع عالم المحسوسات وبالغ فى الفرار عن عالم الروحانيات ، فعند الموت ينتقل (الورقة ٢٩١ ظ) من الملائم إلى المنافى ، ومن اللذيذ إلى المؤلم ، فيحصل هناك البلاء العظيم.

واعلم أنه مهما أدرك الإنسان تفرقة (٦ بين أن يطلع على عبادته انسان أو بهيمة ، ففيه شعبة من الرياء ، فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال بحضور البهائم ، فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لما التفت إلى اطلاع غيره عليه ، وحيث حصل التفاوت ولو بالقليل ، فالرياء هناك حاصل.

فإن قلت فهل يعقل أن يحصل السرور عند اطلاع الغير على طاعته ، مع كونه مخلصا ، فنقول : هذا ممكن فى صور :

أحدها أنه إذا نظر إلى هذه الحالة من حيث أنه تعالى اطلع (٧ الخلق على أفعاله الجميلة وستر عنهم أفعاله القبيحة ، كل ذلك على العناية من الله تعالى فى حقه ، فإذا فرح بهذه الحالة نظرا إلى هذا الاعتبار كان ذلك بمحض الاخلاص ، وهو المراد بقوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٨.

الثانية أن يغلب على ظنه أنه تعالى : لما أظهر (٩ جميله وستر عليه قبيحه فى الدنيا فالظاهر أنه كذلك يفعل فى الآخرة لقوله عليه‌السلام : ما ستر الله على عبده فى الدنيا إلا ستر عليه فى الآخرة.

الثالثة إذا غلب على ظنه أن الذين رأوه على تلك الطاعة

١٦٧

يرغبون (١٠ فى الاقتداء به فيصير اطلاعهم سببا لتكثر الطاعات ، فالسرور بالاطلاع على طاعته محض للاخلاص والعبودية.

الرابعة (١) أن المطاعن (١١ على طاعته لما عظموه وانقادوا له علم كونهم راغبين فى الدين والتقوى ، فإذا فرح بحسن اعتقادهم فى الدين وتعظيم الشريعة كان ذلك محض الإيمان ، وإذا فرح (٢) باطلاعهم على طاعته لأنه يتوسل بذلك إلى استجلاب المقاصد الدنيوية منهم فذلك هو الريا المذموم (١٢.

(الفصل السابع عشر)

بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفى

والجلى وما لا يحبط (١

الريا ـ إما أن يحصل بعد انقضاء العمل بتمامه على الاخلاص ، وإما أن يطرى فى أثناء العمل الّذي وقع الابتداء به على الإخلاص.

القسم الأول وأما أن يحصل بعد تمام العمل فهذا على وجهين :

الأول إذا تمم العمل على الاخلاص (٢ ثم اتفق ان علم ان واحدا من الملوك كان قد اطلع على اقدامه على ذلك العمل ، فحصل فى قلب هذا المتعبد سرور بسبب اطلاع ذلك الملك على عبادته ، فهذا مما يرجى من الله تعالى أن لا يصير محبطا لثواب العمل ، لأن علمه قديم على

__________________

(١) المخطوطة : الرابع

(٢) أيضا : فرع

١٦٨

الإخلاص ، وهذا السرور لم يقع باختياره ، فوجب أن يكون فى محل العفو ، إلا أن حصول هذه الحالة يدل على أن هذا الشخص ليس من المخلصين الصديقين إذ لو كان كذلك ، لما التفت إلى اطلاع غير الله على طاعته بعد علمه بأن الله رأى تلك الحالة منه.

الثانى إذا تمم (٣ العبد على الإخلاص ، ثم أنه اطلع الناس وأظهره لهم ، فمنهم من قال : هذا الرياء محبط لثواب الأعمال السالفة.

واحتجوا بما روى أن رجلا قال : «صمت الدهر يا رسول الله؟» ، قال : «ما صمت ولا أفطرت» (٤.

