النفس والروح وشرح قوامها

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

النفس والروح وشرح قوامها

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور محمد صغير حسن المعصومي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: الأبحاث الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢١٨

اما العلة الاولى وهو استشعار الكمال فيندفع بأن يعلم الممدوح انه غير صادق لكنه قصير بهذه (١) الجهة ، مختصر بجهة أخرى (٢) وهى أن الممدوح يعلم ان أقدام هذا المادح على الكذب وعلى إظهار هذا الخضوع ليس إلا لاستماحته وجذبه إليه بكونه يحب تسخيره ويكرمه وذلك أشعار لحصول القدرة من بعض الوجوه ، فإن اعتقد الممدوح أن هذا المادح لم يقل هذا المدح عن الحاجة والضرورة انقلب إلى محض السخرية والاستهزاء بالممدوح.

(الفصل الحادى عشر)

فى علاج حب الجاه

قد عرفت أنه لا معنى للجاه إلا ملك قلوب الناس ، وهذا وإن كان لذيذا نظرا إلى حصول القدرة التى هى من صفات الكمال يلزمه لوازم مكروهة :

الأول إن طلب المال وطلب الجاه انفعال للنفس ، وتأثر فيها بحب المال وحب الجاه ، والانفعال والتأثر من صفات الهيولى وقابلية العدم. (الورقة ٢٨٦ ظ) وعدم الالتفات إلى المال.

والجاه عبارة عن قوة فى النفس وشدة باعتبارها يمتنع من الانفعال من الغير وهذا هو صفة واجبة الوجود ، فالحاصل ان طلب

__________________

(١) المخطوطة : هذه

(٢) أيضا : مختصرة بجهته أخرى

١٤١

الجاه طلب للقدرة ، والقدرة كمال فى الصفة ، وتأثر النفس لهذا الطلب يدل على كون الذات منفعلة ومتأثرة وهو نقصان فى الذات ، وإذا وقع التعارض بين النقصان فى الذات والنقصان فى الصفة ، فإن الأول أولى بالدفع.

الثانى أن طلب الجاه لا يمكنه تحصيله إلا بتحصيل موجباته ، وتلك الموجبات هى إن ظهرت (١) لهم أبدا ما يعتقدونه فضيلة عن كل ما يعتقدون كونه رذيلة وذلك بدون النفاق ، وأصل الفساد ، فإن هذا الإنسان ان لقى أهل التشبيه ولا بد أن يظهر من نفسه الميل إلى التوحيد ، وقس على هذا المثال جميع الأحوال المتباينة فى الدين وفى الدنيا ، ثم إذا أنى بهذا النفاق القبيح بقى أبدا فى خوف أن يفتضح ويظهر نفاقه فيرجع (٢) عنه جميع الفرق ، والنفس إذا وقعت فى هذه الدركات فقد ضلت وخسرت وصارت من الهالكين.

الثالث ان ملك القلوب ان سلم هذه المحنة فآخره الموت بل لو سجد (١ لك كل من فى المشرق والمغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له بمثل هذه السعادة المشرفة على الزوال ، فلا ينبغى أن يرجح على السعادة الباقية أبد الآباد ، وهذا العلاج لا يتم إلا إذا نسبت مدة الحياة إلى ما سيجيء من غير الابد ، وذلك إنما يكون باستحقاق معنى الابد على الوجه الّذي لخصناه.

الرابع وهو أن الجاه معناه التفرد بالحكم والاستيلاء والاستعلاء ، ومعلوم انه إن حصل لك هذا المعنى بقى كل من سواك (٣) محروما

__________________

(١) المخطوطة : ظهر

(٢) أيضا : فرجع

(٣) أيضا : سؤال

١٤٢

عنه ، والحرمان عما يكون مطلوبا مكروه بالذات.

إذا عرفت هذا ظهر عندك حال كل من سواك من أهل المشرق والمغرب ، انهم ينازعونك فى طلب الجاه ويحاولون (١) دفعك عنه ومنعك من الوصول إليه ممن طلب الجاه ، فقد ألجأ كل من سواه من أهل المشرق والمغرب إلى عداوته ومنازعته وإبطال حياته وإبطال جميع كمالاته ، ومعلوم أنك واحد منهم ، ولو قدرت على المقاومة (٢) لم تقدر إلا على مقاومة واحد أو الاثنين ، وإذا اجتمع قوم على مقاومتك قهروك ولا سيما إن اجتمع أهل المشرق والمغرب فلا بد وان يقهروك وأن يوصلوا إليك كل شر ومحنة ، اللهم إلا إذا صرت مؤيدا بالتأييدات الإلهية السماوية أو الاتفاقات الفلكية الغربية النادرة حتى تنجو (٣) منهم مدة قليلة إلا أن النادر لا عبرة به والمرجوح.

