تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٣

الشيخ أمين حبيب آل درويش

تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أمين حبيب آل درويش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١
  الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣

٢ ـ وقال : «نقل لي الشيخ إحسان الفضلي (٥٣٦). سبط السيد محمد رضا الحكيم ـ ، عندما كنت في سوريا ، إذ إلتقينا في مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم فقال : كان عندنا بيت في بغداد ، في منطقة الكرادة منذ عام ١٩٨٠ م ، وفي وسط المنزل كانت شجرة سدر كبيرة. وفي عام ١٩٨٦ م يقول الشيخ الفضلي : حانت مني إلتفاتة إلى الشجرة وإذا يتساقط منها قطرات الدم. وقد لاحظت أنّ الدم قد سال على ساقها مقدار نصف متر ، ثم منها إلى الأرض ، وبعد التدقيق ومتابعة الشجرة بين فترة وأخرى ، وإذا هذا النزف يتفق من الشجرة في جميع ذكرى وفيات الأئمة المعصومين عليهم السلام. وأما في مناسبة شهادة الإمام الحسين عليه السلام ؛ فيستمر النزف من السدرة لمدة أربعين يوماً متتالية.

وقد سألت الشيخ إحسان عن عنوان البيت ، فتفضّل لنا بالعنوان الكامل : بغداد ـ منطقة الكرادة ـ شارع العباسي ـ زقاق ٥ محلة ٩٠٩. ويعقب الشيخ إحسان فيقول : إنّ تقاطر الدم في وفيات المعصومين يشكل دائرة في الأرض قطرها ٢٥ م ، أما في يوم عاشوراء ، فتكبر الدائرة أضعافاً مضاعفة والدم مستمر. وبقيت هذه الظاهرة حتى إنتقلنا من ذلك البيت عام ١٩٩٠ م ، فانقطعت أخبارها» (٥٣٧).

٩ ـ مثير الأحزان ـ للشيخ محمد بن جعفر ابن نما ، ت (٤٦٥ هـ) :

بإسناده عن سليمان بن مهران الأعمش ، قال : (بينما أنا في الطواف أيام الموسم إذا رجل يقول : اللهم اغفر لي وأنا أعلم أنك لا تغفر. فسألته عن

__________________

(٥٣٦) ـ نقلها فضيلة الشيخ إحسان الفضلي في سوريا ، بتاريخ ٤ / ٩ / ٢٠٠٢ م.

(٥٣٧) ـ المصدر السابق / ١٠٤.

٤٤١

السبب فقال : كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام ، فنزلنا أول مرحلة رحلنا من كربلاء على دير للنصارى والرأس مركوز على الرمح ، فوضعنا الطعام ونحن نأكل إذا بكف على حائط الدير يكتب عليه بقلم حديد سطراً بدم :

أترجوا أمّة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فجزعنا جزعاً شديداً ، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذه ؛ فغاب ، فعاد أصحابي) (٥٣٨).

١٠ ـ معالي السبطين ـ للشيخ محمد مهدي الحائري ، ت (١٣٨٤ هـ) :

وقال في حبيب السير : «إنّ اللعين ابن زياد حمل الرأس على يديه وجعل ينظر إليه ، فارتعدت يداه فوضع الرأس على فخذه فقطرت قطرة من الدم من نحره الشريف على ثوبه فخرقه ، حتى إذا وصل إلى فخذه فجرحه وصار جرحاً منكراً فكلما عالجه لم يتعالج حتى إزداد نتناً وعفونة ، ولم يزل يحمل معه المسك لإخفاء تلك العفونة حتى هلك» (٥٣٩).

١١ ـ مناقب آل ابي طالب ـ للشيخ محمد بن علي بن شهر آشوب ، ت (٥٨٨ هـ) :

ابو مخنف في رواية : «لما دخل بالرأس على يزيد ، كان للرأس طيب قد فاح على كل طيب ، ولما نحر الجمل الذي عليه رأس الحسين ، كان لحمه أمرّ من الصبر ، ولما قتل الحسين ؛ صار الوَرْس دماً ، وانكسفت الشمس إلى ثلاث

__________________

(٥٣٨) ـ ابن نما ، الشيخ محمد بن جعفر : مثير الأحزان ، ج ١ / ٩٦.

