النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

وأما إن كانت الأحوال الماضية موجبة للسعادة ثم أنها ما بقيت بل فاتت ، فكلما تذكر الإنسان تلك المراتب الفانية اشتعلت نيران الحسرة فى قلبه بسبب فواتها بعد حصولها وزوالها بعد وجودها.

وأما إن كانت تلك الأحوال لا موجبة للسعادة ولا للشقاوة ، فحينئذ كانت من باب العبث الّذي لا فائدة فيه ـ وكلما تذكر الإنسان تلك الأحوال عرف أنه قد ضيع ذلك الّذي مر من عمره فى العبث الّذي (لا) فائدة فيه ، مع أنه كان يمكنه أن يصرف أوقاته فى اكتساب السعادات العالية والدرجات الرفيعة ، وحينئذ تشتعل نيران الحسرة والاسف فى قلبه بسبب تضييع العمر ، ثم أنه ربما رأى أقرانه واشباهه قد اجتهدوا فى سالف العمر فى طلب الفضائل وفازوا بسبب ذلك الجد والجهد فائزين بالمناقب العالية والمراتب الشريفة ، فإذا رأى نفسه نازلا خسيسا متخلفا عن اقرانه واشباهه مات غما واسفا ، فثبت أن تأمله فى الاحوال الماضية لا يفيد إلا الحزن والأسف.

وأما الحالة الراهنة القائمة فأمر عجيب ، وذلك لأنها لا بد وأن تكون نهاية الماضى وبداية المستقبل ، ومتى كان ذلك منقسما (١) ، وليس كذلك ، إذ لو كان ذلك الوقت منقسما لكان بعض الأجزاء المعرضة قبل البعض ، فحينئذ لا يكون كله حاضرا ، هذا خلف.

وإذا عرفت هذا ظهر انه لا يمكن أن يكون الزمان الّذي هو مقدار طرف العين حاضرا لأن ذلك الزمان حصل فيه حركة طرف الجفن على سطح الحدقة ، وسطح الحدقة منقسم بأقسام ولا نهاية لها عند الحكماء ، وبأقسام كثيرة متناهية عند غيرهم ، وعلى هذا التقدير يكون الآن

__________________

(١) المخطوطة : ذلك منقسمة

١٠١

الحاضر قسما من تلك الإقسام الكثيرة الخارجة عن الحد والحصر من اللمحة الواحدة ، وهذا القدر القليل ما لا يتصوره العقل ، ولا يضبطه الحس والخيال ، فامتنع أن يحصل فيه الالتذاذ والابتهاج الحقيقى فى نفس الأمر ، وما سوى ذلك الآن الّذي لا ينقسم فبعضه ماض وبعضه مستقبل ، وكلاهما معدومان فى الحال ، فثبت أن هذه الأشياء التى تظن أنها سعادات فهى ليست كذلك فى أنفسها ، بل هى خيالات فاسدة وأوهام باطلة.

الثانى ، ان عادة الإنسان (الورقة ٢٧٩ و) ان كل ما كان حاصلا له وموجودا بالفعل عنده فإنه لا يلتذ به ولا يميل قلبه إليه ، بل لا يلتذ إلا بوجدان المفقود وطلب المعدوم ، فعلمنا أن الإنسان لا يلتذ بما كان حاصلا فى الحال ، وأما المستقبل اما (١) يوافقه أو يخالفه ، وإذا كان كذلك ، لم نكن ننظر (٢) فى المستقبل الأشياء للخوف الشديد والفزع التام ـ فثبت بما ذكرنا أن الازمنة ثلاثة ـ الماضى والحال والمستقبل.

ونظر الإنسان فى اى واحد منها كان يوجب الغم الشديد والحسرة والألم والنفرة ، والخوف الشديد ـ فثبت بما ذكرناه أن الإنسان لا ينفك عن الغم والحزن إلى هذه الأحوال.

الموجب الثانى من موجبات استيلاء الغم والحزن على الإنسان ، وذلك لأن الإنسان إما أن يعيش بحيث يكون مختلطا بالناس أو بحيث يكون منفردا عنهم.

