النفس والروح وشرح قوامها - المقدمة

النفس والروح وشرح قوامها - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

١
٢

مقدّمه

رأى معهد الابحاث الاسلامية فى نطاق وظائفه الثقافية العلمية التى تهدف اوّل ما تهدف الى تفتح العقل الاسلامى على نفسه وعلى غيره ، والى تربية جيل اسلامى يعرف ما فى ماضيه من قيم ، ويعرف ما فى حاضره من عقبات ومشكلات ، رأى ان ينشر المخطوطات التى لم تنشر من التراث الاسلامى العربى القديم ، وقد استطاع ان يبدأ بنشر مخطوطات قد يكون عددها قليلا ، غير أن قلة عددها لا تؤثر فى اهميتها التاريخية والدينية والعلمية.

ثم رأى المعهد استكمالا لهذا الاقتراح ان يركز اهتمامه ببعض الكتب والدراسات التحقيقية التى نشرت من قبل ، وينقلها الى الاردوية او الانكليزية ، وينتقى منها ما كان يتصل بالحياة الاسلامية فى كفاحه المستمر فى سبيل الرقى والحرية ، والثورة على الظلم ، والدفاع عن الحق والدين ، ونشر الرسائل والمجلات ونتائج الافكار الدينية السمحة ، وطبعها بعد تحقيقها تحقيقا جديدا حتى يتيسر تناوله للجميع.

وقد ابتدأ المعهد هذه السلسلة بكتاب نادر فى علم الاخلاق للعلامة المفسر الشهير ، والمتكلم الكبير ، الامام فخر الدين الرازى (المتوفى سنه ٦٠٦ ه‍) ـ ان هذا الكتاب مذكور فى الفهارس باسم «كتاب النفس والروح وشرح قواهما» ، والآن ينشر لأول مرة عن نسخة بودليانا الوحيدة الموجودة بأكسفورد ـ ولم نعثر على نسخة أخرى لهذا الكتاب الى اليوم.

ولدى المعهد مشروعات أخرى لكتب ودراسات تحليلية وتحقيقية

٣

سوف ينشرها ويعرضها باسعار رمزية ـ والرجاء ان يكون «كتاب النفس والروح وشرح قواهما» للعلامة الرازى ، بشيرا عن هذا المشروع وباكورة من ثماره ، والترجمة الانكليزية لهذا الكتاب سوف تنشر مع التعليقات المفيدة التى اشير إليها فى النص العربى بأرقام.

فلله الحمد ، وله الفضل والمنة ، وعليه التكلان ما دام الملوان.

(الدكتور) فضل الرحمن

٤

تمهيد

الامام فخر الدين الرازى

نشأ الامام فخر الدين ابو عبد الله (ابو المعالى) محمد بن عمر بن الحسين الرازى (المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍) الشهير بابن خطيب الرى فى وسط القرن السادس فى بيت الشرف والعلم والفضل فى الرى ، قرأ الكتب المتداولة فى الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية على والده ضياء الدين عمر خطيب الرى الى ان وصل الى جوار الله تعالى ، ثم قصد الكمال السمعانى وقرأ عليه مدة. ثم عاد الى الرى وأتى المجد الجيلي وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة ، وقد حفظ «الشامل» لامام الحرمين في علم الكلام ، وتمهر فى العلوم ، وقد فتح الله عليه من العلوم ما تفوق به على اهل زمانه وفضل به اضرابه وامثاله ، وانتشر ذكره وذاع صيته وعظم قدره ـ جرى له مناظرات مع اهل الاعتزال فى خوارزم وفيما وراء النهر وخراسان ، ومع الكرامية والباطنية فى الهراة والرى ، وكان ينال من الكرامية وينالون منه شيئا من التكفير.