فثبت أن من طلب الجاه فكأنه حرك البحر الأعظم من الآفات ، ويهدف لأن يحته الموج من كل جانب من غير أن يكون له عن ذلك مهرب ، ولا دافع ، وذلك مما لا يقدم عليه العاقل.

الخامس وهو أن حصول الجاه مبنى على ميل القلوب ، وميل القلب إلى الاعتراف بفضيلة الغير لا يحصل إلا عند الاعتراف بفضيلته هو الأمر العرضى ، ولا سيما من العرض السريع الزوال ، ولهذا السبب كان الأصل فى اعتقاد الإنسان فى كون غيره أفضل منه هو العدم ، فإن حصل فيزول عن قريب ، ولما كان مدار الجاه على هذا

__________________

(١) المخطوطة : ويحاولو دفعك

(٢) أيضا : على المساومة الخ

(٣) أيضا : حتى تنجوا منهم

١٤٣

الحرف وهو سريع الزوال ، والذاتى أقوى من العرضى ولا سيما من العرض السريع الزوال ، ثم بتقدير أن ينقلب الإنسان من لذة الجاه إلى ذلة الرد وعدم الجاه كانت تلك المشتقة فى النهاية (الورقة ٢٨٧ و) القصوى من الأسف واللذة الحاصلة من وجدان ذلك الجاه لا تقر (١) بهذه المذلة ، وثبت أن الأولى ترك طلب الجاه.

السادس ان لذة الجاه هو اقبال النفس على عالم المحسوسات ، واشتغال باللذات المقتبسة منها ، وهى مانعة للنفس عن الإقبال على عالم الروحانيات ، والاشتغال بتلك اللذات العالية ، وقد عرفت إنه لا مناسبة بين اللذات الفائضة من عالم الروحانيات إلى هذه اللذات الجسمانية.

السابع أن لذة الجائع ليست لذة ظاهرة قاهرة تزيل عن القلب طلب اللذات الشهوانية ، لكن طلب لذة الجاه لا سبيل له إلى وجدانها إلا بترك اللذات الشهوانية مع كونه متذاكرا لها راغب النفس فيها ـ فهذا الشخص وإن سعد بوجدان لذة الجاه لكنه شقى بفقدان لذة الشهوة ـ ففقد الخير والمقابلة كأنه لا لذة أصلا ، أما الالتذاذ بالإقبال على عالم الروحانيات فهو التذاذ قاهر قوى لا يبقى معه شعور بشيء من الجسمانيات فضلا عن الميل إليها والرغبة فيها ، فاللذات العقلية خالصة عن مخالطة شيء من آلام ، ولذة الجاه مخلوطة بألم فقدان الشهوات ، فكان الأول أفضل.

الثامن أن صاحب الجاه ، فإن كان يتخيل انه ملك قلوب الخلق إلا انه مخطئ ، بل هو فى الحقيقة مهان مملوك لكل الخلق ، لأنه إذا

__________________

(١) المخطوطة : لا تقى

١٤٤

مال قلبك إلى أن يعتقد (١) أهل العالم وتحكم عليهم فقد صرت كالخائف الوجل من أن تقدم على أن ينفر كل واحد منهم عن الانقياد لك وتخرجه عن ربقك (٢) ، والمشتغلين بخدمتك ، وذلك يوجب أن تكون أبدا دائم التفحص عن أحوالهم ، دائم البحث عن مراداتهم ومكروهاتهم حتى تكون مواظبا على مراداتهم ، فقد صرت كالعبد الاسير لكل واحد من اولئك المريدين ، ولو أخبرت بأن واحدا منهم رجع عن إرادتك وأعرض عن مبايعتك لتألم قلبك وتشوش فكرك.