وعن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقول : قرأت البارحة البقرة ، فقال : ذلك حطه منها (٥.

ومنهم من قال أنه يثاب على إخلاصه المتقدم ويعاقب (٦ على هذا الريا المتاخر ، والله سبحانه يقتضي فيه بالعدل برعاية الخير والمقابلة بين الزائد والناقص ، وأجاب عن هذا الحديث بأن هذا التهديد لعله كان إشارة إلى كراهة صوم الدهر (الورقة ٢٩٢ و) على سبيل الدوام.

القسم الثانى إذا شرع فى العبادة مع الاخلاص ثم طرأت (١) داعية الرياء (٧ فى اثناء العمل بهذا الطارئ ، إما أن يكون مجرد سرور ولا يؤثر فى العمل ، وإما أن يكون رياء باعثا على العمل ، وبتقدير كونه باعثا على العمل ، فأما (٢) أن يكون باعثا على كيفيات

__________________

(١) المخطوطة : طرت

(٢) أيضا : فلما

١٦٩

ذلك العمل أو على أصل ذلك العمل ، فهذا القسم (٨) مشتمل على ثلاثة انواع :

النوع الأول : ـ أن لا يكون الطارئ إلا مجرد السرور وهذا هو (اخس) (١) الدرجات ـ فإن الحارث المحاسبى قال : «أنه يحبط (٩ العمل لأنه لما حصل السرور فى قلبه بسبب اطلاع المخلوق عليه كان ذلك السرور داعيا له إلى العمل ، وإذا صار هذا السرور حاملا له على العمل امتنع أن يكون القصد الأول المليء به لأجل الله تعالى حاملا له على العمل ، لأن الأثر الواحد لا يجتمع عليه مؤثر ان مستقلان (٢) ، والطارئ أولى بإزالة الثانى من العكس ، فكان أجر هذا العمل ما شابه أجر الله فوجب أن سر.

واحتج من قال بأن هذا السرور لا يحبط الثواب (١٠ بما روى أن رجلا قال يا رسول الله اننى اسر العمل لا أحب أن يطلع عليه أحد ، فإذا اطلع عليه أحد سرنى ، فقال عليه‌السلام : اللهم لك أجران ـ أجر السر واجر العلانية (١١. وأيضا إن هذا السرور الزائد فى العمل لما لم يؤثر فى العمل دل على أنه ضعيف مرجوح بالنسبة إلى نية الاخلاص ، والمرجوح مختص (٣) بالعدم.

اجاب عنه من ثلاثة أوجه (١٢ :

أحدها لعل هذا السرور إنما حصل بعد الفراغ من العمل ،

والثانى لعله إنما حصل لاعتقاده بأن غيره يقتدى به ، بدليل أنه

__________________

(١) المخطوطة : ليس بموجود

(٢) أيضا : مسعلان

(٣) أيضا : ملخص

١٧٠

جعل له به أجر ، ولم يقل أحد من الأمة أن السرور بحمد الناس أجر بل غايته أن يعفى عنه.

الثالث أن الحديث ضعيف الأسناد.

النوع الثانى الّذي يؤثر فى كيفية العمل ، ولكنه لا يؤثر فى أصل العمل (١٣ ، فهو كما إذا شرع فى الصلاة تعظيما لله تعالى ، ثم حضر فى أثناء صلاته جماعة ففرح لحضورهم وصار ذلك الفرح حاملا له على الإتيان بزيادات فى الخضوع والخشوع ، لو لا حضورهم ما كان يأتى بها ، فهاهنا داعية الريا اثرت فى حصول كيفية زائدة.

أما تمثيله : فمثاله (١٤ أن يكون قد شرع فى صلاة تطوع فحدث أمر من الأمور ، واشتهى هذا المصلى ان ينظر إليه ، ولو لا حضور الناس لقطع الصلاة ، لكنهم لما حضروا فهو يتمها خوفا من مذمتهم ، فهاهنا الريا صار مؤثرا فى أصل العمل.