انه لازم الاسفار ، ونفق على الملوك ، وكان فى أول عهده ضيق اليد ، لم يكن له ثروة ونعمة ، ثم اتصل بالسلطان علاء الدين محمد بن تكش (٥٩٦ / ١١٩٩ ـ ٦١٧ / ١٢٢٠) المعروف بخوارزم شاه ، فحظى عنده ونال أسنى المراتب ، ولم يبلغ أحد منزلته عنده ، وعامل شهاب الدين الغورى صاحب غزنة (تولى على غزنة فى ٥٦٩ / ١١٧٣) فى جملة من المال ، ثم قصد إليه لاستيفاء حقه منه فبالغ فى اكرامه والانعام عليه ، وحصل له من جهته مال

٥

طائل ، وبنيت له عدة مدارس ، وأثرى وكان له اكثر من الخمسين عبدا ، وكان العلماء يقصدونه من البلاد ، وكان يركب وحوله السيوف المجذبة ، وله المماليك الكثيرة والمرتبة العالية والمنزلة الرفيعة عند السلاطين ، ومناقبه اكثر من ان تعد ، وفضائله لا تحصى.

وقد ذكر المتقدمون «ان الفخر الرازى كان مجدد هذا القرن (القرن السادس)» ، كما قال السيوطى فى ارجوزته :

والسادس الفخر الامام الرازى ـ والرافعى مثله يوازى

وقد كان الرافعى فقيها شافعيا ، فلا يضاهئ الرازى الّذي كان يضرب بسهم فى علوم كثيرة. وكان واسع الاطلاع ـ فكان اظهر ائمة الاشعرية فى هذا القرن ، وقد غلبت فرقتهم على غيرهم.

صنف الامام الرازى فى الفقه والحكمة والتفسير والادب ما يزيد على مائتى مصنف ، وكل كتبه ممتعة ، وانتشرت مؤلفاته فى البلاد وقد حظيت بالاقبال عليها اقبالا عظيما ، فان الناس اشتغلوا بها وضربوا بعرض الحائط الكتب القديمة ، بذ القدماء فى الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة ورد على ابى على بن سينا الشيخ الرئيس ، واستدرك عليه ، وكان له فى الوعظ اليد البيضاء ، وكان يعظ باللسانين العربى والفارسى ـ وكان يلحقه الوجد فى حال الوعظ ويكثر البكاء ـ وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة اصحاب المذاهب والمقالات ، ويسألونه فيجيب باحسن اجابة ، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم الى مذهب السنة. وكان يلقب بهراة «شيخ الاسلام» ، فعظم ذلك على الكرامية وهم كثيرون بهراة ، وكانوا يرمونه بالكبائر ، وينسبون إليه من مستشنعات من الاقوال ، منها انه كان يقول : «قال محمد التازى» يعنى العربى ، يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «قال محمد الرازى» يعنى نفسه ـ

٦

ومنها انه كان يقرر فى مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة ، فاذا جاء الى الاجوبة اقتنع بالاشارة ، وأحيانا عدوه من الروافض.

وقد قال سبط ابن الجوزي وكان يرد على ما نسب إليه :

«وكان تلميذه (تلميذ الرازى) الشيخ عبد الحميد الخسروشاهي رحمه‌الله. يحكى عنه من الفضائل وكرم الاخلاق وحسن العشرة واعتنائه بالملة الاسلامية ما يبطل قول الكرامية ، وكان صديقنا الخسروشاهي من اكابر الافاضل ، جامع اسباب الفضائل ، عاقلا رئيسا ، دينا صالحا ، محسنا متمسكا بالدين ، سالكا طريق السلف الصالحين. تقلبت به الاحوال تارة بالشرق وتارة بالغرب وتارة بالكرك ، وتارة بمصر ، وآخر قدومه دمشق فى سنة ٦٥٣ / ١٢٥٥ ، فتوفى بها ودفن بقاسيون عند باب تربة الملك المعظم عيسى قدس الله روحه».

ولا ريب انهم حسدوه لفضيلته العلمية ومنزلته السنية ، فكان رحمه‌الله ، يأخذ نفسه بالرياضة والتقشف ، وكان له اوراد لا يخل بها. ومؤلفاته دالة على انه حينما يتحدث عن صاحب الرسالة والنبوة يظهر اكرامه لصاحبها بقوله : «قال صاحب الشريعة» ، «وقال عليه الصلاة والسلام». ووصيته التى املاها عند موته تدل على حسن عقيدته وقوة ايمانه ، فقال : «يقول العبد الراجى رحمة ربه الواثق ... وان دينى الاسلام ومتابعة محمد وصحبه وآله عليه وعليهم‌السلام ، وان دأبى هو القرآن العظيم ، وامامى السنة وعليهما المعول ، وما صنفته من العلوم فمن نظر فيها فأسأله ان يذكرنى اذا انتفع به فى صالح دعائه ولا قوة الا بالله عليه توكلت وإليه انيب» ـ وكان مع غزارة علمه وتبحره يقول : «من التزم بمذهب العجائز ، كان هو الفائز.»

