النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

التجارب الطبية.

وإذا ثبت هذا فنقول : القلب منبع الحرارة والدماغ للبرودة ، فجعل القلب مبدأ للحس (١) والحركة الإرادية أولى من جعل الدماغ مبدأ لهما.

الحجة الخامسة : كل أحد إذا قال «أنا» ، فإنما يشير بقوله : «أنا» إلى صدره وناحية قلبه ، وهذا يدل على أن كل أحد يعلم بالضرورة ان المشار إليه بقوله : «انا» حاصل فى القلب لا فى سائر الأعضاء.

الحجة السادسة : أظهر آثار النفس الناطقة النطق ، فوجب أن يكون معدن النفس الناطقة هو الموضع الّذي منه منبعه ، وتنبعث آلة النطق ، لكن آلة النطق هو الصوت ، والصوت إنما يتولد عن إخراج النفس وهو فعل القلب ، لأن القلب ، يستدخل النسيم البارد الطيب للترويح ـ فإذا سخن ذلك النسيم واحترق أخرجه إلى الظاهر الخارج ، فإذا كان إدخال النفس أولا واخراجه ثانيا مقصود القلب (٢) كان إسناد هذا الفعل إلى القلب أولى من إسناده إلى الدماغ مع انه لا حاجة بالدماغ البتة إلى النفس.

وقال جالينوس : الصوت لا ينبعث من القلب بل من الدماغ ، واستدل عليه من وجوه ثلاثة :

الأول أن الآلة الاولى للصوت هى (٣) الحنجرة ، بدليل أنك

__________________

(١) المخطوطة : مبدأ الحس الخ

(٢) أيضا : للقلب

(٣) أيضا : هو

٦١

إذا أخرجت (١) قصبة الرية أسفل من الحنجرة لم يسمع لهذا الحيوان بعد هذه الحالة صوت البتة ، فثبت ان آلة الصوت هى (٢) الحنجرة ، والحنجرة مؤلفة من ثلاثة غضاريف ، وهذه الغضاريف إنما تتحرك بعضلات كثيرة ، وتلك العضلات إنما تتحرك بالأعصاب والاعصاب نابتة (٣) من الدماغ ـ فثبت أن فاعل الصوت هو الدماغ.

الثانى انا نرى عضل البطن يتمدد (٤) عند التصويت بالصوت العنيف ، وأما القلب فإنه لا يناله التعب عند التصويت.

الثالث أن القلب إذا كشف عنه ثم قبض عليه لم يبطل من الحيوان صوته ، وإن كشف عن الدماغ ، ثم قبض عليه بطل فى الحال صوت ذلك الحيوان ، فثبت أن مبدأ الصوت هو الدماغ لا القلب ، وعند هذا تصير هذه الحجج حجة على أن محل القوة الناطقة هو الدماغ.

والجواب انا بينا بالحجة القوية أن مبدأ الصوت هو القلب.

وأقصى ما فى الباب ان الدماغ محتاج إليه فى هذا الفعل والرية وهذا لا يقدح فى قولنا.

الحجة السابعة أن القلب موضوع فى موضع يقرب من أن يكون وسطا من البدن ، وهذا هو اللائق بالرئيس المطلق (الورقة ٢٧٠ ظ) حتى يكون ما ينبعث منه من القوى يصل إلى جميع أطراف البدن على القسمة العادلة ، والدماغ موضوع فى أعلى (٥) البدن وذلك ينافى حصول

__________________

(١) المخطوطة : خرجت

(٢) أيضا : هو

(٣) أيضا : ثابتة

(٤) أيضا : تتحدد

(٥) أيضا : اعاده

٦٢

هذا المقصود.

الحجة الثامنة الناس يصفون القلب بالذكاء والبلادة ، فيقولون لفلان قلب ذكى ولفلان قلب بليد.

وقال جالينوس : الناس إذا وصفوا إنسانا بأن له قلبا قويا فمرادهم منه الشجاعة.

وإذا قالوا فلان ضعيف القلب أولا قلب له فالمراد هو الجبن ، الجواب أن هذا يدل على أن القلب موضع الغضب ، وهذا لا ينافى أن يكون القلب أيضا موضع الفهم والعلم.

احتج جالينوس بأن معدن الإدراك والفهم هو الدماغ بوجوه :

(الحجة) الأولى (١) ان الدماغ منبت الأعصاب ، والأعصاب آلة الادراك ، وما كان منشأ لآلة (٢) الإدراك وجب أن يكون معدنا لقوة الإدراك ، فهذه مقدمات ثلاثة :

أما المقدمة الاولى فهى ان الدماغ منبت العصب ، والدليل عليه ان الأعصاب الكثيرة موجودة فى الدماغ ، وأما القلب فإنه لا توجد فيه إلا عصبة صغيرة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الدماغ منشأ الأعصاب.