__________________

(١) المخطوطة : واما المستقبل ما يوافقه او يخالفه

(٢) أيضا : لم يكن مطره فى المستقبل الاشياء الخ

١٠٢

أما الأول فإنه سبب قوى للغم والحزن والوحشة ، فإن المخالطة موجبة للمنازعة إما فى الحال وإما فى المستقبل ، إما فى كل الأمور أو فى بعضها ، والمنازعة موجبة لقصد (١) كل واحد من المتنازعين قهر صاحبه بوجه ما والمقهورية موجبة للغم والحزن.

وأما الثانى ، وهو أن يعيش منفردا عنهم فذاك أيضا من أقوى موجبات الغم ، إلا أن الإنسان خلق بحيث لا تكمل مصالحه البتة إلا بالجمع العظيم ، فإذا أنفرد عن ذلك الجمع اختلف مصالحه ـ فثبت أن حياة الإنسان مع المخالطة بالغير توجب الزحمة والوحشة ، ومع الانفراد توجب الوحشة والكآبة ، فثبت أنه لا خلاص البتة عن الهموم والآلام.

الموجب الثالث من موجبات الغم والحزن ، وهو إما أن يكون أكمل من غيره أو مساويا له أو أنقص منه ، فإن كان أكمل من غيره كان ذلك الغير ناقصا ، والنقص مبغوض لذاته مكروه لعينه ـ فذلك الناقص لا يمكنه دفع النقص عن نفسه إلا بإبطال كون ذلك الغير أكمل ، وما كان من لوازم المطلوب لذاته يكون أيضا مطلوبا ، فلهذا السبب حيل الناقص على السعى فى إبطال كمال الكامل إما ابطالا فى نفسه وذاته ، وإما بإخفاء ذلك الكمال عن أعين الناس ، وكل واحد من هذين القسمين فإنه حالة منافية بالذات لذلك الكمال وموجبه وقوع الحزن وألم القلب وتشويش الخاطر.

وأما إن كان مساويا لغيره فنقول : الكمال محبوب لذاته فلا جرم كان كل واحد من المتساويين يريد (٢) إرادة حازمة أن يجعل نفسه أكمل

__________________

(١) المخطوطة : قصد

(٢) أيضا : مريد إرادة حازمة

١٠٣

من غيره وأعلى منه وأشرف ، لكن كون كل واحد منهما أعلى من الآخر محال ، فلهذا السبب لا بد وأن يقع بينهما التنازع الشديد والتحارب التام ، وقد عرفت أن المنازعة سبب لحصول الخوف والغم والوحشة ، وأيضا فهذان المتساويان إن صار أحدهما مرجوحا فقد تألم قلبه جدا ، لأن حصول المرجوحية مكروه بالذات ، وذلك مولم للقلب ، وإن صار راجحا تألم قلب ذلك المرجوح ـ ثم إن ذلك المرجوح يسعى بأقصى ما يقدر عليه على إزالة (١) تلك المرجوحية ، لكن زوال مرجوحيته يوجب زوال راجحية الراجح ، وذلك مكروه له بالذات. فذلك الراجح يخاف من زوال تلك الصفة عنه ، وذلك الخوف موجب للألم ، فثبت أن الإنسان ان حضر مع من يساويه فإنه لا ينفك عن الغم والحسرات (٢) ـ وأما إن كان مرجوحا بالنسبة إلى غيره فالمرجوح كلما نظر إلى الراجح فرأى ما معه من الرفعة والبهجة والسرور ، وجد نفسه محروما عنها ، فلا شك أنه تشتعل نيران (الورقة ٢٧٩ ظ) الحسرات (٣) فى قلبه ـ وأيضا فالراجح يجعل المرجوح نصيبا للموحشات وهدفا للموذيات ، وكل ذلك مما يغم القلب. فثبت أن الإنسان سواء كان أكمل من الغير أو مساويا له أو أنقص منه ، فإنه لا ينفك البتة من الغم والحسرة وتوحش الصدر وألم القلب.

الموجب الرابع من موجبات الغم والحزن انه لا يشك أن الإنسان له عقل يهديه وهوى يرديه ـ والهوى الّذي يرديه له أعوان

__________________

(١) المخطوطة : على ان ازالة الخ

(٢) أيضا : الخسران

(٣) أيضا : الخسران

١٠٤

كثيرة وهى الشهوة والغضب والحرص والحواس الظاهرة والباطنة.