٧

ولما استوطن مدينة هراة وتملك بها ملكا وأولد اولادا ، ولقب بشيخ الاسلام ، عظم ذلك على الكرامية ، فقيل انهم وضعوا عليه من سقاه السم فمات ، ففرحوا بموته ، وكانت وفاته يوم الاثنين وكان عيد الفطر سنة ست وستمائة (٦٠٦ / ١٢٠٩) ، ودفن آخر النهار فى الجبل المصاقب لقرية مزدا خان ، وأظهر ذلك ، والحقيقة انه دفن فى داره وكان يخشى ان يمثل به العامة لما كان يظن به من الانحلال والخروج عن الدين.

وكانت ولادته فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة اربع واربعين وقيل ثلاث واربعين وخمسمائة بالرى (٥٤٤ ، ٥٤٣ / ٤٨ ، ١١٤٩).

تصانيفه :

ومن اشهر تصانيفه «محصل افكار المتقدمين والمتأخرين» ، وخ حكمة الاشراق» ، «واساس التقديس». و «لوامع البينات» ، وخ شرح الكليات». و «شرح الاشارات» و «المحصول». و «مفاتيح الغيب». وهو المعروف «بالتفسير الكبير» ، قال ابن خلكان : «جمع فيه كل غريب وهو كبير جدا ، لكنه لم يكمله ، وصنف الشيخ نجم الدين احمد بن محمد تكملة له وتوفى سنة ٧٢٧ / ١٣٢٦ ، وقاضى القضاة شهاب الدين بن خليل الدمشقى كمل ما نقص منه أيضا وتوفى سنة ٦٣٩ / ١٢٤١» ،

وقال ابن تيمية فى شأنه : «فيه كل شيء الا التفسير» ، وفى الحقيقة يشتمل على كل شيء من التفسير ، كما قال النجم الطوفى فى كتابه الاكسير فى علم التفسير : «ما رأيت فى التفاسير اجمع لغالب علم التفسير من القرطبى ومن تفسير الامام فخر الدين الا أنه كثير العيوب ـ فحدثنى شرف الدين النصيبى عن شيخه سراج الدين السرمياحى المغربى انه صنف كتاب الماخذ فى مجلدين بيّن فيهما ما فى تفسير الفخر من الزيف

٨

والبهرج ، وكان ينقم عليه كثيرا ، ويقول يورد شبه المخالفين فى المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ، ثم يورد مذهب اهل السنة والحق على غاية من الوهاء ، قال الطوفى : «ولعمرى ان هذا دأبه فى كتبه الكلامية والحكمية حتى اتهمه بعض الناس ولكنه خلاف ظاهر حاله ، لانه لو كان اختار قولا او مذهبا ما كان عنده من يخاف منه حتى يستر عنه ، ولعل سببه انه كان يستفرغ اقوالا فى تقرير دليل الخصم ، فاذا انتهى الى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شيء من القوى. ولا شك ان القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية ـ»

وانه لم يؤلف كتابا فى الحديث ، ومؤلفاته تدل على انه كان عالما بالحديث ، وقال السبكى فى طبقاته : «واعلم ان شيخنا الذهبى ذكر الامام (الفخر الرازى) فى كتاب الميزان فى الضعفاء وكتبت انا على كتابه حاشية مضمونها انه ليس لذكره فى هذا المكان معنى ، ولا يجوز من وجوه عدة : اعلاها انه ثقة ، حبر من احبار الامة ، وأدناها انه لا رواية له ، فذكره فى كتب الرواة مجرد فضول وتعصب وتحامل تقشعر منه الجلود».

واكثر كتبه لم يطبع الى الآن ، وكثير منها مفقود يمكن ان يوجد فى الخزائن القيمة فى إيران ومصر وتركيا.

كتابه فى علم الاخلاق المسمى بكتاب النفس والروح وشرح قواهما

ومن نوادره القيمة «كتاب النفس والروح وشرح قواهما» او كتاب فى علم الاخلاق ، عثرت عليه عند إقامتى بأكسفورد ، انكلترا سنة ١٩٥١ م.