أما المقدمة الثانية وهى أن الأعصاب آلات الحس والحركة الإرادية ، فالدليل عليه انك لو كشفت عن عصبة وشددتها وجدت أسفل ما كان من موضع الشد ، فإنه يبطل عنه الحس والحركة ، وما

__________________

(١) المخطوطة : الاول

(٢) أيضا : للآلة

٦٣

كان اعلى منه مما يلى جانب الدماغ ، فإنه لا يبطل منه الحس ولا الحركة ، وهذا يدل على أن آلة الحس والحركة الإرادية هو العصب.

وأما المقدمة الثالثة وهى أنه لما كان الدماغ منشأ آلة الحس والحركة الإرادية ، وجب أن يكون هو المعدن لقوة الحس والحركة الإرادية ، والدليل عليه أنه لما كان قوة الحس والحركة إنما تصلان من الدماغ ثبت أن المنبع والمعدن لهذه القوة هو الدماغ.

الحجة الثانية وهى التى لحصناها لجالينوس أن نقول لا حاجة بنا إلى بيان أن منبت العصب هو الدماغ أو القلب.

بل نقول لو كانت قوة الحس والحركة الإرادية ، إنما تنفذ من القلب إلى الدماغ ، لكنا إذا شددنا على العصب خطا قويا وجب أن يبقى قوة الحس والحركة من الجانب الّذي يلى القلب ، وأن يبطل من الجانب الّذي يلى الدماغ ، لكن الأمر بالضد فعلمنا أن قوة الحس والحركة الإرادية تجرى من الدماغ إلى القلب ولا يجرى من القلب إلى الدماغ ، وهى الحجة التى لا يحتاج فيها إلى المقدمات التى ذكرناها فى الحجة الأولى وهى فى غاية الحسن.

الحجة الثالثة لجالينوس وهى قوله اتفق الحكماء والاطباء على أن الحامل لقوى الحس والحركة ، جسم لطيف نافذ فى الأعصاب وهو الروح ، فإذا كان الأمر كذلك ، فنقول : الدماغ ، لكونه مبدأ ليكون هذا الروح ، اولى من القلب ، وذلك لأنا نجد فى الدماغ مواضع خالية ، والقلب ليس كذلك فإن التجويف الايمن منه مملو دما (١) ،

__________________

(١) المخطوطة : مملوا

٦٤

وإنما الشبهة فى التجويف الأيسر ، فإنه يعتقد فيه أنه مملو (١) من الروح.

قال جالينوس : وليس الأمر كذلك ، فإن القلب إذا كشف عنه وابرز من غير أن يثقب ويخرق أغشيته ، لم يمت الحيوان فى هذه الحالة ، حتى انك يمكنك أن تبقى ساعة طويلة تلمس ذلك القلب ، وتنظر إليه وهو مكشوف تشاهده وتحس أن نبضه فى هذه الحالة مثل (الورقة ٢٧١ و) نبضه قبل ذلك بل هاهنا شرط وهو أنه لو برد صار النبض بطيئا ضعيفا متفاوتا حينئذ.

إذا عرفت هذا ، فنقول : أنا إذا نقبنا التجويف الأيسر فى هذه الحالة سال منه دم ، ولو كان فيه الروح مملوا به لوجب أن لا يسيل منه دم البتة ، ولو كان هذا التجويف فى بعضه روح وفى بعضه دم لوجب أن يخرج الروح أولا ، ثم يسيل الدم بعده ، وكان يجب أن لا يسيل الدم فى الحال على هذا التقدير. ولما سال الدم فى الحال علمنا أن التجويف الأيسر مملو (٢) من الدم.

وأيضا ، فإن الحيوان الّذي مات نجد فى التجويف الأيسر من تجويف قلبه علق الدم.

وأما الدماغ فإن جرمه مزرد (٣٥ ، فلا يبعد أن يحصل فى تلك الفصول اجزاء الروح.

الحجة الرابعة : العقل أشرف القوى فيجب أن يكون مكانه

__________________

(١) المخطوطة : مملوا

(٢) المخطوطة : مملوا

٦٥

أشرف الأمكنة اعلاها ، فوجب أن يكون مكان العقل هو الدماغ ، وهو بمنزلة الملك العظيم الّذي يسكن القصر العالى ، وأيضا الحواس محيطة بالرأس ، وكأنها خدم للدماغ واقفة حوله على مراتبها.