(٥٣٩) ـ الحائري ، الشيخ محمد مهدي : معالي السبطين ، ج ٣ / ١٠٩.

٤٤٢

أسبات (٥٤٠) ، وما في الأرض حجر إلا وتحته دم ، وناحت عليه الجن كل يوم فوق قبر النبي إلى سنة كاملة» (٥٤١).

١٢ ـ نفس المهموم ـ للشيخ عباس القمي ، ت (١٣٥٩ هـ)

في روضة الشهداء ، ما مُلخصه : «أنّ القوم لما أرادوا أن يدخلوا الموصل ، أرسلوا إلى عامله أن يهيئ لهم الزاد والعلوقة ، وأن يزين لهم البلدة ، فإتفق أهل الموصل أن يهيئوا لهم ما أرادوا ، وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة ، بل ينزلوا خارجها ويسيرون من غير أن يدخلوا فيها ، فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها ، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة ، فقطرت عليها قطرة دم من الرأس المكرم ، فصارت تنبع ويغلي منها الدم كل سنة في يوم عاشوراء ، وكانوا يجتمعون عندها من الأطراف ويقيمون مراسم العزاء والمآتم في كل عاشوراء ، وبقي هذا إلى أيام عبد الملك بن مروان ، فأمر بنقل الحجر فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر ، ولكن بنوا على ذلك المقام قبة سموها مشهد النقطة» (٥٤٢).

نتيجة البحث :

وبعد عرض هذه الروايات والنصوص الكثيرة ، الواردة في المصادر الإسلامية ، لا ينبغي التشكيك في هذه القصص المذكورة ، فإنّ رؤيا الدم بين الحين والآخر ، دليل على مظلومية الحسين عليه السلام ، بل رسالة إنذار عن الإبتعاد عن نهج الحسين ونهضته المباركة ، التي كانت السبب في إرواء شجرة الإسلام بدماء الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الكرام ، ولذا نلاحظ شيعة الحسين عليه السلام يزدادون تعلقاً بإمامهم الحسين عليه السلام كلما رأوا معجزة وكرامة له. بل نلاحظ

__________________

(٥٤٠) ـ أي ثلاثة أسابيع.

(٥٤١) ـ ابن شهر آشوب ، الشيخ محمد بن علي : مناقب آل ابي طالب ، ج ٤ / ٦١.

(٥٤٢) ـ القمي ، الشيخ عباس : نفس المهموم / ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٤٤٣

هذا المعنى عند المنصفين من غيرهم ، ومن الشواهد على ذلك ما يترنم به الشعراء في فلسفتهم للدم الطاهر ، نذكر من ذلك ما يلي :

١ ـ الدكتور الشاعر محمد إقبال (٥٤٣).

عرف الدكتور محمد إقبال بفلسفة الذات ، التي تهدف إلى إدراك الذات وتقويتها بالقرب إلى الله ، بحيث تكون الحياة رقي مستمر ، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها ، ويرى الحياة في العمل والجهاد ، والموت في الإستكانة والسكون ، وهذا ما نلاحظه في قصائده في تمجيد الشخصيات الإسلامية ، خصوصاً الشهداء منهم ، حيث قال :

ارفعوا الورد والشقائق

اكليل ثناء على ضريح الشهيد

ذاك لون الدم الذي أنبت

المجد وروّى به حياة الخلود (٥٤٤)

على الأمم أن لا تنسى عظماءها ـ وخصوصاً الشهداء ـ ولو بإهدائها الورد فوق أضرحتها رمزاً للوفاء ، فإنّهم بذلوا دماءهم ، من أجل عزكم وشرفكم. فكما أنّ الورد يُعطي جمالاً على ضريح الشهيد ، فإنّ الدم يتلألأ