بينما كنت أفحص عن المخطوطات وجدت مجلدا عتيقا تحت رقم هنت ٥٣٤ (Ar.Ms.Hunt٥٣٤) فى خزانة بودليانا ، مشتملا على كتب عديدة ، اولها كتاب النجاة لابن سينا الشيخ الرئيس ، وكتب ناسخه :

٩

«فرغ من نسخه نصر بن منصور ... عشية ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من مستهل ذى الحجة سنة ست وستين وأربعمائة (الورقة ٢٥٦ ظ)».

والكتاب الثانى فى المجلد وخطه غير خط الكتاب الاول ، (من الورقة ال ٢٥٧ و ـ الورقة الى ٢٩٥ ظ) هو كتاب النفس والروح وشرح قواهما ، وعلى الورقة الاولى من هذا المجلد مكتوب بإزاء كتاب النفس والروح : «وهو للامام الرازى» ، وعند ما قرأت بعض موضوعاته تيقنت انه من مآثر الامام فخر الدين الرازى ، الامام الماهر فى علوم العقل وعلوم النقل ، ومباحث الكتاب وعباراته ناطقة بأنها توافق العبارات التى قد صدرت من يراع الامام ، وقد عرفت مؤلفات لاهل الحديث والسنة باسم «كتاب النفس والروح» ، فهناك كتاب النفس والروح للحافظ الشهير ابى عبد الله بن منده ، وكتب ابن قيم الجوزية (٦٩١ ـ ٧٥١ / ١٢٩١ ـ ١٣٥٠) كتابين فى الروح ، فانه يذكر فى كتاب الروح المطبوع «وعلى هذا اكثر من مائة دليل ، قد ذكرناها فى كتابنا الكبير فى معرفة الروح والنفس». فصرت مولعا بتحقيق كتاب الرازى وحصلت تصاويره.

وعند ما التحقت بمعهد الابحاث الاسلامية بكراتشى (باسلام آباد حالا) اردت ان أطالع هذه النادرة ، وبعد الفحص والتفتيش عن نسخها الاخرى ظهر لى انه لا يمكن ان اجد نسخة أخرى منها ، والكتب الموجودة فى النفس فى فاتيكان (Vatican Rome) ، روما ، ودار الكتب المصرية المنسوبة فى الفهارس إلى الامام الرازى هى غير النص الّذي هو موضوع هذا المقال.

وانما تقدمت فى تحقيق هذا النص معتمدا على نسخة واحدة ،

١٠

لانه من النوادر التى بقيت لنا ويوضح لنا كثيرا من شأن هذا الامام الجليل ، وهو مجدد المائة السادسة ، ولانه يرجى ان يمكن لأحد من الأعلام ان يرشد القراء الى نسخة أخرى جيدة او احسن منها. وورد ذكر هذا النص فى كشف الظنون تحت عنوان «كتاب النفس والروح» ، ويخبرنا الحاجى خليفة ان لهذا النص تلخيصا لمحمد العلائى ، وعبارته تدل على ان العلائى رتب الكتاب على اقسام ، والصحيح ان الامام الرازى نفسه رتب الكتاب على قسمين ، ولكنه يقول : «وهذا الكتاب مرتب على اقسام : القسم الاول فى الأصول الكلية لهذا العلم».

اما المآخذ الاخرى فلا تذكر هذا النص ولا ترشد إليه ، ولكن القفطى ، وهو اقرب المترجمين الى الامام زمانا ، يذكر كتابا للامام فى علم الاخلاق ، وليس له ذكر فى الفهارس ، ولم اعثر الى هذا اليوم على نسخة منه ،

والعجب ان المستشرق الشهير بروكلمان لا يذكر هذا الكتاب تحت ترجمة الامام ، وانما أشار الى رسالته فى النفس الموجودة بالاسكندرية تحت «الفنون» ، رقمها ١٥٥ ، الرسالة الخامسة من المجموع ، والى رسالة أخرى تسمى «برسالة فى النفس وتحقيق زيارة القبور» ، الموجودة بالفاتح باستانبول ، تحت رقم ٥٤٢٦ ، الرسالة الرابعة فى المجموعة ، وهما غير النص الّذي نبحث عنه ،