فثبت أن من جعل نفسه شيخا لطائفة فهو فى الحقيقة صار كالعبد القن لكل واحد منهم ، لا يلتذ إلا بالإقبال عليهم ، ولا يغتم إلا باعراضهم وأما أولئك المريدون (٣) فإن كل واحد منهم ليس إلا فى قيد ذلك الرجل الواحد ، فهذا المريد ليس إلا عبدا لرجل وأما ذاك المراد فهو عبد لكل واحد من أولئك المريدين ، فهكذا (٤) صاحب الجاه حاول ملك القلوب وهو فى الحقيقة بلغ فى المملوكية إلى أقصى الغايات وفى العبودية إلى أبلغ النهايات.

التاسع أن صاحب الجاه لا ينقذ حاله عن أحد أمرين ، إما فى التزين للخلق واستخراج الطرق الجالبة لقلوبهم إليه ، وإما فى رفع الأمور التى تنقص تأثير الجلالة عليه.

إذا عرفت هذا ، فنقول : أما الطرق الموجبة لحب الجاه فليست

__________________

(١) المخطوطة : يفتقد

(٢) أيضا : وتخرجه عريص والمشتغلين الخ

(٣) أيضا : المريدين

(٤) أيضا : فها كذا

١٤٥

إلا إظهار ما يعتقد الناس كونه فضيلة ، والأمور التى يعتقد الناس فيها أنها فضائل مختلفة بالبلدان والازمان والأمزجة والاصناف والعادات وليس لها ضابط معلوم ولا قانون معين ، ولما كان كذلك كانت الطرق الموجبة لزوال الجاه أيضا غير مضبوطة ، فصاحب الجاه مشغول الفكر يضبط ما لا ضبط له فى الإيجاد وفى الاعدام ، وذلك يستدعى توقيف الفكر وحبس النفس وشغل الهم وذلك يصده عن جميع خيرات الدنيا والآخرة ، فيبقى عمره فى استخراج الحيل التى يكون هو عالما بكونها من الأباطيل والأضاليل وينقضى عمره فى الخوف أن يحضر أحد يهتك ستره فيها ويكشف عن فضيحته ، ومعلوم أن ذلك بلاء لا بلاء فوقه (الورقة ٢٨٧ ظ) ولا عناء أزيد منه.

العاشر أن كل من كان أكثر التذاذا بالجاه فإذا بقى محروما عنه كان تألمه بفقدانه أشد وأشق ، ولما تقابل هذا الوجدان بضرب من الحرمان فقد تعارضا وتساقطا ، فوجب البقاء على الحالة الأصلية ، فهذا هو الإشارة إلى العلاجات العملية.

١٤٦

(الفصل الثانى عشر)

وأما العلاجات العملية ، فهى من وجوه :

الأول مباشرة أعمال مباحة (١ يلام الإنسان عليها حتى يسقط من أعين الناس ويزول عنه لذة القبول ، ويأنس بالخمول ، وهذا هو طريق أصحاب الملامتية على أن فيهم من يقدم على صفة الفواحش ليسقطوا أنفسهم عن أعين الناس فيسلمون من آفات الجاه.

وقال الغزالى : وله شرائط :

الأول أن هذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين فى قلوب المسلمين.

الثانى لا يجوز (٢ أن يقدم على المحرمات لهذا الغرض بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس.

روى أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد ، فلما علم تقربه منه أسرع إلى طعام عنده وجعل يأكله بشره ويعظم اللقمة ، ويتضاحك على الاكل ويصفق بيديه فلما نظر إليه الملك سقط من عينه وانصرف ، فقال الزاهد : الحمد لله الّذي صرفك عنى.

أما العلاجات العملية : إذا أراد الإنسان علاج هذا المرض ، فإما أن يكون فى الموضع الّذي عرفوه فيه بالجاه وعلو القدر أو فى موضع ما عرفوه بذلك.

أما القسم الأول ، فلا سبيل إليه إلا بطريقين ـ إما باعدام ما يوجده أو بايجاد ما يعدمه.

١٤٧

أما الأول ، فنقول : لا شك أن الموجب لحصول الجاه ليس إلا اظهار الفضيلة فمن أراد علاج هذا المرض فليترك إظهار تلك الفضائل التى بإظهارها يتوسل إلى اكتساب ذلك الجاه ، فإن لم ينفع ذلك فى هذا الغرض فليظهر أمورا يظن بها أنها اضداد تلك الفضائل ، فإن الضد الطارئ لا بد وأن يزيل الضد السابق.