واعلم أن من وقف فى المرتبة الأولى ، علم أن الثانية ادنى (١) بالبطلان ، وان الثالثة أولى بالبطلان.

ثم هاهنا دقيقة أخرى ، وهى ان العبادات على قسمين :

منها ما يكون كل واحد من أجزائها عبادة مستقلة بنفسه ، ولا تتوقف صحته على انضمام الجزء الآخر إليه ـ وهو مثل قراءة القرآن ، فإن قراءة كل كلمة وحرف منه عبادة.

ومنها ما يتوقف صحة بعضها على صحة كلها وهو مثل الصلاة ،

__________________

(١) المخطوطة : ادل

١٧١

والصوم والحج ، فإنه متى فسد جزء من اجزائه فسد كلها ، ومتى صح جزء من اجزائها فقد صح ذلك الجزء وبصحة باقيه يتم الكل ويصح.

وإذا عرفت هذا ظهر عندك أن خطر طريان داعية الرياء فى اثناء العبادات التى تكون من القسم الثانى اعظم واشد من ظهور طريانها فى اثناء القسم الأول.

وأما القسم الثالث وهو أن يحصل داعية الرياء فى أول حد الشروع (١٥ فى العبادة ، فهذا على قسمين :

أحدهما إن كان فى الصلاة ونيتها ، فإنه ان استمر على تلك الداعية إلى اخر الفراغ من تلك العبادة فلا خلاف (الورقة ٢٩٢ ظ) فى أنه يقضى ولا يعبد بصلاته.

وأما ان ندم فى اثناء ذلك ففيه قولان :

أحدهما أن صلاته لم تنعقد البتة ، ولم توجد نية أخرى ، فوجب أن لا يصح صلاته أصلا ، لأن الأعمال التى اتى بها بعد ان لم تنعقد الصلاة (صارت) (١) لغوا.

والقول الثانى أن العبرة فى العبادات بخواتمها ، فاذا وقع الختم هاهنا على الاخلاص كان صحيحا. والاولى أن يقال هذا الفعل ان كان الداعى إليه فى ابتدائه مجرد الريا دون طلب الاخلاص لم ينعقد هذا الفعل عبادة ، ولم يصح ما بعده ،

ومثاله الرجل الّذي لو خلى بنفسه لم يصل (١٦) ولم يصم ، ولما

__________________

(١) اللفظ غير موجود فى المخطوطة

١٧٢

رأى الناس تحرم بالصلاة ، فهذه صلاة لا نية فيها ، اذ (١) النية عبارة عن القصد إلى الفعل تعظيما لله تعالى فى هذا المعنى ولم يوجد هاهنا.

وأما أن حصل مع باعث الريا باعث الدين. فإن كان باعث الدين (١٧ راجحا كانت العبرة به كان المرجوح مع الراجح كالعدم ، وإن تساويا تعادلا فتساقطا ، وان كان مرجوحا كان ساقطا ، وهو ظاهر.

مسئلة : الانسان إذا حصل عنده اعتقاد ما فى عمل الرياء ، وانه من آفات الدنيا والآخرة ، وتكلف اظهار كراهية الرياء فى القلب وواظب على اخفاء الحسنات واظهار السيئات ، وهذا (٢) هو الغاية فى علاج الرياء ، ولكنه مع ذلك يجد قلبه مائلا إلى الرياء محبا له مع انه يبغض حبه لذلك ، فهل هو فى زمرة المرائين أو من جملة الصديقين؟

قال الغزالى (٧ رحمة الله عليه : لم يكلف العبد إلا ما يطيق ، فلما دللنا على ان الغاية القصوى فى علاج الرياء ليس إلا مقابلة الاعتقاد والحال والعمل بأضدادها ، فإذا أتى العبد بذلك فقد اتى بكل ما قدر عليه فالخارج عن ذلك ليس فى وسعه ، فوجب ان لا يكون مؤاخذا به.

