الشيخ أمين حبيب آل درويش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١
من القتل. قالت : نعم أفعل ذلك إذا أنت من يسمع مقالي ، فأمر باحضار الناس ، فلما إجتمعوا ؛ قامت قائمة على قدميها وقالت : يا معشر من حضر ، إنّ هذا يزيد بن معاوية قد أمرني أن أسب علي بن أبي طالب وعترته ، فانصتوا لما أقول : ألا أنّه لعنة الله ، ولعنة اللاعنين ، والملائكة والناس أجمعين على يزيد وأبيه وجده أبي سفيان ، وحزبه وأتباعه إلى يوم الدين. قال : فلما سمع الناس كلامها ؛ غضب يزيد (لع) غضباَ شديداً ، وقال : من يكفيني أمرها؟ فقام إليها رجل من أهل الشام ، فضربها ضربة جَدّلها صريعة ، فإنتقلت إلى رحمة الله تعالى» (٤٥٤).
أقول : لَعَلّ القارئ النبيل ، يلاحظ إختلافاً بين الروايتين ، فقد يكون ذلك راجعاً إلى أنّ هذه المرأة التي في الرواية السابقة ، فعلى هذا تكون إمرأتان لا إمرأة واحدة.
٣ ـ زوجة شمر (لع) :
ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري في كتابه «معالي السبطين» : «وفي كتاب «التبر المذاب» : أنّ حامل الرأس الشريف إلى الكوفة ، شمر بن ذي الجوشن. وفيه لما حمل الشمر رأس ال حسين عليه السلام ؛ جعله في مخلاة وذهب به إلى منزله فوضعه على التراب وجعل عليه إجانة ، فخرجت إمرأته ليلاً ـ وكانت صالحة ـ فرأت نوراً ساطعاً عند الرأس إلى عنان السماء ، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنيناً من تحتها ، فجاءت إلى شمر (لع) وقالت : رأيت كذا وكذا ، فأي شيء تحت الإجانة؟ قال لعنه الله : رأس خارجي قتلته وأريد أذهب به إلى يزيد (لع) ليعطيني عليه مالاً كثيراً. قالت : ومن يكون؟ قال (لع) : الحسين بن علي.
__________________
(٤٥٤) ـ الدربندي ، الشيخ آغا بن عابد الشيرواني : أسرار الشهادات ، ج ٣ / ٦٤١ ـ ٦٤٢.
فصاحت وخَرّت مغشية فلما أفاقت قالت : يا شَرّ المجوس ، أما خفت من إله الأرض والسماء ، قتلت ابن بنت رسول الله ، وابن علي المرتضى ، ثم خرجت من عنده باكية ورفعت الرأس وقبلته ووضعته في حجرها ، ودعت نساء يساعدنها بالبكاء عليه وقالت : لعن الله قاتلك. فلما جَنّ الليل غلبها النوم ، فرأت كأنّ الحائط قد إنشق بنصفين ، وكأنّ البيت قد غشيه نور ، وجاءت سحابة فإذا فيها إمرأتان فأخذتا الرأس ، فسألت عنهما فقيل : إنّهما خديجة وفاطمة عليهما السلام. ثم رأت رجالاً وفي وسطهم إنسان وجهه كالقمر ليلة تمامه وكماله ، فسألت عنه. فقيل : محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن يمينه حمزة وجعفر وأصحابه ، فبكوا وقَبّلُوا الرأس ، ثم جاءت خديجة وفاطمة عليها السلام إلى إمرأة شمر (لع) ، وقالتا : تمني ما شئت فإنّ لك مِنّة ويداً بما فعلت ، فإن أردت أن تكوني من رفقائنا في الچنّة ؛ فأصلحي أمرك فإنّا منتظروك ، فإنتبهت من النوم ورأس الحسين عليه السلام في حجرها ، فجاء شمر (لع) لطلب الرأس فلم تدفعه إليه ، وقالت له : يا عدو الله طَلّقْنِي فإنّك يهودي ، والله لا أكون معك أبداً فطلقها ، فقالت : والله لا أدفع إليك هذا الرأس ، أو تقتلني. فضربها ضربة كانت منيتها فيها ، وعَجّل الله بروحها إلى الجنة» (٤٥٥).
٤ ـ زوجة خَوْلِي الأصبحي (النّوَار بنت مالك) :
«روي : أنّ عبيد الله بن زياد (لع) ، بعدما عرض عليه رأس ال حسين عليه السلام دعا بخولي بن يزيد الأصبحي (لع) وقال له : خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه فقال : سمعاً وطاعة فأخذ الرأس وإنطلق به إلى منزله ، وكان له إمرأتان : إحداهما ثَعْلَبِيّة ، والأخرى مَضَرِيّة ، فدخل على المضرية فقالت : ما هذا؟
__________________
(٤٥٥) ـ الحائري ، الشيخ محمد مهدي : معالي السبطين ، ج ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.