وأيضا محل الرأس من البدن محل السماء من الأرض ، وكما أن السماء منزل الروحانيات ، فكذلك الدماغ وجب أن يكون مسكنا للعقل.

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه :

الأول لا نسلم أن منبت العصب هو الدماغ ، قوله الاعصاب فيه كثيرة وقوته عند الدماغ ، وقلته (١) وضعفه عند القلب ، ولا يفيد مطامعكم إلا إذا ضممتم إليها مقدمة أخرى ، وهى أن الكثرة والقوة إنما تكون عند المبدأ والقلة (٢) والضعف عند المنتهى ، الا أنا نقول : هذه المقدمة غير برهانية بل هى منقوضة من وجوه :

الأول أن العصبة المجوفة فى العين تكون دقيقة عند المنشأ ، فإذا وصلت إلى قعر العظم الّذي فيه تتكون الحدقة ، غلظت هذه العصبة واتسعت. وهذا نقض على هذه المقدمة.

الثانى ان الجثة التى يتولد منها ساق الشجرة تكون اضعف بكثير من ساق الشجرة ، فلم لا يجوز ان العصبة (٣) الصغيرة التى فى القلب كالجثة التى منها انشعبت الاعصاب الكثيرة فى الدماغ.

الثالث : لو صح كلام جالينوس لوجب ان يقال : ان مبدأ

__________________

(١) المخطوطة : وقلبه

(٢) أيضا : الغفلة

(٣) أيضا : العصب

٦٦

العروق الضوارب هى الشجنة (١) (٣٦ الشبيهة بالشبكة التى فى الدماغ لا القلب ، لأن الشجنة (٢) من العروق الضوارب عدد لا يكاد يحصى وهى فى غاية المشابهة لعروق الشجرة ، فثبت ان تلك المقدمة التى عولوا عليها منقوضة بهذه الصور الثلاثة.

الوجه الثانى : سلمنا ان الكثرة والقوة لا يحصلان الا عند المبدأ الكثير ، ولا نزاع ان القلب منبت الشرائين ، ثم أنه لا شك ان اجرام الشرائين من جنس اجرام الاعصاب واذا كان كذلك لم يبعد ان تنبت الاعصاب منها.

فهذه مقدمات ثلاثة : اما المقدمة الاولى فهى (٣) ان القلب منبت الشرائين ، وذلك متفق عليه.

والثانية ان الشرائين من جنس الاعصاب ، والدليل عليه ان اجرام العروق تتفرق وتنقسم الى الشظايا الكثيفة (٣٧ التى لا حس لها ، وهى نبض تكون (٤) عديمة الدم خلية عن حاسة فى أنفسها ، والاعصاب كذلك (٥) فى جميع الصفات للدليل على أن اجرام الاعصاب غير حاسة فى أنفسها ، إنك إذا شددت العصبة برباط يعنى شدا قويا (الورقة ٢٧١ ظ) صار ما هو أسفل من موضع الشد عديم الحس ، وذلك يدل على أن جوهر العصب فى نفسه غير حساس ، وإنما تحرك (٦) الشد قوة الحس

__________________

(١) المخطوطة : النشجية

(٢) أيضا : النشجية

(٣) أيضا : فهو

(٤) أيضا : كونه

(٥) أيضا : لذلك

(٦) أيضا : يجرى

٦٧

من موضع آخر ـ فثبت ان الشرائين والاعصاب متشاركة فى هذه الصفات ، وذلك يدل ظاهرا على أن جوهر الشرائين من جنس جوهر العصب.

المقدمة الثالثة : وهى فى بيان انه لما كان الأمر كذلك لم يبعد أن يقال : الاعصاب إنما تولدت من الشرائين.

وبيانه أن هذه الشرائين إنما صعدت من القلب إلى الدماغ ، إما لا يصال الدم إلى جوهر الدماغ ، أو لا يصال الروح إليه ـ وعلى التقديرين ، فإن تلك الشرائين الصاعدة لا بد وأن تنقسم وتنشعب وتدق وتصغر وتنتهى فى تشعبها وتصعدها إلى الشظايا (٣٨ اللينية الشعرية ، فعند هذه الحالة لما وصلت إلى قعر الدماغ وأماكن هذه النافذة (٣٩ لم يبعد ان تلف العروق اللينية الشعرية بعضها على بعض ، وتضم أجزاء بعضها على البعض ، وتحصل على صورة شكل الاعصاب ، ثم تحصل نازلة من الدماغ إلى أسفل البدن ، وتستعمل تلك الشظايا فى فعل آخر ، وهو ايصال الأرواح الدماغية إلى اقاصى البدن ، ولا سيما والحكماء والاطباء اتفقوا على مقدمة وهى ان الطبيعة متى امكنها الالتقاء بالآلات القليلة لم تعدل عنها إلى اعداد الآلات (١) الكثيرة ، فبهذا الطريق صارت الشرائين أعصابا.