أما العقل فليس له فى جوهر الإنسان صفة أخرى تقويه ، فكان العقل أضعف من الهوى لا محالة لهذا السبب ـ وأيضا فالإنسان من أول فطرته كان مطيعا للذات الحسية منقادا لها مقبلا عليها.

وأما نور العقل فلا يظهر فيه (إلا) بعد مدة من عمره ، وقالوا : العلم فى الصغر كالنقش فى الحجر ـ والحكماء قالوا : إن التكرير سبب لحصول الملكات العقلية ، وإذا كان كذلك كان انجذاب النفس إلى اللذات الحسية أكمل من انجذابها إلى اللذات العقلية ، ولا معنى للهوى إلا الانجذاب إلى اللذات الجسمانية والسعادات الحسية ، فثبت أن جانب الهوى راجح على جانب العقل رجحانا كثيرا.

إذا عرفت هذا فنقول : مقتضى ما ذكرناه أن يكون أغلب الأفعال الصادرة عن الإنسان يكون من مقتضيات الهوى ومن جنس الأفعال الذميمة ، ثم إن الإنسان بعد إقدامه عليها وفراغه منها ، وانصرافه عنها يبقى العقل فارغا عن منازعة الهوى ، فحينئذ يطلع الإنسان على قبحها وسخافتها ، واشتمالها على الوجوه الكريهة الذميمة ، ولكنه إنما يطلع بعقله على هذه القبائح بعد وقوعها وبعد وقوع الفعل لا يمكن دفعها ومنعها ، فلا يبقى مع الإنسان إلا الحسرة والندامة والخجالة.

ولما بينا إقدام الإنسان على مقتضيات الهوى هو الغالب الراجح بحكم ما قدمنا أن يكون بقاؤه فى الغم والحسرة هو الغالب الراجح ، وذلك يدل على أنه يجب أن يكون الإنسان فى أغلب أحواله ملازما للحسرات مقارنا للزفرات.

١٠٥

الموجب الخامس من موجبات الغم أن درجات السعادة والرفعة غير متناهية وتحصيل ما لا نهاية له محال ، ينتج أن حصول جميع الدرجات للإنسان محال ، وقد ثبت أن تكرير العقل موجب للملكة ـ فالإنسان كلما كانت مواظبته على اللذات الجسمانية أكثر ، كان ميله إلى ذلك الالتذاذ أكثر وأقوى ـ وكلما كان ميله إلى الالتذاذ أقوى كان طلبه لاستجذاب ما كان مفقودا أكثر ـ ولما كان تحصيل تلك المراتب التى لا نهاية لها محال لزم آخر الأمر أن يبقى الطلب الشديد المتأكد مع امتناع حصول المطلوب فى ذلك يوجب الألم الغذاء.

وثبت أن الميل إلى اللذات يوجب الآلام بتقدير حصولها ، وأما بتقدير عدم حصولها فحصول الآلام (١) أظهر ـ ولهذا السبب قال بعض الحكماء المحققين : من أراد أن يستغنى عن الدنيا بالدنيا كان كمن اطفأ (٢) النار بالتبن ، فثبت بهذه الوجوه (الورقة ٢٨٠ و) أنه يمتنع (٣) أن تكون لذات الدنيا خالية عن الغموم والهموم ، وكلها آلام وأسقام.

ثم إنك إذا تأملت فى أحوال الفقراء تفكرت فى أمورهم وما هم فيه من الإنكاد وتوجه الموذيات ، وقصد الأعداء ، وترادف الاحزان وجدتها بحرا لا ساحل له ، واللذة التى تحصل للإنسان تكون كالقطرة فى البحر ، فثبت بما ذكرناه أن اللذات الجسدانية مخلوطة بالآلام والاسقام والموذيات ، فلا جرم كانت مذمومة من هذا الوجه.

السبب الثالث من الأسباب الخارجية الموجبة لكون الدنيا مذمومة

__________________

(١) المخطوطة : الام

(٢) أيضا : طفى

(٣) أيضا : انه لا يمتنع

١٠٦

هو أن الغالب أن الإنسان الّذي يكون خسيسا فى نفسه وقوته وحسبه ونسبه ، يكون راجحا فى السعادات الجسمانية على من كان شريفا فى نفسه وعقله وحسبه ونسبه ودينه ، ولهذا قال عليه‌السلام : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء (٣.