فقال : هذا رأس الحسين بن علي عليهما السلام ، وفيه ملك الدنيا. فقالت له : إبشر فإنّ خصمك غداً جده محمد المصطفى ؛ ثم قالت : والله لا كنت لي ببعل ، ولا أنا لك بأهل ، ثم أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه ، فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية ؛ فقالت : ما هذا الرأس الذي معك؟ قال : رأس خارجي خرج على عبيد الله بن زياد. فقالت : وما إسمه؟ فأبى أن يخبرها ما إسمه ، ثم تركه على التراب وجعل عليه إجانة ، قال : فخرجت إمرأته في الليل فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء ، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنيناً وهو يقرأ إلى طلوع الفجر ، وكان آخر ما قرأ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [ابراهيم / ٤٢] ، وسمعت حول الرأس دوي كدوي الرعد ، فعلمت أنّه تسبيح الملائكة ، فجاءت إلى بعلها وقالت : رأيت كذا وكذا ، فأي شيء تحت الإجانة؟ فقال : رأس خارجي قتله الأمير عبيد الله بن زياد ، وأريد أذهب إلى يزيد بن معاوية ليعطيني عليه مالاً كثيراً قالت : ومن هو؟ قال الحسين بن علي. فصاحت وخَرّت مغشية عليها ، فلما أفاقت قالت : يا ويلك يا شَرّ المجوس ، لقد آذيت محمداً في عترته ، أما خفت من إله الأرض والسماء حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيدة نساء العالمين ، ثم خرجت من عنده باكية ، فلما قام رفعت الرأس ابن سيدة نساء العالمين ، ثم خرجت من عنده باكية ، فلما قام رفعت الرأس وقبلته ووضعته في حجرها ، وجعلت تقبله وتقول : لعن الله قاتلك وخصمه جدك المصطفى ، فلما جَنّ الليل ؛ غلب عليها الليل فرأت كأنّ البيت قد إنشق بنصفين وغشيه نور ، فجاءت سحابة بيضاء فخرج منها إمرأتان فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا ، قالت : فقلت لهما : بالله من أنتما؟ قالت إحداهما : أنا خديجة بنت خويلد ، وهذه إبنتي فاطمة
الزهراء ، ولقد شكرناك وشكر الله لك عملك ، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنة. قال : فانتبهت من النوم والرأس في حجرها ، فلما أصبح الصبح ، جاء بعلها لأخذ الرأس ، فلم تدفعه إليه وقالت : ويلك طَلّقْنِي فوالله لا جمعني وإياك بيتاً. فقال : إدفعي لي الرأس وإفعلي ما شئت. فقلت : لا والله لا أدفعه إليك ، فقتلها وأخذ الرأس ، فَعَجّل الله بروحها إلى الجنة بجوار سيدة النساء» (٤٥٦).
٥ ـ رأس الجَالُوت :
ذكر الشيخ محمد باقر المجلسي (قده) في كتابه (بحار الأنوار) قصة رأس الجالوت كالتالي :
«وروي عن زين العابدين عليه السلام : أنّه لما أتي برأس الحسين إلى يزيد ، كان يتخذ مجالس الشراب ، فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم ، وكان من أشراف الروم ، فقال : يا ملك العرب هذا رأس من؟ فقال له يزيد : مالك ولهذا الرأس؟ فقال :إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته ، فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور.
فقال له يزيد : هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب. فقال الرومي : ومن أمه؟ فقال : فاطمة بنت رسول الله. فقال النصراني : أُفٍ لك ولدينك لي دين أحسن من دينك ، إنّ أبي من حوافد داود عليه السلام ، وبيني وبينه آباء كثيرة ، والنصارى يعظموني ويأخذون من تراب قدمي تبركاً بأبي من حوافد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله ، وما بينه وبين نبيكم إلا أمّ واحدة؟ فأي دين دينكك؟١
__________________
(٤٥٦) ـ البحراني ، السيد هاشم : مدينة المعاجز ، ج ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.
ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟ فقال له : قل حتى أسمع. فقال : بين عُمَان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيها عمران إلا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين ، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود والعنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر في مرحباها حقّة ذهب معلقة ، فيها حافر يقولون إنّ هذا حافر حمار كان يركبه عيسى وقد زَيّنوا حول الحُقّة بالذهب والدِّيباج ، يقصدها في كل عام عالم من النصارى ، ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار يركبه عيسى نبيهم ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم؟ فلا بارك الله تعالى فيكم ولا في دينكم. فقال يزيد : إقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده ، فلما أحس النصراني بذلك قال له : تريد أن تقتلني؟ قال : نعم. قال : اعلم أنّي رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول لي : يا نصراني أنت من أهل الجنة. فتعجبت من كلامه! وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم وثب إلى رأس الحسين فضّمّه إلى صدره ، وجعل يقبله ويبكي حتى قتل» (٤٥٧) ..
٦ ـ الخَلِيعِي الموصلي :
أبو الحسن ، جمال الدين ، علي بن عبد العزيز الخليعي الحائري الحلي ، الشاعر الأديب المعروف ، المتوفى سنة (٧٥٠ هـ) في الحِلّة. ولد من أبوين ناصبيين.
__________________
(٤٥٧) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٤٥ / ١٤١ ـ ١٤٢.