وأعلم أنه كما يمكن إظهار ما ليس بفضيلة بحيث يظن به فى الظاهر أنه فضيلة كذلك يمكن إظهار ما يكون فى نفسه فضيلة بحيث يظن به فى الظاهر أنه رذيلة ، فإن من أكل الطعام الكثير مع إظهار الشره والضحك ومن أظهر التصفيق والرفض والعدو والتشبه بأفعال الصبيان والمجانين وكانت نيته فى تلك الأفعال إزالة حب الجاه واخلاص السر لله تعالى كانت تلك الافعال فى الحقيقة من أعظم الفضائل ، وإن كان يظن بها أنها من الرذائل ، كما أن من واظب على الصلوات والصيامات لقصد جلب قلوب الناس كانت تلك الأعمال فى الحقيقة من أعظم الرذائل ، وأن يظن بها أنها من الفضائل.

وأما القسم الثانى ، وهو أن يريد إزالة الجاه فى موضع لا يعرف بالجاه ، فهذا لا طريق إليه إلا أن يسافر الإنسان إلى بلد لا يعرفونه ولا يطلعون على أحواله ، ثم يخلط نفسه بالعوام ولا يأتى بفعل يميزه عن العوام ، ويدل على فضيلته ، فإذا فعل ذلك فقد يخلص عن آفات الجاه بالكلية.

ويقال ان كيخسرو (١) الملك لما ملك الأرض تاقت نفسه إلى العالم الالهى ، وعلم أنه لا سبيل إليه بالجمع بين الملك وذلك الأمر ،

__________________

(١) المخطوطة : كيخسرو

١٤٨

فترك مملكته وسافر إلى موضع لم يعرف أحدا إلى أين ذهب واشتغل بنفسه فهذا هو الطريق فى هذا الباب.

(الفصل الثالث عشر)

(الورقة ٢٨٨ و) بيان العلاج لكراهة الذم

اعلم أن أفعال أكثر الخلق موقوفة على ما يوافق رضى الناس رجاء المدح وخوف الذم ، وطريق علاجه من وجوه :

الأول ـ ان الصفة التى يمدح الإنسان بها إما أن تكون موجودة أو معدومة ، فإن كانت موجودة فإما أن تكون موجبة للمدح فى نفس الأمر أو لا تكون موجبة ، فإن كانت موجودة وكانت موجبة للمدح وجب أن لا يحصل الفرح بهذا المدح لوجوه :

أحدها ان ذلك انعام من الله تعالى يوجب الشكر ، والظاهر أن الإنسان لم يقم لشكره كما ينبغى ، فهذا الإنسان يجب أن يكون خوفه من التقصير عن القيام بشكر الله بتلك النعمة يمنعه عن الفرح لحصولها خوفا من أن العواقب غير مستقرة ، فلعلها تزول ، فوجب أن يكون خوف زوالها مانعا عن الفرح بها وبحصولها.

وثانيها وهو ان فرحك بمدح هذا المادح مما يذهلك عن ذكر الله تعالى ، فإن كان حصول تلك الصفة توجب الفرح فحصول العائق عن ذكر الله تعالى يوجب الغم ، والفرح إذا أوجب الغم كان وجوده مفضيا إلى عدمه.

١٤٩

وثالثها أن المؤثر فى حصول تلك الفضيلة جود الله تعالى فى تخصيصك بتلك النعمة ، وأما قول المادح فهو اخبار صدق عن حصوله ، وذلك تابع له ، والمؤثر فى الشيء أقوى من الأثر الّذي يكون نافعا له ولا يختلف حاله بوجوده ولا بعدمه ، فوجب أن يكون استغراق الإنسان فى معرفة أن الله تعالى خصصه بتلك النعمة الجسيمة يذهله عن الفرح بالمدح.

وأما ان لم يحصل فى قلبه شعور بأن ذلك من انعام الله تعالى فوجب أن يكون حسرته بسبب هذه الغفلة أقوى من فرحه بسبب حصول تلك النعمة.

ورابعها ان حصول تلك الصفة المحمودة بدون ذكر الذاكرين له نعمة من الله تعالى عليه ، لأنه يصير خاليا عما يوجب العجب والكبر والتيه وحصولها ، مع ما يوجب تلك الأخلاق الذميمة المهلكة ، ولا شك أن حصول تلك النعمة خالية عن كل الآفات أحب وأفضل من حصولها مقرونة بالآفات المهلكات فوجب أن لا يكون الحمد محبوبا.