الانتقاد على كتب الامام الرازى

أما محتويات هذا الكتاب فانها ترشدنا الى أن الذين اخذوا عليه من المعاصرين ومن جاءوا من العلماء بعده انما نقدوا عليه لشيء لم يثبتوه له ، ولم يحققوا ما نسبوا إليه ، فالامام الشهير ابن تيمية رح استفاد من خزائن علمه ، واستعمل حججه البينة فى مصنفاته ، ولكنه

١١

احيانا يأخذ عليه ، ويقول ، مثلا «ومقصودنا بحكاية هذا الكلام ان يعلم ان ما ذكره الرازى فى هذه المسألة قد استوعب فيه حجج النفاة وبين فسادها ، وأما الحجة التى احتج بها فهى اضعف من غيرها ، كما سيأتى بيانه».

ويظهر بادنى تأمل ان الامام ابن تيمية ما أنصفه فى هذا النقد فانه ذهل عن هذه الحقيقة ان الامام الرازى حينما اوضح فساد «حجج النفاة» ، فانه لا يحتاج الى حجة قوية لاثبات دعواه ، فلا يضره قول الامام ابن تيمية : «اما الحجة التى احتج بها فهى اضعف من غيرها».

وكذا صاحبه الشيخ ابن القيم أحيانا يشير إليه وينقده لنكتة لا توجد فى كتبه. إنه يقول : «وقد ضبط ابو عبد الله ابن الخطيب (الامام الرازى) مذهب الناس فى النفس فقال : «ما يشير إليه كل انسان بقوله «انا» إما ان يكون جسما او عرضا ساريا فى الجسم ، او لا جسما ولا عرضا ساريا فيه ، أما القسم الاول وهو انه جسم ، فذلك الجسم اما ان يكون هذا البدن ، وإما ان يكون جسما مشاركا لهذا البدن ، وإما أن يكون خارجا عنه ، أما القسم الثالث وهو ان نفس الانسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن ، فهذا لم يقله أحد ، واما القسم الأول وهو ان الانسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص ، فهو قول جمهور الخلق ، وهو المختار عند اكثر المتكلمين.»

«قلت : هو قول جمهور الخلق الدين عرف الرازى اقوالهم من اهل البدع وغيرهم من المضلين ، وأما اقوال الصحابة والتابعين واهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة ، ولا اعتقد ان لهم فى ذلك قولا على عادته فى حكاية المذاهب الباطلة فى المسألة ، والمذهب الحق الّذي دل عليه القرآن والسنة ، واقوال الصحابة لم يعرفه ولم

١٢

يذكره ، وهذا الّذي نسبه الى جمهور الخلق من ان الانسان هو هذا البدن المخصوص فقط ، وليس وراءه شيء هو من أبطل الاقوال فى المسألة ، بل هو ابطل من قول ابن سينا واتباعه ، بل الّذي عليه جمهور العقلاء ان الانسان هو البدن والروح معا ، وقد يطلق اسمه على احدهما دون الآخر بقرينة.»

وأما ما ضبطه الامام الرازى فى تصانيفه فهو غير ما نسبه إليه ابن القيم ، فانه يقول فى تفسيره : «فنقول انهم قالوا ان الانسان لا يجوز ان يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس» ـ ويقول فى الرسالة الكمالية : «پس لازم آيد كه ذات ما چيزى باشد مغاير اجسام واعراض جسمانى پس لا بد ذات جوهرى مجرد باشد» ـ

موضوع الكتاب ومزاياه :

وقد كتب الامام الرازى فصلين طويلين فى هذا الكتاب يفصل فيهما ان النفس «شيء غير هذه البنية الظاهرة المحسوسة» ، وان النفس شيء غير الجسد ، فقال :

«الفصل الرابع فى البحث عن ماهية جوهر النفس ، اعلم ان الّذي يشير إليه كل احد بقوله : «انا جئت وانا انصرف ، وانا سمعت ، وأنا فهمت ، و ، انا فعلت ، شيء غير هذه البنية الظاهرة المحسوسة ، ويدل عليه المعقول والمنقول ،

اما المعقول فمن وجوه : الاول ان نقول النفس واحدة ، ومتى كانت واحدة وجب ان تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من اجزائه.»