قصة تشيعه :
والقصة كما ذكرها العلماء والمؤرخون ، تتلخص فيما يلي :
إنّ والديه ناصبيين ، ولم يكن لهما ولد ذكر ، فنذرت أمه إن ولد لها ذكر تبعثه لقطع الطريق السابلة من زوّار الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، من أهل جبل عامل الذين يعبرون الموصل ، فولد لها المترجم ، فلما بلغ أشدّه إبتعثته إلى جهة نذرها ، فلما بلغ إلى نواحي (المسَيّب) بمقربة من كربلاء المشَرّفة ، ينتظر قدوم الزائرين فإستولى عليه النوم ، وإجتازت عليه القوافل ، فأصابه الغبار ، فرأى فيما يراه النائم أنّ القيامة قد قامت وأمر به إلى النار ولكنها لم تمسه ، لما عليه من ذلك الغبار ، فانتبه مرتدعاً عن نيته السيئة ، وإعتنق ولاء العترة ، ذهب إلى كربلاء خلف الزائرين يعتذر من سيد الشهداء ، ونظم هذين البيتين :
إذا شئت النجاة فزر حسيناً |
|
لكي تلقى الإله قرير عين |
فإنّ النار ليس تمس جسماً |
|
عليه غبار زوار الحسين |
وقد إعتنى الشعراء بهذين البيتين تخميساً لهما ، نذكر منهم ما يلي :
١ ـ الشاعر المبدع الحاج مهدي الفلوجي الحلي ، المتوفى سنة (١٣٥٧ هـ) :
أراك بحيرة ملأئكَ رَيْنا |
|
وشَتّتك الهوى بيناً فبينا |
فطب نفساً وقر بالله عيناً |
|
(إذا شئت النجاة فزر حسينا |
لكي تلقى الإله قرير عين)
إذا علم الملائكُ منك عزماً |
|
تروم مزارهَ كتبوك رسماً |
وحُرِّمتِ الجحيمُ عليك حتماً |
|
(فإنّ النار ليس تمس جسماً |
عليه غبار زوّار الحسين) (٤٥٨)
__________________
(٤٥٨) ـ الأميني ، الشيخ عبد الحسين : الغدير ، ج ٦ / ١٢ ـ ١٣.
٣ ـ الخطيب الملا عبد العزيز الناصر السّيَهاتِي القطيفي ، المتوفى في ٣٠ / ٧ / ١٤٠٦ هـ.
تَمسّك بالحسين تكن أمينا |
|
ولِذْ بالقبّة النورا حزينا |
وكنْ بالحزن مشتغلاً رهينا |
|
(إذا شئت النجاة فزر حسينا |
غداً تلقى الإله قرير عين)
إذا جاب (٤٥٩) الزمان عليك هماً |
|
فزر من قد حوى شرفاً وعلماً |
بهذا أوعد الرحمن حتماً |
|
(بأنّ النار ليس تمس جسماً |
عليه غبار زوار الحسين) (٤٦٠)
٣ ـ وشَطّر هذين البيتين آية الله الشيخ علي الجشي ال قطيفي (٤٦١).
(إذا شئت النجاة فزر حسيناً) |
|
ففيه نجاو مَنْ في العالمين |
وأحسن في حبيب الله ظناً |
|
لكي تلقى الإله قرير عين |
(فإنّ النار ليس تَمسُّ جسماً |
|
غذاه حب سرّ النشأتين |
بل الأنوار تطفي النار عن مَن |
|
(عليه غبار زوّار الحسين) (٤٦٢) |
__________________
(٤٥٩) ـ وعلى رواية أخرى : (إذا جلب الزمان عليك هَمّاً).
(٤٦٠) ـ نقلت هذه الأبيات عن الفاضل الشيخ منصور السلمان الجشي ، والخطيب الملا عارف سنبل.
(٤٦١) ـ العلامة الفقيه الورع آية الله الشيخ علي بن حسن الجشي القطيفي ، ولد به ليلة ١٧ / ٩ / ١٢٩٦ هـ حصل على إجازة الإجتهاد من فقيه عصره السيد محسن الحكيم (قده) عام ١٣٥٩ هـ ، ورجع من النجف الأشرف عام ١٣٦٧ هـ. ـ إلى القطيف ، وتولى منصب القضاء للمحكمة الشرعية الجعفرية بالقطيف ، ، إلى أن وافاه الأجل في آخر نهار يوم الثلاثاء ١٥ / ٤ / ١٣٧٦ هـ. ودفن بمقبرة الحَبّاكة.
(٤٦٢) ـ الجشي ، الشيخ علي : الشواهد المنبرية / ٥٣ ـ ٥٤.
بحث حول هذه القصّة :
إستشكل بعض المفكرين في هذه القصة بقوله : «وعلى أساس مثل هذه الأرضية ، قامت الأساطير والخرافات ، وصارت تروى الحكايات الخرافية ، فقيل ـ مثلاً ـ : إنّ رجلاً من قُطّاع الطرق المعروفين ، والمشتهرين بالسرقة والنصب والإحتيال وقتل المؤمنين ، والإغارة على أموال الناس ، صادف أن كمن يوماً لقافلة من المؤمنين ، ممن كانوا يقصدون زيارة الحسين ، وأخذته الغفوة ، فمَرّت من جانبه دون أن ينتبه ، ولما أفاق كانت قد إبتعدت عنه القافلة كثيراً ، وإذا به يُحدِّث أنّه رأى في المنام : أنّ يوم القيامة قد حان ، وإنّه لما أخذ بيده إلى النار نتيجة الأعمال الكبيرة التي إرتكبها طوال حياته ، وليأخذ جزاءه المنصوص عليه في القرآن الكريم : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) [المائدة / ٣٣]. رفضت النار إستقباله ، وجاء الأمر بارجاعه ؛ ذلك أنّه قد أصابه من غبار الحسين شيء ، وهو من تلك الغفوة!! وهكذا نظموا :
فإن شئت النجاة فزر حسيناً |
|
لكي تلقى الإله قرير عين |
فإنّ النار ليس تَمسُّ جسماً |
|
عليه غبار زوّار الحسين |
وإذا كان غبار زوار الحسين كافياً لأن ينجي القاتل ، والمجرم من عذاب يوم الآخرة ، وينقذه من نار جهنم ، فما بالك بجزاء زوار الحسين أنفسهم! حتماً سيكونون أرفع مقاماً من إبراهيم الخليل!» (٤٦٣).