وخامسها ان شعور الانسان بحصول تلك الفضيلة حال ما كانت خالية عن مدح المادحين يوجب توجه القلب إلى فضل الله تعالى وانعامه على العبد وشعوره بحصولها حال كونها مقرونة بمدح المادحين يوجب انصراف القلب عن الحق إلى الخلق ، ولا شك ان الاول اولى.

اما القسم الثانى إذا مدح بصفة حاصلة فيه إلا ان تلك الصفة لا توجب المدح فى الحقيقة بل هى من جملة ما يوهم انها توجب المدح

١٥٠

بالقوة والنحل (١) والنسب.

وعلاجه أن يتأمل فى البراهين الدالة على انها ليست من موجبات المدح بل هى أوهام بالجملة باطلة وخيالات فاسدة لا تفيد الا شدة الجهل وتاكيد الغرور وتراكم الضلالات والبعد عن الله تعالى.

واما القسم الثالث : إذا مدح بوصف غير حاصل فيه فحصول الفرح لهذا المدح غاية الجنون (١ هو كما إذا مدح بالصلاة والورع والاشتغال بخدمة الله تعالى مع انه يعرف انه فى قلبه وباطنه خال عن هذه الافعال ، وانه ما اتى بهذه الطاعات الظاهرة الا طالبا للمال والجاه ، فهذه حالة التزوير والتدليس.

العلاج الثانى بحب المدح ، ان ذلك المدح إما أن يكون كذبا أو صدقا ، فإن كان كذبا فالقائل يستوجب (الورقة ٢٨٨ ظ) العقاب على الكذب والسامع له الراضى به يستوجب العقاب على كونه راضيا بالمعصية ، وإن كان صدقا فالقائل إنما يقوله لغرض فاسد عاجل ، والسامع لا بد وأن يحصل له العجب والتيه وذلك مما ينقص ثواب طاعته فى الآخرة ، ومما يوجب حصول نوع من العجب والفضيلة الخالية عن العجب أحب إلى الناس العقال (٢) من الفضيلة المقرونة بالعجب ،

العلاج الثالث : إن بعض الناس وإن كانوا يمدحون فهم (٣) فى الاكثر يذمون ، فان عرض الانسان نكتة (٤) لأن يفرح بالمدح فقد عرضه لان يحزن ويتألم بسبب الذم اكثر ، فهذا الانسان الّذي فعل

__________________

(١) المخطوطة : والجل

(٢) العقال جمع عاقل ،

(٣) المخطوطة : فيهم

(٤) أيضا : ملسه

١٥١

هذا فقد سعى فى تشويش مصالح الدنيا على نفسه بسبب كثرة الغموم الحاصلة عند ذم الناس ، وسعى أيضا فى تشويش مصالح الآخرة بسبب ان المقبل على احوال الخلق محجوب عن الحق.

علاج كراهية الذم : ان الّذي ذمك (٢ إما أن يكون قد صدق فيما قال أو قصد النصح أو صدق وقصده الإيذاء ، أو يكون كاذبا ، فان صدق وقصده النصح فلا يجب أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه ، بل يجب ان تعد ذلك إنعاما منه عليك ؛ لأن من اهدى إليك عيوبك فقد أيقظك من رقدة الجهالة وهداك إلى المهلكة حتى تحترز عنها ، وأما إن صدق وقصد به الايذاء فإنه بالحقيقة قد انتفعت به وبقوله ، إذ عرفك عنك إن كنت جاهلا ، او ذكرك العيب ان كنت قد نسيت أو قبحه فى عينك إن كنت قد استحسنته ، وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه ، فاشتغل بطلب موجبات (١) السعادة وإزالة موجبات (٢) الشقاوة ، فقد انهج لك اسبابها بسبب ما سمعته من المذمة ، ألا ترى انك إذا قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالقذر ، فقال لك قائل : أيها الملوث بالقذر! طهر نفسك وحينئذ تدخل على الملوك ؛ فيجب عليك ان تفرح بقوله لأن هذا التنبيه غنيمة لك.

وجميع مساوى (٣) الاخلاق (٣ مهلكة ، والانسان لا يعرفها بالتمام إلا من قول اعدائه فيجب ان يغتنمه ، فأما إن قصد العدو (٤ الايذاء فذلك خيانة منه على رين نفسه وهو نعمة منه عليك ، فلم تغضب بفعل هو نفع فى حقك وضرر فى حق عدوك.