ولما كان منبت العروق هو القلب وجب أيضا ان يكون منبت الاعصاب هو القلب بهذا الطريق الّذي ذكرناه ـ وهذا قول ذهب إليه طائفة عظيمة من أصحاب أرسطاطاليس.

أجاب جالينوس عن هذا الكلام من وجهين : الأول :

__________________

(١) المخطوطة : آلات

٦٨

قال : الدليل على أن الاعصاب ليست من جنس الشرائين بوجوه :

الأول أن الشرائين نابضة ، والأعصاب ليست نابضة.

الثانى أن الشرائين مجوفة ، والأعصاب ليست مجوفة إلا القليل.

الثالث أن الشرائين محتوية على الدم بدليل أنها إذا ثقبت جلب ذلك الثقب على صاحبه من انفجار الدم أمرا صعبا ، والعصب لا دم فيه البتة.

الرابع : ان الشرائين مؤلفة من طبقتين ـ إحداهما تنحل إلى أجزاء ذاهبة فى العرض على الاستدارة ، والاخرى تنحل إلى أجزاء تذهب على الاستقامة فى الطول ـ وأما العصبة (١) فهى تنحل إلى ليف أبيض عديم الدم ذاهب على الاستقامة فى الطول.

الخامس : إنك إذا شددت العصبة حصل عدم الحس والحركة الإرادية ، ولا تبطل منه حركة النبض ، وإن شددت الشريان بطل النبض ولم يبطل الحس والحركة.

السادس أن العصب يمسك عن فعله كثيرا ـ ألا ترى أن العصبة التى فيها تجرى القوة (٢) الباصرة إلى سطح الجليدية قد تقف عن فعلها فى وقت النوم ، وكذا القول فى ساير الحواس الظاهرة ـ وأما الشرائين (٣) فإن فعلها ذلك دائم ، فثبت بهذه الوجوه أن الشرائين ليست من جنس الأعصاب.

الثانى من الجواب عن هذا الكلام ، قال جالينوس : ان اصل

__________________

(١) المخطوطة : العصبية

(٢) أيضا : الروح

(٣) أيضا : الشريان

٦٩

الشريان المتولد من القلب ينقسم إلى قسمين ـ قسم يصعد إلى جانب الرأس ، وقسم ينزل إلى أسفل البدن ـ والقسم النازل إلى أسفل البدن ، لا نشك انه ينقسم ويتفرق إلى العروق الدقائق ، ثم انه يعدم [بعد ما] (١) (الورقة ٢٧٢ و) صارت اعصابا ، فوجب أن يكون الحال فى الشرائين الصاعدة إلى الدماغ النافذة فيها كذلك أيضا.

قال أصحاب أرسطاطاليس : أما الجواب الأول فهو فى غاية الضعف ، وذلك لأن الصفات التى ذكرتموها للشريان ، إنما تكون حاصلة حال صعودها إلى الدماغ ، ونفوذها فى جوهره.

اما لم قلتم أنها بعد رجوعها عن جوهر الدماغ وتوجهها إلى أسفل البدن تبقى على تلك الصفات؟ وبيانه أن المقصود من تخليق الشريان على تلك الصفات التى ذكرتموها أن يكون لاصعادها الدم إلى الروح من القلب إلى جوهر الدماغ ، فإذا حصل هذا المقصود ، واصاخت الطبيعة إلى اعداد آلة أخرى فى إيصال جوهر الروح من الدماغ إلى أسفل البدن ، وإن تلك الشظايا لا تصلح لأن تكون آلة فى هذا الفعل إلا عند إبطال تلك الصفات عن تلك الشظايا ، لم يبعد أن تحاول الطبيعة أبطال تلك الصفات عنها ، وتحصل صفات أخرى موافقة لهذا الفعل الثانى ، هذا غير مستبعد فى الجملة ، وكيف لا نقول ذلك ، وهذه الشرائين عند نفوذها فى جوهر الدماغ ، لا شك أنها تنقسم وتتصغر جدا ، فلا يبعد ان تؤثر فيها طبيعة جرم الدماغ ، من تلك الصفات إلى صفات أخرى لائقة بالفعل الثانى ، لا سيما وانها لما تصغرت جدا