أما السبب الرابع من خاصة اللذات الجسمانية أنك كلما سددت منها ثلمة انفتحت عليك ثلمة كثيرة هكذا إلى ما لا نهاية له. ومثاله أن الإنسان إذا ضعف عن الشيء واشترى فرسا فحينئذ يحتاج إلى خادم بخدم الفرس وإلى قرية يحصل منها علفه ، وإلى إسطبل يربط فيه الفرس. ثم أن احتياجه إلى كل واحد من هذه الأشياء تفتح عليه أبوابا كثيرة من الحاجات أكثر ما تقدم ـ وهكذا (١) إلى غير النهاية ، ولهذا السبب نقل عن عيسى عليه‌السلام أنه قال (٤ : ان مهمات الدنيا لا تتم بالإصلاح والتكميل وإنما تتم بالترك والإعراض.

__________________

(١) المخطوطة : وهكذى

١٠٧
١٠٨

القسم الثانى من الكتاب

فى علاج ما يتعلق بالشهوة

وفيه فصول

١٠٩

الفصل الأول

فى حب المال

اعلم أن الآيات الكثيرة قد وردت فى مدح المال تارة وفى ذمه اخرى.

أما آيات المدح فهو قوله : (١ (قل ما انفقتم من خير فللوالدين والأقربين ؛ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم الخ ؛ وابتغوا من فضل الله) (١).

وأما آيات الذم نحو قوله تعالى : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢ ، وقوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (٣ ، وقوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (٤.

ولما تعارضت الآيات فلا بد من التوفيق ، وطريق التوفيق لا يمكن للإنسان إلا ببيان مراتب الفضائل ، وهى ثلاثة (٥ :

النفسانية ـ وهى العلوم ، والأخلاق الفاضلة.

والبدنية ـ وهى الصحة والجمال.

والخارجية ـ وهذه الخارجية منها قريبة وهى الطعام والشراب وهما يخدمان البدن ، والبدن يخدم النفس ، والنفس يستكمل بالعلوم والأخلاق الفاضلة ، فهذان مخدومان على الإطلاق.

(ومنها بعيدة ، وهى المال) (٢) والمال خادم على الاطلاق فإن صرف المال إلى تحصيل العلوم وتهذيب الأخلاق كان محمودا ،

__________________

(١) هذه الآيات غير موجودة فى المخطوطة.

(٢) هذه العبارة ليست فى المخطوطة.

١١٠

وإن صرف إلى اللذات الحسية التى عرفت كونها مذمومة كان مذموما.

فهذا طريق التوفيق بين هذه النصوص لأنه (١) بالأول يحصل السعادة الأبدية ، وبالثانى يحصل الشقاوة الأبدية.

الفصل الثانى

فى أنه كيف يتوسل بالمال إلى اكتساب السعادة الروحانية.

المال إما أن يصرفه الإنسان إلى نفع نفسه (١ أو إلى نفع غيره ، أما الأول فهو أن الإنسان خلق محتاجا إلى المطعم والملبس والمسكن والمنكح ، فإن لم يدفع عنه هذه الحاجات لم يقدر على اكتساب الكمالات فى قوته النظرية والعملية ، لكن تلك الحاجات لا تندفع ولا تتحصل إلا بالمال ، (الورقة ٢٨٠ ظ) فكان فى المال معونة من هذا الوجه على اكتساب السعادات الروحانية.

وأما الثانى ، وهو ما إذا صرف الإنسان ما له إلى غيره (٢ ، فذلك الغير ، إما أن يكون معينا أو غير معين.

أما القسم الأول ، وهو صرف المال إلى شخص معين ، فإما أن يكون ذلك الصرف لدفع ضرر (٣ ، وهو كما إذا دفع بعض أمواله إلى بعض الظلمة ليتخلص عن ظلمه أو يدفع إلى شاعر فخاف أن يقع فيه ، وأن يهجوه لئلا يفعل ذلك ـ وإما أن يكون ذلك الصرف لغرض تحصيل النفع ، وذلك النفع إما أن يكون دنيويا أو أخرويا.