__________________
(٤٦٣) ـ المطهري ، الشيخ مرتضى : الملحمة الحسينية ، ج ٣ / ٢٤١ ـ ٢٤٢.
مناقشة هذا النصّ :
يمكن التركيز في هذا النصّ المذكور على شيئين :
الأول ـ صحيح أنّ القُصّاص لعبوا دوراً كبيراً في نسخ القصص الخيالية والخرافية ، وذلك لنشر أفكارهم ومعتقداهم ، وإنّ القصة المذكورة مُحرّفة عن حقيقتها ؛ إذ جاءت على ألسن عامة الناس ، وهذا الشيء موجودا حتى في عالم الروايات ، ولكنّ المناقشة تتم في دعوى أنّها خرافية ، إعتماداً على نقل عامة الناس ، من دون مراجعة المصادر ، هذه مجازفة لا قيمة لها من الناحية التاريخية والعلمية ، لكن البحث العلمي الذي تطمئن إليه النفوس ، هو ما يلي :
أولاً ـ إنّ القصة الخيالية الخرافية لا واقع لها ، بل المصدر ال أساسي هو القُصّاص ، ومع هذا لا تخفى على العلماء وذوي الإختصاص! ولو سَلّمْنَا جدلاً أنّ القصة التي ذكرناها من هذا النوع من القصص الخرافية ، فهل هذا يخفى على الأعلام الذين ذكروا هذه القصة ، نذكر مهم التالي :
١ ـ القاضي الشيخ نور الله المرعشي (٩٥٦ هـ ـ ١٠١٩ هـ) ، في كتابه (مجالس المؤمنين ـ ج ٢ / ٥٥٥).
٢ ـ السيد حسن الحسيني الزنوزي الخوئي (١١٧٢ هـ ـ ..........) في كتابه (رياض الجنة).
٣ ـ الشيخ عبد الحسين الأميني (١٣٢٠ هأ ـ ١٣٩٠ هـ) في كتابه (الغدير ، ج ٦ / ١٢).
٤ ـ الميرزا حسين النوري (١٢٥٤ هـ ـ ١٣٣٠ هـ) في كتابه (دار السلام ، ج ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠).
٥ ـ الشيخ محمد حرز الدين (١٢٧٣ هـ ـ ١٣٦٥ هـ) ، في كتابه (مراقد المعارف ، ج ١ / ٢٨١).
٦ ـ الشيخ عباس القمي (١٢٩٤ هـ ـ ١٣٥٩ هـ) في كتابه (الكنى والألقاب ، ج ٢ / ٢١٩).
هذه بعض المصادر التي ذكرت القصة المذكورة ، بل إنّ صاحب القصة له وجود ، وقد ترجموه واهتموا بشعره ، ومما قالوه فيه ما يلي :
(أبو الحسن ، جمال الدين ، علي بن عبد العزيز بن أبي محمد ، الخَلَعِي (الخليعي) ، الموصلي الحِلِّي ، شاعر أهل البيت عليهم السلام ، نظم فيهم فأكثر ، وسمي بـ(الخلعي أو الخليعي) لما يلي :
١ ـ لما دخل الحرم الحسيني المقدّس أنشأ قصيدة في الحسين عليه السلام وتلاها عليه ، وفي أثنائها وقع عليه ستار من الباب الشريف ، وسمي بالخلعي أو الخليعي) (٤٦٤).
٢ ـ جرت بينه وبين ابن حَمّاد الشاعر المعروف (٤٦٥) ، وحسب كل أنّ مديحه لأمير المؤمنين عليه السلام أحسن من مديح الآخر ، فنظم كل قصيدة وألقياها في الضريح العلوي المقدس محكمين الإمام عليه السلام ، فخرجت قصيدة الخليعي مكتوباً عليها بماء الذهب أحسنت. وعلى قصيدة ابن حَمّاد بماء الفضة ، فتأثر ابن حَمّاد وخاطب أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : أنا محبك القديم ، وهذا حديث
__________________
(٤٦٤) ـ الأميني ، الشيخ عبد الحسين : الغدير ، ج ٦ / ١٣.
(٤٦٥) ـ علي بن الحسين ، بن حَمّاد الليثي الواسطي ، أحد شعراء أهل البيت المعروفين ، وعلم من أعلام الشيعة.
العهد بولائك. ثم رأى أمير المؤمنين عليه السلام في المنام وهو يقول له : إنّك مِنّا ، وإنّه حديث عهد بأمرنا فمن اللازم رعايته) (٤٦٦).
سكن الحائر الحسيني ردحاً من الزمن ، وسكن الحِلّة إلى أن مات بها ، في حدود سنة (٧٥٠ هـ) ، ودفن بها وله هناك قبر معروف.
إذاً ، بعد كل ذلك ثبت لدينا أنّ القصة المذكورة لها مصدر ، وأنّ صاحبها له وجود في كتب التراجم ، فأين الخرافة والتحريف؟! وهل يخفى ذلك على هؤلاء العلماء المحققين؟!
الثاني ـ إنّ قوله : «وإذا كان غبار الحسين كافياً لا ينجي القاتل ، والمجرم من عذاب يوم الآخرة ، وينقذه من نار جهنم ، فما بالك بجزاء زوار الحسين أنفسهم!. حتماً سيكونون أرفع مقاماً من إبراهيم الخليل!».