وقال : «الفصل الخامس فى الدلائل المستفادة من الكتاب الالهى فى إثبات ان النفس شيء غير الجسد الخ.»

١٣

ولهذا الكتاب مزية أخرى تميزها عن سائر المصنفات فى علم الاخلاق بانه يبتنى على اصول الاسلام أولا ، انما يشير الى افكار أرسطاطاليس وجالينوس فى المباحث التى تتعلق بالطبيعيات وعلم التشريح والنفسيات ، لأنه يبحث فى المسائل بطريقة علمية وحجج مقنعة ، فالنظر عنده لا يناقض النقل ويرشد الى ما صح بالنقل والشرع ، ففصل المسائل تحت ظلال القرآن الحكيم ، واقوال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والكتاب مرتب ، كما سبق ، على قسمين :

قسم يبحث عن الأصول الكلية لعلم الأخلاق ، ويريد ان يكشف عن مرتبة الانسان من مراتب الموجودات ـ فقسم الموجودات فى ثلاثة تقاسيم من حيث الطبيعة والشهوة أولا ومن حيث الوجود والخلق ثانيا ، ومن حيث الكمال والنقصان ثالثا ـ وجاءت محتويات هذا القسم فى اثنى عشر فصلا ـ فانه قد شرح مراتب الارواح البشرية ، وماهية جوهر النفس ، وقوى النفس ، واللذات العقلية واللذات الحسية مستدلا بأقوال الحكماء والمتطببين من اليونانيين وغيرهم مستضيئا من الآيات الكريمة القرآنية والاخبار النبوية على صاحبها الصلاة والسلام ،

والقسم الثانى يشتمل على عشرة فصول ، يبحث عن علاج ما يتعلق بالشهوة والنزوع ، ومباحثه تتعلق بحب المال والجاه ، وعلاج البخل ، والكلام فى الرياء ودرجات اهل الرياء ، وشرح الطاعات البدنية وما يتعلق من الطاعات بالخلق ـ

لا غرو أن الامام الرازى استفاد من كتب المتقدمين ، وخصوصا فى القسم الثانى من احياء علوم الدين للغزالى رح ، ولكنه أجاد وزاد فى بيان العلاج واحتج بحجج قيمة بينها من نفسه واسترشد

١٤

إليها بعلوم القرآن وعلوم الأوائل ، فلذا يتفوق هذا الكتاب على سائر التصانيف التى جاءت إلينا فى علم الاخلاق ،

ونص هذا التراث العلمى فى ايديكم ، وستطبع ، ان شاء الله تعالى ، ترجمته الانكليزية والتعاليق المفيدة ، التى اشير إليها بأرقام مثبتة فى النص ،

وانه يجب على ان اشكر لمساعى الدكتور فضل الرحمن ، مدير معهد الابحاث الاسلامية ، اسلام آباد ، فى نشر هذا النادر مستقلا عن الترجمة والتعاليق ليصل الى ايدى القراء ، فى اسرع زمان ، كما اسجل له شكرى الخالص لمساعدته على انجاز العمل فى هذا الكتاب ، فله الفضل وعاطر الثناء.

اسلام آباد

١٣٨٨ ه‍. ش. / ١٩٦٨ م

(الدكتور) محمد صغير حسن المعصومى

أستاذ بمعهد الابحاث الاسلامية ،

١٥

تعاليق

(١) راجع لترجمته ابن خلكان : وفيات الاعيان ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد : ج ٣ ، ٣٧٩ ؛ خير الدين الزركلى ، الاعلام ٧ : ٢٠٣ ، ابو شامة القدسى : تراجم رجال القرنين السادس والسابع ، قاهره ، ص ٦٨ ، الذهبى : ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٢٢٤ ؛ السبكى : طبقات الشافعية ج ٥ ص ٣٥ ؛ حاجى خليفة : كشف الظنون ج ٢ ص ٣٩٣ ، ابن حجر : لسان الميزان ج ٤ ص ٤٢٧ ، ابن العبرى : تاريخ مختصر الدولة ص ٢٤٠ ، ٢٥٤ ، طاش كبرى زاده : مفتاح السعادة ج ١ ص ١٥٠ ؛ ابن العماد : شذرات الذهب ج ٥ ص ٢١ ، القفطى : تاريخ الحكماء ، ليبسك ، ص ٢٩١ ، ابن الساعى : الجامع المختصر ، بغداد ج ٩ ص ٣٠٧ ، ابن كثير : البداية والنهاية ، مطبعة السعادة ، ج ١٣ ص ١٩ و ٥٥ ، وخواند مير : حبيب السير ، چاپخانه حيدرى ، ايران ، ج ٢ ص ٣٣١ : مختصر المعارف الاسلامية (Shorter Encyclopaedia of Islam) ، تحت «الرازى».