واحتج عليه بما روى ان اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوا (١٩ إليه : وقالوا : «تعرض لقلوبنا اشياء لأن نخر من السماء فيخطفنا

__________________

(١) المخطوطة : اذا

(٢) أيضا : اللفظ غير واضح فى الكتابة ،

١٧٣

الطير أو تهوى بنا الريح إلى مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم به ، فقال عليه‌السلام : «ذلك صريح الإيمان».

قال الغزالى : ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهية ولا يمكن أن يقال المراد تصريح الإيمان الوسوسة ، فلم يبق إلا الكراهية المساوية للوسوسة.

إذا ثبت هذا فنقول : الرياء (٢٠ وإن كان عظيما بالكراهة ، فإنه يندفع ضرر الأصغر كان أولى بالحاصل أن كل ما كان من مقتضيات النفس ، فإن وجدت النفس كارهة لها كانت من الحق ، وإن وجدت النفس مع ذلك راضية بها مائلة إليها ، فذاك من الشيطان والنفس.

وأعلم أنه يتفرع على هذه المسألة مسئلة أخرى ، وهى ان الشيطان إذا عجز (٢١ عن حمل الإنسان على الرياء خيل إليه ان إصلاح قلبه فى الاشتغال بمحاربة الشيطان فيتوسل بهذا الطريق إلى تشويش صفاء القلب عليه ، وإن الاشتغال بمحاربة الشيطان انصراف عن اللذات الحاصلة بسبب المناجاة مع الله تعالى.

وأعلم أن للناس فى هذا المقام (٢٦ مراتب :

الاولى أن يشتغل بمحاربة الشيطان ومنازعته.

والثانية أن يقتصر على تكذيبه ولا يشتغل بمحاربته ،

الثالثة أن لا يشتغل أيضا بتكذيبه بل يستمر على ما كان عليه من كراهية الرياء من غير أن يشتغل بالتكذيب أو بالمخاصمة.

الرابعة أن يكون قد عزم على أن الشيطان مهما نازعه فى شرط

١٧٤

من شرائط الاخلاص ، فإنه يريد فى الأعمال الموجبة للاخلاص.

وضرب الحارث المحاسبى لهذه المراتب الأربع مثالا (٢٣ فقال كأربعة نفر قصدوا مجلس عالم ليستفيدوا منه ، فحسدهم عليه ضال (١) مبتدع ، فتقدم إلى واحد منهم (الورقة ٢٩٣ و) ومنعه عن الذهاب إلى ذلك المجلس فأبى ، فلما علم إباءه شغله بالمحاربة فاشتغل ذلك معه ليرد ضلاله ، فبقى فى تلك المخاصمة إلى أن يفوت مجلس العلم ، وحينئذ يحصل غرض ذلك الضال.

فلما مر الثانى عليه نهاه واستوقفه فوقف وانكر على الضال ذلك المنع والنهى ، ولكن لم يشتغل بالقتال ، ففرح الضال بقدر توقفه للدفع.

ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله ، بل استمر على ما كان فخاب رجاه بالكلية.

فمر الرابع فلم يتوقف له بل زاد فى عجلته فيوشك أن عادوا ومروا على ذلك المضل (٢) مرة أخرى ، أن يعاود (٣) الجميع إلا هذا الأخير ، فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فى الاستعجال.

النوع الثانى : هل يجب الرصد (٢٤ للشيطان قبل شروعه فى الوسوسة انتظارا لوروده (٤) أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع

__________________

(١) المخطوطة : مال

(٢) أيضا : المصلى

(٣) أيضا : ان يعادوا الجميع

(٤) أيضا : الورد

١٧٥

له ـ اختلفوا فى هذا ، فقال قوم : الأولى ترك هذا الرصد ، ويدل عليه وجوه :

(الأول) أن الترصد لدفع الشيطان يوجب الإعراض عن ذكر الله ، فالترصد وقوع فى حبالة الشيطان.

الثانى أن الترصد للشيطان اعتماد على النقس ، والتفويض إلى الله اعتماد على الحق ، فمن ترصد للشيطان فقد اعتمد على نفسه ، فقد وقع فى حبالة الشيطان.