__________________

(١) المخطوطة : موجات (فى الموضعين)

(٢) المخطوطة : موجات (فى الموضعين)

(٣) أيضا : ساوى

١٥٢

واما القسم الثالث وهو أن يفترى عليك بما أنت بريء (٥ منه عند الله ، فيجب أن لا تكره ذلك. ولا تشتغل بذمه ، بل تتفكر فى ثلاثة :

الاول انك إن خلوت من ذلك العيب فما خلوت عن كل العيوب ، فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك كلها الموجودة فيك وشغله بذكر ما انت بريء عنه.

الثانى ان سماع ذلك الكلام يوجب النفرة الشديدة عن مخالطة الخلق ، ومن اعرض عن الخلق فقد توجه إلى خدمة الخلق لا محالة لأن الانسان يمتنع أن يبقى معطلا ، بل خلق فعالا بالطبع ، فالذم يدعوك من الخلق إلى الحق ، والمدح يدعوك من الحق إلى الخلق ، فما أعظم التفاوت!

الثالث ان ذلك القائل قد صارت نفسه ملوثة برذيلة الكذب مع أن الله طهرك منها ، فليكن شكرك وفرحك بهذه السلامة مذهلا لك عن الحزن بسبب ذلك الذم ،

الرابع انك ان اعتقدت ان ذلك الفعل منه فقط فإنك مشرك ، وإن عرفت أنه بقضاء الله وقدره وهو باطل أو منه وهو (١) عاجز معذور.

الخامس كما انه أدخل الغم فى قلبك فصار قلبك معرضا عن الخلق متوجها إلى الخلق ، فكأنه خرب (الورقة ٢٨٩ و) دنياك وعمر دينك ، وأما ذلك القائل فقد خرب (٦ دين نفسه بسبب ذلك القول فيجب عليك بحكم الكرم أن تسعى فى عمارة دينه ، ولهذا قال

__________________

(١) المخطوطة : اللفظ غير واضح

١٥٣

عليه‌السلام : «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون».

السادس أن تقطع طبعك عن أموال الخلق ومنافعهم ومتى فعلت ذلك سهل عليك ذمهم لك ومدحهم لك ، لأنه لا يرجى من مدحهم إلا وصول النفع من جهتهم ولا مضرة فى ذمهم إلا انقطاع منافعهم عنك فإذا قطعت طبعك عن منافعهم استوى عندك مدحهم وذمهم.

السابع أن يسلط صفة الكبر على نفسه ويعتقد فى نفسه انه أعلى من يزداد بمدح المادحين أو ينتقص بذم الذامين ، أو يعتقد فى ذلك المادح والذام أنه جار مجرى البهيمة ، ومتى كان كذلك لم يبق فى قوله أثر ولا فائدة ، وقد ذكرنا طريقا ١ من طرق علاجها.

الثامن ان ذلك الذم ان صدق فالذنب المذموم حيث اكتسب تلك الصفة الموجبة للمذمة ، وإن كذب فذلك الذم للمذموم فى الظاهر ولكنه ذم للذام فى الحقيقة فإن اقدامه على ذلك الكذب يدل على كونه متصفا بالأخلاق القبيحة من الكذب والغيبة وخبث النفس ، وإدخال الشبهات فى القلوب.

التاسع أن ذلك الذم إن كان صدقا فهو اشاعة الفاحشة وذلك من لوم الطبع وخبث النفس ، فوجب أن يشكر المذموم على أن صانه عن هذه الصفة ، وإن كان كذبا كان ذلك اعراضا عن تعظيم أمر الله وعن الشفقة على خلق الله ، فوجب أن يكون فرح المذموم على أن صانه الله عنه بذهله عن الغم بسبب الذم.

العاشر ان الذام إنما أقبل على ذلك الذم سعيا منه فى إدخال الحزن فى قلب ذلك المذموم ، فإن حصل ذلك الحزن فقد حصل

١٥٤

غرض ذلك العدو ، وإن لم يحصل بطل عليه سعيه وخاب جده وجهده ، وذلك يدل على أن المذموم لم يقم (١) له وزنا وانه يلحقه بالبهائم والجمادات ، فوجب أن لا يحزن المذموم عند سماع الذم لئلا يصل عدوه إلى مقصوده وغرضه.