__________________

(١) العبارة غير واضحة

٧٠

لم يبق بينها وبين الشظايا العصبية فرق البتة ـ وعلى قولنا تبقى هناك ، إلا أن تلك العروق المتصغرة جدا إذا رجعت من الدماغ متوجهة إلى اسفل البدن اشبهت فى الحس بالخيوط الصغيرة المضمومة بعضها إلى بعض ـ ويتولد من مجموع تلك الخيوط الصغيرة هذه الاعصاب المخصوصة المحسوسة ، فهذا الاحتمال لا يبطل البتة بما ذكره جالينوس.

وأما قوله الثانى فهو أيضا ضعيف ، لأن الأرواح القلبية كما صعدت إلى جوهر الدماغ فى تلك الشرائين المتصغرة جدا ، وبقيت فى ذلك الجوهر تغيرت تلك الشرائين عن طبائعها بسبب نفوذها فى جوهر الدماغ واختلاطها بذلك الجوهر ، ثم كانت الطبيعة محتاجة إلى أعداد آلة لا يصال تلك الأرواح الدماغية من الدماغ إلى أسفل البدن ، فحينئذ لم يبعد أن تجدها الطبيعة آلات لهذا الفعل الثانى بخلاف الجزء النازل من الشرائين إلى اسفل البدن ، فإنها ما اتصلت بعضو أخر يغيرها عن طبائعها ، وما حصلت فى أسفل البدن حاجة تقتضى إيجاد تلك الشظايا الشريانية آلات لتلك ـ يظهر الفرق بين الصورتين ، فهذا تمام كلام أرسطو على دليل جالينوس فى أن منبت العصب الدماغ.

ثم أحتج أصحاب أرسطو على أن منبت العصب هو القلب ، بأن قالوا أن الحركة الإرادية لا بد وأن تكون بآلة صلبة قوية ، والدماغ ليس بجرمه شيء من الصلابة.

أما القلب ففيه أنواع من الصلابة : منها أن لحمه شديد قوى صلب أصلب من سائر اللحوم ،

٧١

ومنها أن فيه من الرباطات [والعضلات] مقدارا كثيرا.

ومنها أنه لما كان دائم الحركة وجب أن يكون جرمه أقوى الأجرام اللحمية ، وإذا كان كذلك [فمن] جعل القلب منبت الاعصاب التى هى آلات الحركات القوية ، أولى ممن جعل الدماغ منبتا لها.

(الورقة ٢٧٢ ظ) أجاب جالينوس عن هذه الحجة من وجهين :

الأول أن هذا قياس يدل على أن منبت العصب هو القلب ، والحس يدل على أن منبت العصب هو الدماغ ، والحس أقوى من القياس.

الثانى أن الهيولى لتحريك الأعصاب ليس هو العصب بل هو العضلات ، والعضلات مركبة من الاعصاب والرباطات والاغشية واللحوم ، وهى مستندة إلى العظام والاعصاب تفيدها قوة الحس والحركة الإرادية ما تختلط بها من الرباطات والأغشية (١) تفيدها القوة والشدة والأمن من الانقطاع ، وعلى هذا التقدير فإنه لا يمتنع كون الدماغ منبتا للاعصاب.

قال أصحاب أرسطاطاليس : أما الجواب الأول فضعيف ، لأن الحس لم يدل إلا على كثرة الأعصاب وقوتها عند الدماغ (٤٠ وقلتها وضعفها عند القلب.

وقد بينا أن هذا القدر لا يدل على كون الدماغ منبتا للاعصاب.

وأما الثانى فضعيف جدا لأن جالينوس احتج بغلظ العصب وكثرته على تولده منه.

__________________

(١) المخطوطة : اغشية

٧٢

وأصحاب ارسطو عارضوه فقالوا : إن كان هذا الوجه يدل على قولكم بأن كون الدماغ لينا والعصب قويا يمنع من تولده منه ، بل كون العصب قويا صلبا (٤١ مع كون القلب قويا صلبا يدل على كون العصب نابتا من القلب فسقط كلام جالينوس بالكلية.

فهذا خلاصة المناظرة الدائرة بين الفريقين فى أن منبت العصب هو الدماغ أو القلب.

النوع الثانى من الجواب عن شبهة جالينوس

أن نقول : سلمنا أن منبت العصب من الدماغ ، وسلمنا أن العصب آلة الحس والحركة ، لكن لم قلتم أنه يلزم من كون الدماغ معدنا لقوة الحس والحركة الإرادية.