(٢) كمال السمعاني ، وبعضهم كتبوا «السمنانى» موضع «السمعاني» ، وخواند مير يقول (ج ٢ ص ٣٣١) : وقتى كه والد او فوت شد آنگاه بسجستان شتافته بيش كمال سجستانى در كمالات نفسانى اهتمام كرد.

(٣) المجد الجيلى ، خواند مير يذكر (نفس المصدر) : «وبعد از مدتى به رى بازگشته در سلك تلامذه مجد جيلى كه از جمله شاگردان غزالى بود انتظام يافت» ،

(٤) هو ابو المعالى عبد الملك الجوينى (٤١٩ ـ ٤٧٨ / ١٠٢٨ ـ ١٠٨٥) الاصولى الشافعى المشهور ـ وقد زعم ابن تيمية ان «أبا عبد الله الرازى غالب مادته ...... فى مذهب الاشعرى على كتب ابى المعالى كالشامل ونحوه (انظر «بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول بهامش منهاج السنة النبوية ، ج ٢ ص ٨١).

(٥) ابن خلكان يذكر انه عاد من خوارزم «الى الرى وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة وكان للطبيب ابنتان لفخر الدين ابنان ،

١٦

فمرض الطبيب وايقن بالموت فتزوج ابنتيه لولدى فخر الدين ، ومات الطبيب فاستولى فخر الدين على جميع امواله ، فمن ثم كانت له النعمة» ، وهذه قصة غريبة ، فالقفطى وغيره من المترجمين لم يذكروا هذه القصة ولا السبكى الّذي يقول : «فعاد الى الرى». ويظهر من بيان القفطى انه «خرج من بخارا وقصد خراسان واتفق اجتماعه بخوارزم شاه محمد بن تكش فقربه وادناه ورفع منزلته واسنى رزقه واستوطن هراة وتملك بها ملكا واولد اولادا».

(٦) راجع القفطى : تاريخ الحكماء ليبسك ، ص ٢٩١ : «وكان يركب وحوله السيوف المجذبة» ، والسبكى : طبقات ج ٥ ص ٣٥ ، «وكان اذا ركب يمشى حوله نحو ثلاثمائة نفس من الفقهاء وغيرهم».

(٧) راجع زكريا القزوينى : آثار البلاد واخبار العباد ، ص ٣٧٧ ، وعبد المتعال الصعيدى : المجددون فى الاسلام ، المطبعة النموذجية مصر ، ص ٢١٥.

(٨) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٣ ، مطبعة السعادة ، ص ٥٥.

(٩) القفطى : تاريخ الحكماء ، ص ٢٩٢.

(١٠) ابو شامة المقدسى : تراجم رجال القرنين ، ص ٦٨.

(١١) سبط ابن الجوزى : مرآة الزمان ، ج ٨ ص ٥٤٢ ، طبع حيدرآباد.

(١٢) ابن حجر العسقلانى : لسان الميزان ، طبع حيدرآباد ، ج ٤ ص ٤٢٩ : «ثم اسند عن ابن الطباخ ان الفخر كان شيعيا يقدم محبة اهل البيت لمحبة الشيعة» ولا يوجد فى تصانيفه شيء يدل على انه كان شيعيا.

(١٣) فى كتابه مرآة الزمان ج ٨ ص ٥٤٢.

(١٤) عبد الحميد الخسروشاهي ، هو ابن عيسى بن عمويه توفى سنه ٦٥٣ ه‍.