__________________

(١) المخطوطة : لان

١١١

والأول قسمان : أحدهما أنه إذا كان مشتغلا أبدا باكتساب الفضائل النفسانية من العلوم والأخلاق لم يتفرغ للقيام لمصالحه الدنيوية ، فيحتاج إلى من يخدمه فى هذه المصالح ، فيحتاج إلى صرف طائفة من ماله إليه عوضا عن تلك الخدمة (٤.

الثانى أن يبذل طائفة من ماله لأجل المروءة (٥ وإكرام الأضياف ، كل ذلك حسن محمود ، وأما الّذي يكون للنفع الاخروى فهو كالزكاة (١) والصدقات.

وأما القسم الثانى وهو الّذي يدفع ماله إلى شخص غير معين كبناء المساجد والقناطير (٢) والرباطات ودور المرضى ، وحفر الآبار والمصانع ونصب جار الماء فى الطرقات ، فهو أيضا حسن (٦ ، وهو بيان الانتفاع بالمال.

وأما بيان ما فيه من الآفات فمن وجوه (٧ :

الأول أن الشهوات الجسمانية غالبة على الطباع ، فإذا حصلت القدرة على تحصيل تلك اللذات وعند حصول القدرة مع الداعى وزوال العائق يقع الفعل.

الثانى أن عند حصول المال يتنعم الإنسان بالمباحات ظاهرا ، لأن الداعى قائم والمانع زائل فيقع الفعل ، ثم إذا ألف ذلك التنعم ربما (٣) قل ما له ولم يمكنه أن يصبر عن ذلك التنعم فيقع بسببه فى الكسب الحرام ، وينفتح عليه بهذا السبب جميع أبواب الأخلاق الذميمة.

__________________

(١) المخطوطة : كالزكوات ،

(٢) أيضا : القناطر

(٣) أيضا : وبما ،

١١٢

الثالث أن حفظ المال صعب عسير وما لم يصرف الإنسان كل جهده إليه لم يبق محفوظا ، وانصراف قلبه إلى هذا المهم يمنعه عن الاشتغال بذكر الله تعالى ، لأنه (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٨.

الفصل الثالث

فى الحرص والبخل

الحرص هو السعى التام فى تحصيل المال عند عدمه أو عند قلته.

والبخل (١ هو السعى التام فى إمساكه عند وجوده ، فحب المال حاصل فى الأمرين ، إلا أن حب الجمع والتحصيل هو الحرص ، وحب الابقاء هو البخل.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لحب المال سببان (٢ : أحدهما ان المال سبب القدرة والقدرة كمال. والكمال محبوب لذاته ، والمفضى إلى المحبوب محبوب فالمال محبوب (٣ ، الثانى ان المال يقتضي دفع الحاجة ، ودفع الحاجة مطلوب ، والمفضى الى المطلوب مطلوب ، والفرق بين هذين الوجهين ظاهر ، فان الشيخ المريض المشرف على الموت إذا كانت معه اموال عظيمة خارجة عن حصره ، فإذا اخبر فى هذه الحالة انه سرق ماله او أغير عليه فانه يتأذى بذلك مع علمه بأنه لا فائدة له فيه ، وليس هذا التأذى لاحتياجه إليه لأنه عالم بانه يموت غدا ، فدل ذلك على أنه انما تأذى لأنه بخيل ، إنه زالت قدرته بسبب القدر الّذي زال من ماله ، وزوال القدرة زوال الكمال ، وزوال الكمال نقص مغوض لذاته.

١١٣

إذا عرض هذا فلننظر (الورقة ٢٨١ و) فى علاج البخل ، وذلك من وجوه :

الأول أن يسعى الرجل فى تقليل (١) حاجاته ، لأنه إذا قلت حاجاته قل تعبه وميله إلى تحصيل (ما) (٢) يدفع تلك الحاجات. لأن إعدام الشيء قبل حصوله غير معقول. ولا شك أن هذه الحاجة إما حاجة انتفاعه هو بذلك المال أو حاجة متصلبه.