فبيانه أنه لا يبعد أن يكون معدن الحس والحركة هو القلب وهو معدنه ، ثم أن الدماغ ينقل إلى القلب آلة ثانية منه ليستفيد بتلك الآلة قوة الحس والحركة من القلب ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما سقط كلام جالينوس بالكلية.

أما الجواب عن الحجة الثانية فى نصرة قول جالينوس ، وهى التى لخصناها ، أن نقول لم لا يجوز أن يقال أن الروح القلبى يكون فى غاية الحرارة. فإذا كان بينه وبين الدماغ منفذ مفتوح وصل تبريد الدماغ إليه فاعتدل واستعد لقبول قوة الحس والحركة. فأما إذا افسد المنفذ انقطع أثر تبريد الدماغ ، فلا جرم لم يبق مستعدا لقبول قوة الحس والحركة. فبطلت هذه القوة من الجانب الّذي يلى القلب ، وإنما لم يبطل من الجانب الّذي يلى الدماغ ، لأن الشرائين فى الدماغ

٧٣

كثيرة جدا وكلها مؤدية إليه قوة الحرارة من القلب إلى الحس والحركة

وأما الجواب عن الحجة الثالثة فهو أن نقول هذا الكلام إن صح فهو يقتضي أن لا يكون فى القلب روح أصلا. وجالينوس لا ينازع فى كون القلب معدنا للارواح الحيوانية ، ويسلم أن الروح الحيوانى إنما يصعد من القلب إلى الدماغ ، ويصير هناك روحا نفسانيا نطقيا.

وأما الجواب عن الحجة الرابعة فهو أن نقول إنها من الاقناعيات الضعيفة ، وقد ذكرنا من جانبنا [حججا اقناعيات (الورقة ٢٧٣ و) من] جنسها بل أقوى منها ، فهذا آخر الكلام المنقح فى هذه المسألة.

واعلم أن جالينوس صنف كتابا سماه ابقراط وافلاطن ، ومقصوده ليس إلا هذه المسألة ، وهو كتاب طويل ، وقد طالعته واستخرجت زبدة كلامه وضممت إليه وجوها كثيرة ، كما ترى ، واوردته هاهنا.

الفصل السابع

فى شرح قوى النفس

اعلم ان النفس الانسانية لها قوى نباتية ، وقوى حيوانية ، وقوى انسانية.

فاما القوى النباتية : فاعلم ان جسد الانسان مخلوق من المنى ودم الطمث ، وهما جوهران حاران رطبان فبدن الانسان ما دام يكون حيا يكون حارا رطبا ، والحرارة اذا عملت فى الرطوبة اصعدت

٧٤

عنها الحرارة بسبب تصاعد تلك الاجزاء البخارية عن ذلك الجوهر ، فبسبب ذلك يقع فيه الذبول والانحلال ، فدبر الخالق الحكيم فى تدارك ذلك فاودع فيه القوة الغاذية حتى انها تورد من اجزاء الغذاء ما يقوم بدل تلك الاجزاء المتحللة.

اذا عرفت هذا فنقول : لا بدّ من قوة جاذبة للغذاء وقوة ماسكة له لتبقى تلك الاجزاء المجذوبة ، ومن قوة يتصرف فيها ويحللها الى موافقة بدل المغتذى ، ومن قوة دافعة لتدفع الاجزاء الفضلية (١) التى هى غير ملائمة لبدن المغتذى ، ثم اذا حصلت تلك الاجزاء الصالحة لأن تقوم مقام الاجزاء المتحللة ، ولا بد من قوة تقيم بدل تلك الاجزاء المتحللة ، وهذا الفعل انما يتم بامور ثلاثة :

احدها ان تورد تلك الاجزاء الغذائية على جواهر تلك الاعضاء.

وثانيها ان تلصقها ،

وثالثها ان تشبهها بها.

وبمجموع هذه الافعال الثلاثة يحصل بعد الاغتذاء من اقطار هذه الثلاثة ، وهى فعل الانماء وقوة أخرى تنفصل من تلك الاجزاء الغذائية بعد وصولها الى جواهر الاعضاء وسيرتها من التشبيه بها ، وتوزع منها قوة مولدة وهى فعل التوليد ، فالقوى النباتية هى هذه التى عددناها.