__________________

(٥٤٣) ـ شاعر نابغة وفيلسوف باكستاني مبدع ، وممن شغف بحب الإسلام. ولد في مدينة سيالكوت عام (١٨٧٣ م) الموافق (١٢٨٩ هـ) ، درس في مدارس عالية وكليات شهيرة ، فانتدب لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية في لاهور ، ثم اُختير لتدريس الفلسفة واللغة الإنكليزية بكلية الحكومة التي تخرج فيها ، ولبث فيها عشر سنوات. ثم سافر إلى أوروبا بعدما دَوّى صوته في محافل الأدب ، سافر إلى إنكلترا وإلتحق بجامعة كمبردج ، درس الفلسفة ونال درجة فلسفة الأخلاق ، ثم سافر إلى ألمانيا فتعلم الألمانية ، وإلتحق بجامعة مونخ وكتب رسالته (تطور ما وراء الطبيعة في فارس) ، ثم عاد إقبال إلى لندن فدرس القانون ، وحاز إمتحان المحامات ، وإلتحق بمدرسة العلوم السياسية زماناً. ورجع إلى بلاده عام (١٩٠٨ م) حيث عمل بالمحامات ومكث سنيناً عميداً لكلية الدراسات الشرقية ، ورئيساً لقسم الدراسات الفلسفية. وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان سنة (١٩٣٨ م) الموافق لعام (١٣٥٧ هـ) توفي في لاهور.

(٥٤٤) ـ الأعظمي ، محمد حسين : فلسفة إقبال / ٧٣.

٤٤٤

جمالاً على مجدكم وفخركم ، فدماء الشهيد أغلى هدية قدمها لكم. ويظهر فلسفة الذات ومدى تقويتها بالقرب إلى الله بقوله :

في الكعبة العليا وقصتها

نبأ يفيض دما على الحجر

بدأت باسماعيل عبرتها

ودم الحسين نهاية العبر (٥٤٥)

تظهر عظمة الذات بالتضحيات والدماء الغالية ، لأجل المبدأ والعقيدة ، وأبرز مقال لها قصة تبدأ بالدم وتنتهي به ، بدأت بإسماعيل الذي أراد أن يضحي بنفسه في مقام التسليم لله ، فهي قصة دامية وإن لم تُرَقْ فيها الدماء ، وإنتهت بذكرى الحسين عليه السلام الذي جاءت إلى الحرم تقطر دماً في كربلاء ، فكلا الدمين مبداهما ومنهاهما الكعبة مجمع العباد لله عَزّ وجَلّ.

٢ ـ أمير الشعراء (شَوْقِي) (٥٤٦) :

عرف أحمد شوقي باحترامه وإجلاله لأهل البيت عليهم السلام ، وهذا واضح في ثنايا أشعاره ، يتفجع لما أصابهم ، ويتألم لرزاياهم ، نذكر من ذلك ما يلي :

أ ـ في منظومته الرائعة (دول العرب وعظماء الإسلام) يقول :

__________________

(٥٤٥) ـ المصدر السابق.

(٥٤٦) ـ أحمد شوقي بن علي ، بن أحمد شوقي أمير الشعراء ، وشاعر الأمراء ، بايعه أدباء عصره أميراً للشعراء في حفل أقيم في القاهرة عام (١٩٢٧ م). ولد في القاهرة عام (١٨٦٨ م). نشأ في ظل البيت المالك بمصر ودرس في بعض المدارس الحكومية ، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق ، وأرسله الخديوي توفيق سنة (١٨٨٧ م) إلى فرنسا ، فتابع دراسة الحقوق واطلع على الأدب الفرنسي ، وعاد سنة (١٨٩١ م) ، فعيّن رئيساً للقلم الأفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي ، وندب سنة (١٨٩٦ م) ، لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجنيف ، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى ، ونُحي عباس حلمي عن (خديوي) مصر ؛ أوعز إلى صاحب الترجمة بإختيار مقام مصر ، فسافر إلى أسبانيا سنة (١٩١٥ م) وعاد بعد الحرب فجعل من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي في القاهرة عام (١٩٣٢ م) الموافق لعام (١٣٥١ هـ).

٤٤٥

هذا الحسين دمه بكربلاء

رَوّى الثرى لما جرى على ظما

واستشهد الأقمار أهل بيته

يهوون في الترب فرادى وثُنا

ابن زياد ويزيدُ بغيا

والله والأيام حربُ من بغى

لولا يزيد بادئاً ما شربت

مروانُ بالكاس التي بها سقى (٥٤٧)

وتظهر فلسفة الدم في البيت الأول ؛ حيث أوضح أنّ الحسين عليه السلام قدّم دمه الغالي فداء للدين والعقيدة وعزّة وشرف الإسلام والإنسانية ، وهو مع ذلك ظمآن.