والجواب على هذه الدعوى بما يلي :
أولاً ـ أنّ الخليعي منذ بداية شبابه أرسلته أمه لتفي بنذرها لقطع الطريق على زوار الحسين عليه السلام ، فلما وصل إلى المكان الذي يمرّ عليه الزوار ، نام ورأى الرؤيا ، فارتدع عن هذا العمل ـ وهي من الرؤيا المحذِّرة من الشيطان ، كما ذكرناها سابقاً في أقسام الرؤى ـ ولم تذكر القصة أنّه قتل المؤمنين.
ثانياً ـ إنّ زيارة الأئمة تعبيراً عن جليل مكانتهم ، وسيراً على منهجهم ، وتأكيداً على ولائهم ، وإحياءاً لذكرهم ، كما أنّ الزيارة في حقيتها وسيلة من وسائل التقرب إلى الله عَزّ وجَلّ ، فلا شك أنّ للزائرين جزيل الثواب كما ورد في الروايات ، فيقرب على ذلك أنّ التراب الذي يمشي
__________________
(٤٦٦) ـ المصدر السابق.
عليه الزُوّار ، له قيمته القُدْسِيّة ، ويكون من قبيل الجنة تحت أقدام الأمهات ، والجنّة تحت ظلال السيوف ، فكل شيء له إرتباط بعمل عبادي له قدسيته ، فالمستفاد من القصة أنّ الرؤيا تحذره من التعرض لزوار الحسين عليه السلام ، فإنّ لهم مكانة عند الله عَزّ وجَلّ ؛ فلذا ترابهم وغبارهم ينجي من النار ، كرامة لسيد الشهداء ومكانتة عند الباري عَزّ وجَلّ ، وهذا ما نراه مسطوراً في حياة الأعلام ، فإنّهم يُقَدّسُون كل من له إرتباط بسيد الشهداء ، نذكر من ذلك ما يلي :
١ ـ إستشفاء الفقيه الكبير المرحوم السيد حسين البروجردي بالتراب الموجود على أجسام المعزين.
٢ ـ إنّ من وصايا الفقيه الراحل سيد شهاب الدين المرعشي : «إني أوصيت أولادي ، وعليك أنّ تذكرهم في ليلة وفاتي ، أن يضعوني في الحسينية بجوار المنبر ، ويشدّون طرفاً من عمامتي بالمنبر ، والطرف الآخر بجنازتي ، لأكون دخيلاً على سيد الشهداء (عليه السلام) ، في ليلتي الأولى من وفاتي ، وفعلاً ذكرت بذلك للأولاد بعد رحلته ، وعملوا بوصيته ، جزاهم الله خيراً» (٤٦٧).
«وأوصيه أن يدفن معي ثوبي الأسود الذي كنت ألبسه في شهر محرم وصفر ، حزناً في مصائب آل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأوصيه أن يجعل على صدري في كفني المنديل الذي نشفت دمعاتي في رثاء جدي الحسين المظلوم ، وأهل بيته المكرمين ، سلام الله عليهم أجمعين» (٤٦٨).
__________________
(٤٦٧) ـ العلوي ، السيد عادل : قبسات من حياة سيدنا الأستاذ المرعشي / ١١٨ ـ ١١٩.
(٤٦٨) ـ نفس المصدر.
٧ ـ الرجل النصراني :
ذكر الفقيه الشيخ الدربندي (قده) : «عن الشيخ الأجل الشيخ جواد ، عن أبيه الفاضل الأتقى الأورع الشيخ حسين أنّه قال : كان في زماننا رجل نصراني في البصرة ، وكان ذا أموال كثيرة وثروة وفبرة ، وكان في كثرة أمواله بمرتبة لا يحاذيه فيها أحد ، لا من تجار البصرة ولا من تجار بغداد ، فجمع أمواله وكل ما كان له من الأشياء النفيسة وغيرها فوضعها في سفينة وركبها مع من كان معه من خدامه وغلمانه ، وأراد المجيء إلى بغداد فلما جرت السفينة في الشط مدة ثلاثة أيام أو أزيد ؛ خرجت من جانب البر جماعة من اللصوص وقطاع الطرق من أشار الأعراب ، وأخذوا السفنية ونهبوا ما فيها من الأموال ، وقتلوا جمعاً من أهل السفينة ، ونجى الله تعالى ذلك التاجر النصراني من القتل ، إلا أنّه كان بما اُصيب به مسلوب الفؤاد ، ومنزوع العقل ، وواقعاً على وجهه في ناحية ، فلما جَنّ الليل مَرّ به واحد من أهل الحي الساكنين في قرب من ذلك الموضع ، فحرّكه من ذلك المكان ورفعه إلى الحي ، وأنزله في مضيف شيخ تلك القبيلة ، فلما إطلعوا على حاله وما جرى عليه تَرَحّمُوا عليه ، فكان الشيخ يكرمه ويُعزِّيه ويُصَبّره ، حتى بعد الإطلاع على كونه نصرانياً ، وذلك بالنظر إلى ما تقتضيه الغيرة والحمية ، وبملاحظة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (اكرموا الضيف ولو كان كافراً) ، فكان النصراني يُصبر نفسه ويُعزيها بالإئتلاف والإستيناس بذلك الشليخ وجماعة من رجال الحي ونساء القبيلة أن يروحوا إلى النجف الأشرف للتشرف بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام ، فكان رواحهم إلى النجف على نمط المشاة والحفاة ، وقد جرت عادة أهل القبائل على ذلك ، أي على
مسافرتهم إلى زيارة العتبات العاليات في أوقات الوقفات والزيارات المخصوصة على حالة كونهم مُشّاة حُفَاة ، والركبان منهم في سفر الزيارات في غاية القلة بالنسبة الى المشاة والحفاة ، وذلك أنّ أفواجهم في سفر الزيارات في غاية الكثرة وإن أكثرهم فاقدوا الإستطاعة للركوب على الخيول أو البغال أو الحمير ، وكيف كان ، فإنّ ذلك الرجل النصراني لما إطلع على ما أراد الشيخ وجماعة من أهل القبيلة ، هاجت أحزانه وتحركت غمومه وزادت همومه : قال الشيخ لا تحزن فإنّك في المضيف ، والباقون منا في الحي أكثر من المسافرين للزيارة.