أما الاول فيعالج طول الامل (٤ بكثرة ذكر الموت ، والتأمل فى موت الاقران ويصرف وهمه إلى انه لا يمكنه الانتفاع بالمال إلا فى الزمان الحاضر ، ثم انه يكتفى من المطعم والملبس والمسكن باقل ما يحتاج إليه ويسد على نفسه باب التنعمات ، وحينئذ يقل حرصه على تحصيل المال بسبب نفسه ،

وأما الثانى فيعالج بترك الالتفات إلى الولد بان الله خلقه وخلق معه رزقه ، وكم من ولد لم يرث من أبيه مالا ثم صار أغنى منه ، او أغنى الخلق ، وكم من ولد ورث اموالا عظيمة ثم صار أشد الناس فقرا (٥.

الثانى ان يتأمل فى الآيات والأحاديث الواردة فى ذم البخل ومدح السخاء ، والوعد بالثواب العظيم فى السخاء ، والوعيد (٣) بالعقاب العظيم فى البخل (٦.

الثالث كثرة التأمل فى أحوال البخلاء ونفرة طباع الافاضل من الناس منهم ، واطباق اهل العالم على ذمهم ، فانه ما من بخيل إلا ويستقبح

__________________

(١) المخطوطة : تعليل

(٢) أيضا : تحصيل يدفع الخ ،

(٣) أيضا : الوعد

١١٤

البخل من غيره. وحينئذ يعلم أن حاله فى قلب غيره كحال سائر البخلاء فى قلبه (٧.

الرابع أن يتأمل فى المال ويعلم انه لا سبيل له إلى الانتفاع به إلا عند إخراجه من اليد.

والمنافع إما جسدانية وهى قليلة حقيرة ، ولا حاجة فى تحصيلها إلى المال الكثير ، وإما روحانية وحينئذ يقطع الإنسان بانه لا فائدة من المال بتحصيل هذه الفوائد الروحانية ، والأغراض النافعة ، فكانه قطع الوسيلة عن المقصود وذلك جهل.

الخامس يتفكر أنه وإن بالغ فى إمساك المال إلا أنه قد يتفق سبب تضييع المال ؛ ولا يبقى منه حمد (١) ولا أجر ، أما إذا صار مصروفا إلى وجوه الخيرات (٨ بقى (٢) الحمد والاجر عند الله تعالى كما قال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٩.

السادس ؛ الإنسان إذا عجز عن الإنفاق يبقى كالأسير فى قبضة استيلاء حب المال ؛ واذا قدر على الإنفاق صار كالمستولى عليه والقاهر له وكون الانسان قاهرا لغيره خير له من كونه مقهورا ؛ لأن الأول صفة الحق ، والثانى صفة الهيولى ، كما قال الله : (اللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (١٠.

السابع أنه إذا أمسك وما أنفقه فلا بد وأن يبقى ذلك المال بعد موته ، فكل من أخذه بعد موته يقول : هذا المال إنما جمعه ذلك البخيل الملعون فيصرفه فى وجوه منافع نفسه ولا يذكر ذلك الميت إلا باللعن ؛ ولا يبقى من ماله أثر فى حقه إلا الذم فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.

__________________

(١) المخطوطة : حمل

(٢) أيضا : ففى

١١٥

واما إذا صرف الإنسان ماله إلى مصارف الخيرات بقى له الثناء الجميل فى الدنيا والثواب الجزيل فى العقبى.

الثامن أن شركاء البخيل فى صفة البخل هم البخلاء الأشقياء المذمومون المهانون ، ولو كان جوادا سخيا كان شركاؤه فى ذلك الأنبياء والأولياء وأفاضل الحكماء وأكابر الناس.

التاسع الاستقراء دل على أنه تعالى يفتح أبواب الرزق والراحة والرحمة على الأسخياء ، أما البخلاء فانهم يكونون أبدا فى الضيق والضنك والشدة وظلمة القلب ، واكثر الامر يتفق لهم بذلك انفاق (١) اكثر اموالهم دفعة على رغم آنافهم ؛ والسبب فيه أن الأسباب الكلية متوجهة إلى إيصال النفع والخيرات إلى المحتاجين ، فمن كانت حرفته هذه الحرفة كانت تلك الأسباب الكلية معاضدة له ، ومن كان بالضد كان على مضادة الأسباب الكلية.