ثم من الحكماء من زعم ان هذه قوى مختلفة متباينة بناء على ان

__________________

(١) المخطوطة : العضلية

٧٥

الواحد لا يصدر عنه الا الواحد ، ومنهم من قال انه ليس هناك إلا قوة واحدة الا انها تختلف افعالها بسبب الشرائط ، ففى الابتداء تجذب وبعد الجذب تمسك ، وبعد الامساك تتصرف بها آثار الهضم والاحالة ، وبعد هذا الفعل تدفع الفضول الموذية ، وانها فى تصرفها بعد تحصيل جوهر الدم تورد تلك الاجزاء الدموية النضيجة على جواهر الاعضاء الاصلية ، ثم تلصقها بها ، فالقوة واحدة لكن اختلفت افعالها لاجل اختلاف شرائطها واحوالها.

واما القوى الحيوانية فهى إما ان تكون محركة او مدركة ، فان كانت محركة ، فهى اما مباشرة للتحريك او باعثة عليه ، اما المباشرة للتحريك فهى القوى الموجودة فى العضلات التى من شانها ان تحركها تارة الى الجذب وتارة الى الدفع.

واما الباعثة فلها مراتب : المرتبة الاولى من تلك القوى العضلية هى الإرادة الجازمة ، والشوق الجازم ، وهذه الإرادة الجازمة انما تتولد من شهوة القوة علقة تجذب الملائم او من غضب يتعلق (١) بدفع المنافى ، وهذه الشهوة والغضب انما يتولدان من شعور (الورقة ٢٧٣ ظ) الانسان يكون الشيء ملائما او بكونه منافيا ، فإن حصل الشعور يكون الشيء ملائما ترتب عليه الميل عن هذا الشعور ، وان حصل الشعور بكونه منافيا ترتب الغضب على هذا الشعور ،

ثم هذا الشعور قد يكون مختلفا (٢) وقد يكون فكريا.

اما القوى المدركة ، فهى إما القوى المدركة الظاهرة وهى الحواس الخمسة ، (٣) وإما القوى المدركة الباطنة وهى عندهم خمسة ـ

__________________

(١) المخطوطة : متعلق

(٢) أيضا : مختلفا

(٣) أيضا : الخمس

٧٦

وطريق الضبط ان نقول : هذه القوى الباطنة إما مدركة ، وإما متصرفة.

اما المدركة ، فإما ان تكون مدركة (١) لصور المحسوسات ، وهى القوى التى تجتمع فيها صور الحواس الخمسة وهى المسماة عندهم بالحس المشترك ـ وإما ان تكون مدركة للمعانى الجزئية التى لا تكون محسوسة لكنها تكون قائمة بالمحسوسات ، وهو مثل حكمنا بأن هذا الشخص صديق وذاك الآخر عدو ، وهذه القوة هى المسماة بالوهم ، ثم لكل واحد من هاتين القوتين خزانة ، فخزانة الحس المشترك هو الخيال ، وخزانة الوهم هى الحافظة ، والمجموع أربعة.

وأما المتصرفة فهى القوة التى تتصرف فى هذه الصور الجزئية ، والمعانى الجزئية بالتركيب تارة والتحليل أخرى ، وهى المسماة بالقوة المفكرة ، فهذه هى الحواس الخمسة (٢) الباطنة.

وأما النفس الإنسانية فقالوا : لها قوتان : نظرية وعملية (٣).

وأما النظرية فهى القوة التى باعتبارها يستعد جوهر النفس لقبول الصور الكلية المجردة.

وأما العملية (٤) فهى القوة التى باعتبارها يستعد جوهر النفس لتدبير هذا البدن ، والقيام باصلاح مهماته ، فهذا القول فى ضبط القوى النفسانية.

وأعلم أن الفلاسفة فرعوا هذه الاقوال على القوى ، فاسندوا كل فعل على حدة إلى قوة على حدة ، ثم زعموا أن بعضها قوى

__________________

(١) المخطوطة : يكون مدرك

(٢) أيضا : الخمس

(٣) أيضا : علمية

(٤) أيضا : العلميه

٧٧

جسمانية ، وبعضها قوى روحانية ، أما نحن فقد أثبتنا فى جملة كتبنا أن جميع هذه الإدراكات لجوهر النفس وجميع هذه الأفعال لجوهر النفس ، وكل عضو من اعضاء البدن فهو آلة النفس بحسب فعل خاص من أفعالها. فآلة النفس فى الأبصار هى (١) العين ، وفى السماع هو الاذن ، وفى النطق هو اللسان ، ولما قررنا الدلائل الدالة على تصحيح هذا الفعل (٢) فى كثير من كتبنا لم يكن بنا حاجة إلى الاعادة فى هذا الباب.