قال النصراني : كنت مستأنساً بك ، ومزيلاً أحزاني بمصاحبتك ، وأخشى أن أهلك بعد فراقك من هيجان أحزاني ومراجعة همومي وغمومي ، فإن كنت تترحم عليّ فارض بمصاحبتي معك في هذا السفر.
قال الشيخ : لا وجه لسفرك معنا ، فإنّ الطريق بعيد ونحن مشاة حفاة ، فترضى بما نتحمله من التعب والنصب وإرتكاب الشدائد لأجل ما نرجوا من مثوبات جزيلة ودرجات عظيمة في الآخرة ، وأنت رجل نصراني غير معتقد بما نحن عليه ، فلما ألَحّ النصراني في ال سؤال ؛ رضي الشيخ بما يريد ، ثم ساروا إلى النجف الأشرف ـ زاد الله تعالى شرافته ـ فلما وصلوا إلى تلك البقعة المباركة ، أسكنوا الرجل النصراني في بيت من البيوت ومنعوه عن الدخول في الصحن الشريف ، فلما زاروا الإمام عليه السلام في يوم الغدير ، بقوا بعده مدة من الأيام في ذلك البلد الأمين ، قَسّم الشيخ أهل القبيلة قسمين ، فقال النصراني للشيخ : أنا لا أفارقك وأكون معك حيث ما كنت ، ثم عرضت لهم جملة من العوائق فلم يصلوا إلى كربلاء. إلا قبيل غروب الشمس في التاسع من المحرم أو بعد دخول ليلة العاشورا.
فقال الشيخ للنصراني : قد قضت الضرورة والحاجة بأن تدخل الصحن وتجلس عند المسرجة الكبرى المسماة بالفارسية (بچهل چراغ) لتحرس ما نضع في ذلك المكان من أوعية زادنا ونفقتنا ورماحنا وعصينا ، وجملة أخرى من الحلس والعباء واللباس ونحو ذلك. فإنا لا ننام في هذه الليلة أصلاً بل نكون مع الطائفين والصارخين والضاربين رؤسهم الداقين صدورهم في الحرم الشريف ، وفي حرم العباس ، وفي الصحنين الشريفين.
فجلس النصراني عند هذه الأشياء الموضوعة قدام المسرجة الكبرى ، فلما شاهد النصراني بعد مضي ساعة من الليل ما حضر وحصل في الصحن الشريف ، زعم أنّ القيامة قد قامت ، ونفخ بالصور حيث رفعت من كربلاء مرة واحدة صيحة واحدة وضجة عالية تذهل بها العقول وتدهش بها الألباب ، فكأنّ أرض كربلاء وما فيها من الأبنية والدور ، والقلعة والسور والجدران والحيطان والفضاء والهواء تضج وتبكي ، فكم من مشاعل نصبت فيها ، وكم من أفواج من رجال العجم من الشيوخ والشبان والكهول والصبيان في مقدمهم شبيه جواد الإمام عليه السلام ملطخاً بالدماء ، مشبهاً من كثرة النبال الواقعة به بالقنفذ أو الطير الفتاح الجناح وهم مكثفوا الرؤوس ، يدقون رؤوسهم ويضربون صدورهم بالأكف والأيادي ، ويصيحون صيحة الثكلى ، وكم من أناس بينهم أشباه الأسارى والسبايا النادبات الصارخات ، وهم يحثون التراب والرماد على الرؤوس ، ويأنّون أنّه من قطعت أعضاؤه إربا إربا ، ويقولون : وا إماما وا قتيلا وا حسينا وا شهيدا.