الثالث الشيطان مخلوق ضعيف (٢٥ لا قدرة له على شيء كما قال الله تعالى حاكيا عنه : (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٢٦ ـ وأما الحق سبحانه ، فله الأمر والنهى ، والتفويض إلى الحق بعينه على الحذر ، لأن من توكل على الله كفاه.

الرابع أن الإنسان لا يمكنه أن يتوكل على الله الا إذا عرف أنه العالم بكل المعلومات ، والقادر على كل المقدورات ، وله رحمة عامة ، وفضله وقضاءه شامل ، وأنه لا مقدرة لاحد على مقدرته ، ولا رحمة لاحد مع رحمته ، ومتى استنار القلب بهذه المعارف لم يجد الشيطان إليه سبيلا ـ فصارت هذه المعارف شيئا لحصول الامان من منابذة الشيطان.

أما من نرصده لدفع وساوسه احتاج إلى استنباط الحيل.

وقال آخرون : «بل لا بدّ من الحذر من الشيطان» (٢٧ ، واحتجّوا عليه بأن الاستغراق فى المعرفة والمحبة لا يخلص عن نزعات الشيطان ، لأن الأنبياء كانوا أعظم الناس قدرا فى المعرفة والمحبة ، مع أنهم ما خلوا عن نزغات الشيطان ، قال تعالى : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ

١٧٦

قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (٢٨

وقال عليه‌السلام : «إنه ليغان على قلبى» (٢٩ ، مع أن شيطانه قد أسلم ، ولا يأمر إلا بخير.

وأيضا ان آدم وحوا قد بين الله تعالى أن الشيطان غيرهما وأنه عدولهما فى قوله : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (٣٠.

وأنه تعالى ما نهى (٣١ (إلا عن) شجرة واحدة ، ومع ذلك وقعا فى حبالة الشيطان.

فإذا كان حال الأنبياء والأولياء كذلك ، فكيف حال غيرهم؟ وقال موسى عليه‌السلام : (هذا) مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٣٢ ، وقال يوسف : (نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (٣٣.

وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) (٣٤ ، والقرآن يشتمل على كثير من التحذير من الشيطان فكيف يجوز اهماله ـ وأيضا أنه تعالى أمرنا نحذر من الكفار ، فقال : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (٣٥ ، وقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) (٣٦ ـ فلما لزمك الحذر من العدو الكافر وأنت تراد فبأن يلزمك الحذر من العدو الّذي يراك ولا تراه كان أولى.

أجابوا عن الكلام الأول : فقالوا : الحذر عن الشيطان (الورقة ٢٩٣ ظ) عبارة عن المواظبة على وظائف الشرائع التى حاصلها يرجع إلى الإيمان بالأعمال الشاقة لئلا يصير الطبيعة مسئولية ـ فإذا ألفت الشريعة فعند ذلك يفوض رعاية المصالح إلى الخالق ، وهذا هو مقام

١٧٧

الحقيقة والاستغراق فى العبودية ، ألا ترى أنا ناكل ونشرب ثم نعول على فضل الله فى تحصيل الصحة ودفع الأمراض. فكذا (١) هاهنا نستعد لمحاربة الكفار ، ونعتقد أن الظفر والنصرة هو من الله ، وكذلك نحذر الشيطان (٣٧ ، ونعتقد أن المضل والهادى هو الله ، هذا ما اختاره الحارث المحاسبى ، وهو قول الكاملين الذين جمعوا بين رعاية قوانين الشريعة ومناهج الحقيقة.

إذا عرفت هذه (٢) المسألة فنقول : اختلفوا فى كيفية ذلك الحذر على ثلاثة أوجه :

قال قوم (٣٨ إذا حذرنا الله من العدو وجب أن يكون ذكر هذا الحذر أغلب الأشياء على قلوبنا ، وقال قوم إن هذا يؤدى إلى خلو القلب عن ذكر الله تعالى ، واشتغاله بالكلية بحرب الشيطان وحزبه ، وذلك عين مراد الشيطان ، بل ينبغى ان يجمع بين ذكر الله تعالى وذكر الحذر من الشيطان.