العاشر أن السخى يكون ممدوحا محمودا عند الكافة ، والبخيل مبغوضا (١١ ممقوتا ؛ فالسخى بذل المال ووجد عرضه ملك الارواح ؛ والبخيل أمسك المال فبقى محروما عن ملك الارواح ، ولما كانت الارواح البشرية من جوهر الملائكة ، وكان الذهب والفضة من جنس الجمادات كان التفاوت كثيرا.

وأيضا فهاهنا سبب آخر وهو أن السخاء لما كان محبوبا عند الخلق فهم يعنونه على تحصيل مهماته ، والبخيل اذا كان مبغوضا بقى محروما عن تلك الإعانة ، وإعانة الخلق له فى تحصيل مطالبه سبب ظاهر لكثرة

__________________

(١) المخطوطة : «... انفاق بذلك ...»

١١٦

أمواله ، والسخاء وان كان ينقص المال ظاهرا (١) لكنه يزيد من الوجه الّذي ذكرنا ، والبخل وإن كان يفيد حفظ المال ظاهرا لكنه يوجب نقصانه من الوجه الّذي ذكرناه.

وأيضا فهاهنا ، وهو ان الناس لما علموا من الإنسان كونه سخيا تطابقت هممهم على تحصيل الأموال الكثيرة له رجاء منهم ان رفعها إليهم ، وإذا علموا كونه بخيلا تطابقت همم الخلق على أن يصير ممنوعا عن الأموال ، وقد عرف أن همم الخلق لها تاثير شديد.

الحادى عشر أن السخى حيث ما حضر فرحت القلوب بحضوره واستبشرت الارواح نحو مقدمه والبخيل بالضد منه ، ولذلك قيل النفس الخيرة كالشمس النيرة.

الثانى عشر أن البخيل عند قرب الموت لا بد وأن يتمنى الإنفاق وإيصال الخيرات إلى الناس لأن حرصه عبارة عن شدة رغبته فى إمساك ذلك المال لنفسه ، فاذا تيقن بنزول الموت علم أنه لا يمكنه حفظ المال فى الحياة الدنيا ، ويعلم انه لا سبيل له إلى استصحابه معه ، فحينئذ يهون عليه صرفه عند القرب من الموت فى وجوه الخيرات (١٢ ؛ وربما كان فى ذلك الوقت لا يجد لسانا ناطقا ولا عقلا هاديا ، ويصير مبتلى (٢) بكرب الموت ، واقاربه لا يلتفتون إلى قوله ، ينصر ذلك من اعظم الحسرات فى قلبه ؛ وإليه الاشارة بقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) الآية (١٣

__________________

(١) المخطوطة : ظاهر

(٢) أيضا : مبتلا

١١٧

فثبت أن حرص الحريص وبخل البخيل لا يوصلان إلا الغم والحسرة قبل الموت وعند الموت ، وأما [بعده] (١) فنعوذ بالله منه.

الثالث عشر يجب على العاقل أن يعلم أنه لا نهاية لمراتب تلك الأموال فان ملك مائة ألف دينار وإن كان لذيذا إلا أن ملك الف الف دينار ألذ ، إذا ثبت هذا فنقول : النفس لا يصل إلى مرتبة من هذه المراتب إلا ويقوى التذاذها لوجدان تلك المرتبة وهى عالمة بان القدر بما فوق تلك المرتبة ألذ من وجدان تلك المرتبة مع العلم بأن القدر بما فوق تلك المرتبة ألذ ؛ فثبت أن جمع المال لا يخلص عن مرض الحرص بل يقويه ويزيد فى قوته ،

أما إذا منع النفس عن الفوز بتلك المرتبة صار كالعاشق الّذي يمنع عن الالتذاذ بمعشوقه ، فإن هناك يقل العشق (٢) ويزول هذا المرض.

الرابع عشر أن الإنسان لا يمكنه أن يسعى فى طلب المال إلا (٣) عند الاستعانة بالغير ، وإظهار الحاجة إليه ، وهذه الحاجة وما فيها من الذل ناجزة (٤) ، واما حصول ذلك المال وحصول الانتفاع به فموهوم ، ولحمل الضرر الناجز لوجدان النفع الخسيس الموهوم لا يليق بالعاقل.