وكم من معشر من أهل بلاد الهند والبربر ينوحون وينحبون نوحه فيها ذوبان شحوم الأمعاء والحوايا ، وكم من جمع عراة حفاة منهم يضربون
رؤوسهم وصدورهم ومناكبهم بساسل من الحديد ، وكم نساء من العرب قد حلقن حلقة الإستدارة ، فيصرخن ويندبن ندبة الثكلى على السبايا ، فكان الناس على ذلك المنوال حتى مضى ثلثا الليل بل أزيد ، فشرع الناس إلى التضرح وبادروا إلى الرجوع إلى منازلهم ، ففي قريب من طلوع الفجر لم يبق في الصحن الشريف أحد ، ولا سراج مشعل ، فبينما النصراني في الحيرة والتفكير فيما شاهد ورأى ، فإذا برجل عظيم الشأن جليل الرتبة قد خرج من الحرم الشريف ، فملأ الصحن الشريف بنور وجهه وسطع نوره إلى السماء ، فجاء إلى أن وقف في آخر الأيوان في قبال المسرجة الكبرى ، وقد حضر عنده شخصان قائمان بغاية الخضوع والخشوع ، ونهاية التأدب ومتمثلا مثول العبد الذليل بين يدي المولى الجليل ، فقال لهما : إئتيا بدفتركما فأتيا بما عندهما من الطرس والدفتر ، فلما نظر إليه قال : ما أجدتما حيث لم تستوفيا في الكتابة فرد الدفتر إليهما ، فارتعدت فرائسهما فقالا : بحقك وبحق من فضلكم أهل البيت على العالمين ، إنا كتبنا كل من كان في الحرم والرواق والإيوان والصحن ، وهكذا كمل من في حرم العباس ورواقه وأبوابه وصحنه وفوق الحجرات وسطحها. فقال لهما ثانياً : إنظر إلى الطرس فناولاه الدفتر فنظر إليه وقال : الأمر كما ذكرت لكما ، فأنتما ما إستوفيتما ، فحلفا كما سبق وقالا : ما قصرنا حتى أنا كتبنا الطفل الرضيع. وقال أحدهما بعد التدبر والتفكر : نعم إنا ما كتبنا هذا الرجل النصراني.
فقال عليه السلام : فلماذا؟ قالا : لكونه كافراً. فقال عليه السلام : سبحان الله أما أحَلّ هو بساحتنا؟
فلما رأى النصراني تلك الحالة وسمع هذه المقالة من سيد الشهاء أغمي عليه ، فلما أستفيق من غشوته وقد حضر عنده شيخ القبيلة والجماعة الذين كانوا معه قالوا له : ما الذي عرض لك؟ قال : أقسمكم بالله تعالى لقنوني كلمة الإسلام ، فعلموه كلمة الشهادتين ، فلما أسلم حَدّثهم بما رأى وسمع» (٤٦٩).
٨ ـ الرجل اليماني :
ذكر الشيخ كمال معاش ، في كتابه (الحسين ريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) : «.. قد إلتقيت قريباً بأحد الأخوة اليمنيين ـ إلتقيت به ليلة الثامن من شهر ربيع الأول سنة ١٤٢٢ هـ ، المصادف ليلة الجمعة ـ ؛ فسرد لي قصة رآها في عالم الرؤيا ، وهي كالتالي :
رأيت في عالم الرؤيا في يوم مقتل سيدنا الحسين عليه السلام ـ أي يوم العاشر من شهر محرم ـ أنّي مسافر من أرض إلى أرض ، فوجدت نفسي في صحراء كبيرة ، ورأيت جيشاً قد سَدّ الأرض ـ أي ملأها ـ خيولاً وأسلحة ورجالاً ، ورأيت في الجهة المقابلة رجلا على فرس ووراءه نساء وأطفال سمعته يقول : هل من مغيث يغيثنا ، هل من مجير يجيرنا ، هل من موحدٍ يخاف الله فينا ، هل من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجئت إليه وقلت له : لبيك وسعديك يا ابن رسول الله ، سأقاتل عنكم مخافة من الله ، وحُبّاً لنبيكم ، ومخافة من النار ، فقال : خذ بارك الله فيك ، وأعطاني سيفاً لم أرَ أحسن منه ، وكان شديد اللمعان ، فنظرت إلى وجه سيدي الحسين عليه السلام ، وله لحية سوداء شديدة السواد ، شبيه بسواد الكحل ، إلا أنّ به شعرات بِيض يَشعّ منها نور عجيب
__________________
(٤٦٩) ـ الدّربندي ، الشيخ آغا بن عابد الشيرواني : إكسير العبادات في أسرار الشهادات ، ج ١ / ٢١٦ ـ ٢٢٠.
كنور المصباح الأبيض ، وحَانَة مني إلتفاتة إلى جبهته الكريمة ، فرأيت نوراً يسطع منها كنور الشمس ، بل أقوى ، فأحرق عيني ، فصرخت بأعلى صوتي؟ قد عميت. فمسح بيده اليمنى الكريمة على عيني ، فردَّ لي بصري ، وأصبح بصري قوياً ، وقال لي : «قاتل بارك الله فيك». فقاتلت الأعداء قتال المستميتين ، وقد قتلت منهم ما يقارب الثلاثين فارساً ، وكنت أضربهم بالسيف فيموتون ، وهم يضربونني وتخرج الدماء مني ولكن لا أموت ، وكان سيدي الحسين عليه السلام يقاتل على الجهة اليمنى ، فحال الفرسان بيني وبين الحسين عليه السلام ، فرأيتهم أحاطوا به ، فحاولت أن أمضي إليه لأخلصه منهم ، وهم يحيطون بي من كل مكان ، فرأيتهم قد أثخنوه بالجراح ، وسقط بأبي وأمي على الأرض ، والعجيب في الأمر أنّ جواد سيدنا الحسين عليه السلام لا يفرّ عنه ولا يهرب ، وكان الجواد متعلقاً بسيدنا الحسين عليه السلام كتعلق الأمّ بولدها ، وبقي يدافع عنه ويضرب برجليه كل فارس يقترب من جسد الحسين عليه السلام ، ورأيت نوراً يخرج من الجواد ، وكان قد أصيب بجراحات كثيرة يخرج منها نور ، وبدا لي كأنّه ليس من خيول الأرض ، حيث إنّه كان مطيعاً لسيدنا الحيسن عليه السلام وهو ملقى على الأرض ، فيأتيه ويشم جراحات الحسين عليه السلام ، ثم يلطخ جبينه بدمه عليه السلام ، إنشغلت بالقتال ولم أرَ الجواد ، وجعلت أنظر إلى الحسين عليه السلام وقد إشترك في قتله ثلاثة ، أحدهم ضربه برمح ، والآخر بسيف ضربات ، ثم نزل الثالث ـ وكان الإمام عليه السلام ملقى على الأرض ـ فضرب برجله صدر الحسين عليه السلام ، ثم أمسك برأس الحسين وذبحه كما تذبح الشاة ، فجئت إلى الرجل وأمسكته من رقبته ودفعته عن جسد سيدي الحسين عليه السلام وقلت : لعنك الله ،
أتدري من قتلت؟ هذا سيد شباب أهل الجنة ، هذه ابن سيد المرسلين وحبيب ربّ العالمين ، كأنّي ألهمت وقلت ذلك على الطبيعة ، فقال : أعطوني مالاً ، وقالوا : أقتله فقتلته. فاستيقظت من النوم مرعوباً محزوناً ، وقد توقّف شعر رأسي ، وأصابني حزن وبكاء عظيم.