(الفصل الرابع عشر)

بيان اختلاف الناس فى احوال المدح والذم (١

للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح (٢ :

الحالة الأولى : أن يفرح بالمدح وبمدح المادح ، ويحزن بالذم وبذم الذام ، وهذا حال الأكثرين وهو أخس الدرجات (٣.

الحالة الثانية : أن لا يفرح بالمدح وأن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويحزن بالذم ، ولكنه يمسك لسانه عن مكافاته ، وهذا أيضا من باب النقصان لكنه بالإضافة إلى ما قبله كمال (٤.

الحالة الثالثة : أنه يستوى (٥ عنده المدح والذم ولا يسوؤه الذم ولا يسره المدح ، وقد يظن بعض الناس هذه الحالة بنفسه ، ولكنه يجب أن يمتحن نفسه وعلامة صدق هذه الحالة أن لا يجد فى نفسه استثقالا للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر ما يجد فى المادح وأن لا يجد فى نفسه زيادة لذة (٢) ونشاط فى قضاء حوائج المادح فوق ما يجده فى قضاء حوائج الذام ، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه

__________________

(١) المخطوطة : لم يتيم / لم يقيم

(٢) أيضا : سده

١٥٥

أهون عليه من انقطاع المادح.

فإن قيل كيف يجوز أن يستوى عنده المدح والذم ، والمدح يقتضي إقدام المادح على تعظيم حال ممدوحه وهو طاعة (٦ ، والذم يقتضي إقدام الذام على الاساءة إلى أخيه المسلم (الورقة ٢٨٩ ظ) وهو معصية.

قلنا ان المذموم لو تفكر علم أن فى الناس من ارتكب من الكبائر أكثر مما ارتكبه هذا الذام فى مذمة المذموم ، ثم انه لا ينفر طبعه عنهم ،

وأيضا فالمادح (٧ الّذي مدحه لا ينفك عن اقدامه على ذم غيره مع انه لا يجد فى قلبه نفرة عنه كما يجد لمدحه نفرة ، والمذمة من حيث انها معصية لا يختلف بأن يكون هو والمذموم أو غيره ، فثبت أن ذلك المذموم إنما غضب طاعة لهواه لا طاعة لمولاه. وان الشيطان يخيل إليه انه من الدين وأن الله قد جعله ممن قال فى حقه : («قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) (١) (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ الخ) (٢) (٨ ،

الحالة الرابعة أن يكره المدح (٩ ويحب الذم ، لانه يعلم أن المدح يجره من نور عينية (٣) جلال الله الحق إلى ظلمات عالم الخلق ، والذم يهدى إليه عيوبه ويرده عن ظلمات عالم الخلق إلى انوار عالم الحق ، فهذه (٤) المراتب التى ذكرها الشيخ الغزالى.

__________________

(١) المخطوطة أنبئك

(٢) أيضا : وهم فى الآخرة

(٣) أيضا : عينه

(٤) أيضا : فهذا ،

١٥٦

وعندى فى هذا الباب حالة خامسة : وهو أن يصير فارغا عن المدح وعن الذم بالكلية فلا يحبهما ولا يبغضهما ولا يلتفت قلبه إليهما ، وهذه (١) درجة الصديقين المستغرقين فى نور جلال الله تعالى ، لا يبقى فى قلبه محل إلى الالتفات إلى غير الله ، ومن لا يتصور الشيء لا يمكنه أن يحبه أو يبغضه ،

ثم قال الشيخ : وأهون المراتب هو المرتبة الأولى ثم الثانية وهى ضعيفة لأن الإنسان ، وان مكث عن اكرام المادح وإهانة الذام لكنه لا بد وأن يحض المادح بما يدل على أن قلبه إليه اميل ومحبته له آكد.

بيان حركات المدح : الحب والبغض من الاحوال القابلة للاشد والاضعف ، فلا جرم مراتب الناس فيه مختلفة.

فالمرتبة الأولى : أن يعظم حبه للمدح (١٠ والثناء حتى يدانيه (٢) بالعبادات ولا يبالى بارتكاب (٣) المحظورات (٤) ، ولا حد لاشتماله على قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح.