وأيضا إذا احتاج إليهم صار كالعبد لهم يفعل ما أرادوه ويترك ما كرهوه ، والقانع المانع نفسه عنهم لا يلتفت إليهم والممنوع مطلوب ،

__________________

(١) المخطوطة : هذا اللفظ مطموس

(٢) أيضا : هذا اللفظ غير واضح يمكن ان يقرأ «العسق»

(٣) أيضا : لا

(٤) أيضا : فاحره؟

١١٨

والغالب أن من لا يلتفت إليهم يخدموه ورغبوا فى الاتصال به ، فصاروا كالعبيد له ، فالحريص عبد والقانع حر ، ولهذا قيل : «احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحسن إلى من شئت تكن أميره» ـ

الخامس عشر إذا اعتاد التنعم بكثرة المال فلعله يتفق سبب يوجب هلاك المال فيتألم بفوات عادات التنعم ، ثم يحمله ذلك على كثرة الجد ولاجتهاد فى الكسب والطلب حال الشيخوخة وضعف البدن فيقع فى الشقاء الشديد.

السادس عشر يجب عليه أن يستحضر فى ذمته أن المال لا فائدة فيه إلا التوسل به إلى اللذات الجسمانية ، ثم يتأمل فيما ذكرناه فى معالجة (١) اللذات الجسمانية.

السابع عشر لعله يتعب فى طلب المال فى الحال ثم يفوت قبل الانتفاع به ، فيكون التعب عليه والانتفاع لغيره ، أما اذا صرفه إلى وجوه الخيرات كان التعب ، وإن وقع عليه إلا أن نفعه يعود إليه وهو الغير بعد موت الجسد.

الثامن عشر (٢) أن المواظبة على القناعة يفيد ملكة الاستغناء عن الشيء والتنعم بطيبات الدنيا ولذاتها تفيد ملكة الاستغناء بالشيء ودوام الحاجة إليه ، والاستغناء عن الشى أكمل من الاستغناء بالشيء لأن الاول صفة الحق ، والثانى صفة الخلق ، ولأن الأول استغناء صرف ، والثانى استغناء ممتزجة بالحاجة ،.

__________________

(١) المخطوطة : المعالج

(٢) أيضا : التاسع عشر ،

١١٩

التاسع عشر (١) ، رزقه إن قدر له فلا حاجة إلى الطلب ، وإن لم بقدر لم ينفع الطلب ولا الحرص ، ولقائل أن يقول : هذا يقتضي أن لا يسعى فى طلب المعارف واكتساب الفضائل ولا فى تحصيل الأكل والشرب ودفع المضرات ، فانه ان قدر حصل وإن لم يقدر لم يحصل ، الجواب أن البحث والاستقراء أدانا إلى ان الارزاق قد رأيناها تحصل هجما بلا سعى ولا طلب تارة ورأيناها يفوت الطالب المتعوب المجد ، وأما العلوم والفضائل (٢) فقلما حصلت هجما على الفور ولا بغير طلب وتعلم ووجه آخر.

العشرون (٣) ان صاحب المال يحتاج إلى الجهد الشديد فى حفظه وصونه عن الآفات والهلاك ، بل إن تلف حصل له الغم الشديد ، وإن لم يتلف فلا يزال خائفا عليه متعوبا لاجله.

أما المتجرد عن المال باكتساب كمالات النفس فانه خال عن هذا الخوف والتعب.

الحادى والعشرون (٤) أن أموال الدنيا وعروضها عدوة لله تعالى ولأوليائه ، لأنها تشغلهم عن تحصيل الجنة ، وعدوة لأعداء الله لأنها تسوقهم إلى النار ، وعدوة لنفسها لأنها يأكل بعضها بعضا ، فإن صاحب المال يحتاج فى خزنه وحفظه إلى الخزائن والاعلاق وإلى التحصين والتوفيق وإلى الخزائن والاعوان ، وإلى العساكر والجنود ، وكل ذلك يحتاج إلى الحرج منه والنفات ، فثبت ان المال يأكل بعضه ويفنى نفسه.

__________________

(١) المخطوطة : العشرون ،

(٢) أيضا : ولا الفضائل ،

(٣) أيضا : الحادى والعشرون ،

(٤) أيضا : الثانى والعشرون ،

١٢٠