(١٥) انظر الوصية وكتاب النفس والروح وهو كتاب فى الاخلاق ، مخطوطة بودليانا ، آخر الورقة ال ٢٦٠ ظ : «وكل ما ذكرنا على وفق كلام صاحب الشرع» ، الورقة ال ٢٦٢ ظ : «قال صاحب الشريعة عليه‌السلام» ، الورقة ال ٢٦٧ ظ : «وقال عليه‌السلام» ، «قوله عليه‌السلام» ، الورقة ال ٢٦٩ و : «فقال له النبي عليه‌السلام» ، ... «وكان يقول عليه‌السلام».

١٧

(١٦) راجع نص هذه الوصية فى الطبقات الشافعية للسبكى ج ٥ ص ٣٨ ، وفى الجامع المختصر فى عنوان التواريخ وعيون السير لابى طالب على بن انجب تاج الدين المعروف بابن الساعى ، تحقيق مصطفى جواد ، بغداد الجزء التاسع ص ٣٠٧ ـ

(١٧) القفطى : تاريخ الحكماء ، ص ٢٩١ و ٢٩٢.

(١٨) ابن خلكان : وفيات ، ج ٣ ص ٣٨٢.

(١٩) حاجى خليفة : كشف الظنون ج ٢ ، ١٧٥٦ ـ استانبول ، ١٣٦٠ ه‍ / ١٩٤١ م.

(٢٠) ابن حجر : لسان الميزان ج ٤ ص ٤٢٦.

(٢١) السبكى : طبقات ، ج ٥ ص ٣٥.

(٢٢) انظر كتاب الروح ، دائرة المعارف العثمانية ، الطبعة الثالثة ، ص ٣٦ ، وابو عبد الله بن منده الحافظ هو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الاصبهانى (٣١٦ ـ ٣٩٥ ه‍)

(٢٣) أيضا ، ص ٤٦.

(٢٤) راجع فهرس المخطوطات فى خزانة فاتيكان (Vatican) روما ، لليوى دلاويده (Levi della vida) رسالة فى الروح والنفس ، رقم ٢٩٩ (Vat.Arabo ٩٩٢) من الورقة ال ١٠٨ ـ ١٢٤ ظ) والظاهر انها رسالة لمؤلف مجهول نشأ بعد زمن الرازى ، فانه يقول فى الورقة ال ١١٠ وو الثانى انه جوهر لطيف نورانى مدرك الجزئيات والكليات حاصل فى البدن متصرف فيه ، غنى عن الاغتذاء ، برى عن التحلل والنماء ، وهذا اختيار فخر الدين الرازى وشمس الدين سمرقندى من العلماء المتاخرين».

وانظر فهرس المخطوطات المصورة لفؤاد سيد ج ١ ص ٢١٨ ـ ١٨١ ، القاهرة ١٩٥٤ : رسالة فى النفس تاليف فخر الدين الرازى المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ تحت رقم البلدية ٣٣٣٦ ج ـ ١٠ ق ، وهى رسالة أخرى.

(٢٥) راجع كشف الظنون ج ٢ ، ١٧٥٦ «وصنف الامام فخر الدين محمد بن عمر الرازى كتابا فى النفس والروح لخصمه محمد العلائى ورتب على اقسام.»

١٨

(٢٦) تاريخ الادب العربى ج ١ ص ٥٠٧ والطبعة الثانية ص ٦٦٩ وضميمه ج ١ ص ٩٢٣ : (C. Brockelmann : Geschichte der  arabischen Litteratur, I. p. ٥٠٧, S. I. p. ٩٢٣).

(٢٧) بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول بهامش الجزء الثانى من كتاب منهاج السنة النبوية ، المطبعة الاميرية ببولاق ، مصر ، ص ١٠٦.

(٢٨) كتاب الروح ، الطبعة الثانية ، حيدرآباد ، ص ٢١٩.

(٢٩) التفسير الكبير ج ٢ ص ٥٣.

(٣٠) تحقيق سيد محمد باقر سبزوارى ، طهران ، ١٣٣٥ ه‍ ص ١١٦.

(٣١) كتاب النفس والروح وشرح قواهما (فى علم الاخلاق) الورقة ال ٢٦٢ ظ.

(٣٢) أيضا ، الورقة ال ٢٦٦ ظ.

(٣٣) راجع التعاليق التى ستنشر مع الترجمة الانكليزية لكتاب النفس والروح للرازى ، تحقيق الكاتب المترجم.

١٩