بعد ذلك أعطاني الله قوة عجيبة في بصري ، فصرت أرى النملة السوداء في الغرفة الظلماء ، كأنّما في وضح النهار ، وصرت أرى أموراً عجيبة ، وإستمرّ في حديثه قائلاً : كنت أبكي على سيدنا الحسين عليه السلام في ذات ليلة ، وكانت ليلة جمعة ، فدعوت الله عَزّ وجَلّ أن يبلغ روحه مني السلام ، وأنا في أرض بعيدة لا أستطيع زيارة سيد الشهداء عليه السلام ، وفي عالم الرؤيا جاءني رجل مرتدياً عمامة مثل عمامتكم ولباسكم في المنام ، وقال لي : أتريد أن تزور الحسين؟ قلت : نعم. قال : فأخذ بيدي وذهب بي إلى مكان في منزلي لا يوجد فيها أثاث ولا فرش ، بل أرض خالية قال لي : إنظر ، فإذا أنا بحفرة في وسط المنزل. فقال لي : إنظر هذا قبر الحسين عليه السلام ، بحبك للحسين وآله يَسّر لك قبره وأنت في بيتك ، فنزلت إلى هذه الحفرة ، فوجدت فيها حفرة ثانية داخل تلك الحفرة الأولى ، فنزلت ، فرأيت جسداً بدون رأس ، ولمسته بيديَّ هاتين ، فرأيت أنّه لا يوجد موضع من جسده إلا وفيه ضربة سيف ، أو طعنة برمح ، وكان مُقَطّع الأعضاء قُطَعَةً قُطَعَة. والعجب في الأمر أنّ هذه الأوصال المقطعة مخيطة بخيوط سود ، ويخرج دم قانٍ كأنّه قتل في هذه الساعة ، وتفوح منه رائحة طيبة أطيب من رائحة المسك ، لم أشمّ مثلها قبل ذلك اليوم ، فجعلت أبكي عليه ، وإجتمع أهلي على صوت بكائي ، وكان ضمن من غجتمع من أهلي هو خالي ، وكان يشكو ألماً في رجله اليمنى لا يستطيع المشي ، فقلت لهم
وأنا أبكي داخل القبر : إنظروا ما فعل بنو أميّة لعنهم الله ، لقد قطعوا جسده الشريف تقطيعاً ، وأنا في حالة بكاء زاد حزني وبكائي وحبي للحسين وآل الحسين عليه السلام.
وفي الصباح جاء خالي لزيارتنا ، فإذا هو سالم معافى ، فأخبرته بهذه الرؤيا ، فازدادوا يقيناً وحباً لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم» (٤٧٠).
٩ ـ المرأة الزانية التائبة :
ذكر السيد رضي بن نبي القزويني (ره) ، نقلاً عن الشيخ طريح النجفي في كتابه (المقتل) :
«حكى أنّ إمرأة ذات فحش كانت معهودة بالمدينة ، ولها جار وكان مواظباً على مأتم الحسين عليه السلام ، وكان عنده ذات يوم رجال ينشدون ويبكون على الحسين عليه السلام ، فأمر لهم باصطناع طعام ، فدخلت المرأة الفاحشة تريد ناراً ، وإذا بالنار قد إنطفأت من غفلتهم عنها ، فعالجتها تلك الفاحشة بالنفخ ساعة طويلة حتى إتسخت يداها وذرفت عيناها ، فلما إتقدت أخذت منها ومضت لقضاء مآربها ، فلما صار الظهر وكان الوقت صائفاً فرقدت ، وكان لها عادة بالقيلولة ساعة ، وإذا هي ترى طيفاً كأنّ القيامة قامت ، وإذا بزبانية جهنم يسحبونها بسلاسل من نار ، وهم يقولون : يا زانية غضب الله عليكِ وأمرنا أن نلقيكِ في قعر جهنم ، وهي تستغيث فلا تغاث ، وتستجير فلا تجار ، قالت : والله لقد صرت على شفير جهنم ، وإذا برجل أقبل يصيح بهم خَلّوها. قالوا : يا ابن رسول الله ، وما سببه؟ قال : نعم إنّها دخلت على قوم يعملون عزائي ، وقد أوقدت لهم ناراً يعملون بها طعاماً. فقالوا : كرامة لك يا ابن الشافع
__________________
(٤٧٠) ـ معاش ، الشيخ كمال : الحسين ريحانة النبي (ص) / ١٢٣ ـ ١٢٦.