الفصل الثامن

فى بحث يتعلق بالألفاظ والعبارات

هاهنا الفاظ أربعة (١ : وهى النفس والعقل والروح والقلب.

وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها جوهر النفس ، وقد تذكر والمراد منها (٣) غير ذلك.

وأما النفس فقد يذكر ويراد بها الأخلاق الذميمة ، والعقل يذكر ويراد به العلوم الضرورية ، والروح يذكر ويراد به العضو المخصوص المحسوس ، فلتكن هذه الاصطلاحات معلومة لئلا يقع الحبط بسبب اشتراك الألفاظ.

__________________

(١) المخطوطة : ففى

(٢) أيضا : الفصل

(٣) أيضا : فيها

٧٨

الفصل التاسع

فى نسبة هذه القوى إلى جوهر النفس

اعلم أن العلماء ذكروا فى هذا الباب أمثلة كثيرة :

المثال الأول (١ هو أن جوهر النفس كالملك والبدن مملكته ، ولهذا الملك جندان (٢ جند يرى الأبصار وهو الاعضاء الظاهرة ، وجند يرى بالبصائر وهى القوى المذكورة.

واعلم أن لوجود هذه القوى (الورقة ٢٧٤ و) المعنوية فى تكميل مصالح النفس وفى تكميل مصالح البدن (قوة) اخرى.

أما النوع الأول من المعنوية فهو أن كمال النفس الناطقة فى أن تعرف الحق لذاته والحيز لأجل العمل به ، لكن عمل الحيز مشروط أيضا بنور العرفان ، فاهم المهمات للنفس اكتساب العرفان ، إلا أنها خلقت فى مبدأ الأمر خالية عن معرفة أكثر الأشياء لكنها أعطيت الحواس الظاهرة والباطنة حتى أن النفس إذا أحست بواسطة هذه الحواس بالمحسوسات تنبهت لمشاركات بينها وبين مبانيات فتتميز (١) عند جوهر النفس عما به اشتراك تلك الاشياء (و) عما به امتيازها ، وحينئذ يحصل فى النفس تلك الصورة المجردة.

ثم أن تلك الصورة على قسمين : منها ما يكون مجرد تصوراتها موجبا جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض بالنفى والاثبات. ومنها ما لا يكون كذلك ، والأول هو البديهيات ، ولا بد من الاعتراف

__________________

(١) المخطوطة : فتتحيز

٧٩

بوجودها. إذ لو لم يكن لها وجود لافتقر جزم الذهن فى كل قضية إلى الاستعانة بغيرها ، فيلزم إما الدور وإما التسلسل.

القسم الثانى : وهو الّذي لا يكون مجرد تصورها موجبا جزم الذهن فيها بالنفى والاثبات. وهى العلوم المكتسبة النظرية ، فثبت أنه لو لا هذه الحواس لما تمكنت النفس من تحصيل المعارف البديهية ولا النظرية. ولذلك قيل : من فقد حسا فقد علما ، فهذا بيان معونة الحواس فى تكميل جوهر النفس ، وأما معونتها فى تكميل جوهر البدن وذلك لأنا لما بينا أن البدن بكونه حارا رطبا يكون أبدا فى التحليل والذبول ، ولأجل هذا السبب يحتاج إلى ايراد بدل ما يتحلل عنه ، ولا بد من التمييز بين ما يكون ملائما وبين ما يكون منافيا.

فهذه الحواس لها معونة فى أن يحصل للإنسان وقوف على ما ينفعه ويضره ، فحينئذ يشتغل بجلب المنافع ودفع المضار ، فهذا بيان معونة الحواس فى تكميل جوهر البدن.

وأعلم ان السعى فى إصلاح مهمات جوهر النفس ، وذلك لأن النفس إنما دخلت فى هذا العالم الجسمانى لتكتسب العلم النافع والعمل الصالح ، وكل آلة النفس فى هذا الاكتساب هو هذا البدن ، وما لم تكن الآلة صالحة لم يقدر المكتسب على الاكتساب ، فثبت ان الاشتغال بإصلاح مهمات البدن سعى فى إصلاح مهمات النفس.

المثال الثانى : القلب فى البدن كالوالى وقواه وجوارحه بمنزلة الملك والقوة العقلية المفكرة (٣ كالمشير الناصح ، والشهوة كالعبد (١) الّذي يجلب الطعام إلى المدينة ، والغضب كصاحب الشرطة ، ثم إن

__________________

(١) المخطوطة : كالعبيد

٨٠