الثانية أن يطلب المدح لا بالرياء ولا بارتكاب المحرمات بل بالمباحات ، وهذا على شفا جرف هار ، فان حدود الكلام الّذي

__________________

(١) المخطوطة : وهذا

(٢) أيضا : يرى انه

(٣) أيضا : بالارتكاب

(٤) أيضا : المحضورات

١٥٧

يشتمل به القلوب لا يمكن ضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لطلب الحمد فهو قريب من الهالكين.

الثالثة أن لا يريد المدح (١١ ولا يسعى فى طلبه لكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه ، فإن لم يعالج هذه الحالة بالمجاهدة فهو قريب من أن يستجره من فرط السرور إلى الرتبة التى قبله.

الرابعة انه إذا سمع المدح لم يحصل فى قلبه سرور ، وصاحب هذه الحالة لا بد وان يستحضر فى قلبه أبدا ما فى السرور بالمدح من الآفات لئلا يقع فى الدرجة إلى قبلها.

الخامسة إذا سمع المدح كرهه (١٢ ولكن لا ينتهى به إلى أن يغضب على المادح وينكره عليه.

السادسة أن يكره (١٣ ويغضب وينكره عليه وهو صادق إلا ان قلبه محب له الا انه يريد أن يظهر من نفسه الاخلاص والصدق وهو مقتبس عنه ، ولذلك بالضد من هذا يتفاوت الاحوال فى حق الذام والمادح ، واوّل درجاته إظهار الغضب وآخره إظهار الفرح.

١٥٨

(الفصل الخامس عشر)

الكلام فى الرياء وأحكامه

الرياء مشتق من الروية والسمعة (١ (مشتقة من السماع) وحده إظهار خصلة (٢ من الخصال التى يعتقد الحاضرون فيها انها من الخصال الفاضلة لغرض أن يعتقدوا فيه كونه موصوفا بتلك (الورقة ٢٩٠ و) الفضيلة مع كونه فى نفسه عاريا عنها.

اعلم أن هذه الحالة قد يقع فى أحوال الدنيا وقد يقع فى أحوال الدين.

أما الأول فكما إذا أتى الإنسان بأفعال وأقوال تدل على كونه كثير المال مع أنه لا يكون ذلك فى الحقيقة ، ومقصوده أن يعتقد فيه كثرة المال من يرى ذلك فضيلة.

وأما الثانى فكما يأتى بأفعال تدل على الزهد أو العبادة ليعتقد فيه ويكون هذا قصده ، ولا يكون كذلك فى الحقيقة ، فهذا الحد الّذي ذكرنا غاية فى الريا فى أمور الآخرة والدين والدنيا ، إلا أن القسم الثانى هو المشهور فى العرف ، وهو الرياء فى أمور الدين ـ وأما فى أمور الدنيا فذاك يسمى طلب الجاه والرفعة.

إذا عرفت هذا فنقول : لا بدّ من أركان ثلاثة :

الأول أنا نقول المرائى هو الّذي يأتى بتلك الأفعال على قصد التلبيس.

وثانيها القوم الذين يراد ترويج التلبيس عليهم وهم المراءى لهم.

١٥٩

وثالثها المراءى (١) به وهو تلك الأفعال والأحوال التى يراد بها ترويج ذلك التلبيس على الناس.

إذا عرفت هذا ، فنقول : المراءى به كثير ويجمعه خمسة اقسام (٣ :

البدن والزى والقول والعمل ، والأشياء الخارجة.

وكما أهل الدين يراءون بهذه الخمسة ، كذلك (٢) أهل الدنيا يراءون بها ، الا أن جهة المراءاة مختلفة فى الناس.

فالنوع الأول : الرياء من جهة البدن (٤ باظهار النحول والصفرة (٣) ليوهم بذلك جهده واجتهاده وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة ، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفرة على سهر الليل ـ وكذلك يرائى بشعث الشعر ليدل على استغراقه فى هم الدين ، وقلة فراغه لتسريح الشعر ، وهذه الأحوال متى ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور ، ويقرب من هذا خفض الصوت واغارة وكثرة أطرافها وذبول ليستدل بذلك على الصوم وعلى وقار الدين.

النوع الثانى : الرياء بالهيئة والزى (٥ ، أما الهيئة فاطراق الرأس فى المشى ليستدل به على غرق فى الفكر ، وكذلك ابقاء أثر السجود فى الجبهة (٤).

__________________

(١) المخطوطة : والمرعايا

(٢) أيضا : وكذلك

(٣) أيضا : والصفا

(٤) أيضا : الجهة

١٦٠