وقال المحققون (٣٩ : غلط الفريقان :

أما الأول فلأن من تجرد لمحاربة الشيطان ونسى ما سواها فقد غفل عن ذكر الله ، وذلك غاية غرض الشيطان ، وأيضا فالشيطان إنما يفر عن القلب لاشتماله على نور ذكر الله تعالى ، فإذا خلا القلب عن هذا النور استولى الشيطان عليه لا محالة فالتجرد لمحاربة الشيطان يوجب تقوية الشيطان على تخريب القلب.

__________________

(١) المخطوطة : فكذى

(٢) أيضا : هذا

١٧٨

أما الفرقة الثانية (٤٠ فقد شاركت الأولى ، إذ جمعت فى القلب ذكر الله تعالى وذكر محاربة الشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر غير الله يبقى محروما عن ذكر الله ، فالصواب أن يقرر العبد مع نفسه عداوة الشيطان ويترك هذا المعنى كالشيء المحروب عند النفس ، ثم يقبل بالكلية على ذكر الله تعالى ، ويعرض عن أن يخطر بباله أمر الشيطان ثم ان عند هذا الحال ان خطر أمر الشيطان بباله تنبه له ، وعند التثبت يشتغل بدفعه ، والاشتغال بذكر الله على هذا الوجه لا يمنع من التيقظ بل الوجل قد ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الشمس فيلزم نفسه الحذر وربما انتبه فى اثناء الليل من قبل أن يطلع الفجر لما سكن فى قلبه من الحذر مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع انتباهه؟ بل لهذه الواقعة مثال آخر ، وهو بئر (٤١ فيها ماء قذر اراد صاحبها أن يطهرها بإزالة ذلك الماء لينفجر منها الماء الصافى ، فالمشتغل بذكر الشيطان كالذى ترك فيها الماء القذر ، والّذي جمع بين ذكر الله وذكر الشيطان ، هو الّذي احتال حتى انفجر الماء الصافى ، ولكنه اختلط بالماء القذر.

والمصيب هو الّذي أخرج الماء القذر واستنبط الماء الصافى ، وهو المشتغل بذكر الله وبالجملة فلا حيلة فى دفع الشيطان إلا بذكر الله تعالى كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) (٤٢.

وإذا كان لا يندفع الشيطان إلا بالاشتغال عنه بذكر الله وجب إبقاء هذا الذكر حتى تكون السلامة والسلاح فى دفعه قويا ، وكلما كان التشاغل عن ذكر الله أقوى (١) كان السلاح أضعف ، وبالعكس إذا

__________________

(١) المخطوطة : اقل

١٧٩

ذكر الله أكثر كان السلاح فى دفعه أقوى.

قال الفريق الأول : ثبت بهذه المباحث أنه كلما كان ذكر الله فى القلب أكمل وأجلى وعن الشوائب أصفى كانت القدرة على الدفع أكمل لكن الاشتغال بذكر الشيطان شوب صفاء الذكر ، وذلك يوجب ضعف السلاح (الورقة ٢٩٤ و) فكل ذلك يوجب نقيض المطلوب ، وعكس المقصود ، بل نقول : من كملت معرفته بالله فقد قوى حصن قلبه ، ومتى قوى الحصن عجز الشيطان عن النقب والسرقة ، فكان هذا الطريق أكمل ، وعند هذا توصلوا منه إلى شيء مهيب ، وهو ان الاشتغال بالأعمال الظاهرة اشتغال بغير الله ، وذلك يوجب استيلاء الشيطان على القلب ، فكل من كلف به فقد كلف الاعراض عن الله تعالى ، وهذا كلام مهيب وله غور منكر ينتهى إلى تحريك الأخطار.

١٨٠