ب ـ ويقول في عنوان (الحرية الحمراء) :

في مهرجان الحق أو يوم الدم

مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليها نور نورُ دماتها

كدم الحسين على هلال محرم

يوم الجهاد بها كمصدر نهاره

متمايلُ الأعطاف مبسَمُ النغم (٥٤٨)

ويُظهر في هذه الأبيات أنّ دم الحسين عليه السلام نور يستضاء به ، لدم كل شهيد كافح من أجل الحق وحرية الإنسانية في جميع العصور ، ويطيب له أن يربط الحوادث بيوم الحسين عليه السلام الذي لا يغيب عن خاطره. يقول في رواية (مجنون ليلى) : «كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب ، بعد أن قتل أبوه علي ، ومات أخوه الحسن .. وكذلك ظل الحسين قائماً في نفوس هناك ، صورة مقدّسة لبداوة الإسلام تستمد أنظر ألوانها من صلته القريبة بجده

__________________

(٥٤٧) ـ شبّر ، جواد : أدب الطف ، ج ٩ / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٥٤٨) ـ نفس المصدر.

٤٤٦

رسول الله ، وبنوته لرجل كان أشدّ الناس زهداً وإستصغاراً لدنياه ، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق بإسم الحسين» (٥٤٩).

٣ ـ أبو العَلا المَعرِّي (٥٥٠)

وتظهر فلسفة المَعرِّي في دم علي والحسين عليهما السلام في قوله :

وعلا الأفق من دماء الشهيدين

علي ونجله شاهدانِ

فهما في أواخر الليل فجران

وفي أولياته شفقان

ثبتاً في قميصه ليجيئ الحشر

مستعدياً إلى الرحمان (٥٥١)

إنّ الحمرة التي في الفجر وهي بداية اليوم ، هي علامة الشفق على نهاية اليوم مستمرة إلى الحشر ، علامة ثابتة على قميص الحسين عليه السلام ، حينما تأتي به أمّة شاكية إلى الجبّار عَزّ وجَلّ مظلومية ولدها. كما هو مذكور في الروايات. ذكر سبط بن الجوزي : «قال سليمان بن يسار : وجد حجر عليه مكتوب بالنظم ، وهو هذا :

__________________

(٥٤٩) ـ المصدر السابق / ١٤٢.

(٥٥٠) ـ أبو العلا ، أحمد بن عبد الله ، بن سليمان المعري ، الشاعر الفيلسوف ، ولد بمعرة النعمان سنة (٣٦٣ هـ) ، وجُذِرَ في الثالثة من عمره فكف بصره ، وتعلم على أبهي وغيره من أئمة زمانه ، وكان يحفظ كل ما يسمعه من مرّة واحدة. وقال الشعر وعمره إحدى عشرة سنة ، ودخل بغداد وأقبل عليه السيد المرتضى ، المتوفي سنة (٤٣٦ هـ) إقبالاً عظيماً ثم جفاه ، ولما رجع إلى المعرّة أقام ولم يبرح منزله وسمى نفسه رهين المحبسين ـ محبس العمى ، ومحبس المنزل ـ وبقي فيه مكباً على التدريس والتأليف ونظم الشغر وما يخرج منه مدّة (٤٥ سنة) ، وعاش عزباً ، وعمّر إلى أن مات سنة (٤٤٩) بالمعرة ، وأوصى أن يكتب على قبره :

هذا جُناهُ ابي عليّ

وما جنيت على أحد

(٥٥١) ـ شُبّر ، جواد : أدب الطف ، ج ٢ / ٢٩٨.

٤٤٧

لابد أنْ ترد القيامة فاطم

وقميصها بدم الحسين مُلطّخ

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

والصور في يوم القيامة يُنفخ» (٥٥٢)

قال السمهودي : «وهو شاهد لما أخرجه ابن الأخضر في (العترة الطاهرة) : من حديث علي الرضا ، عن أبيه موسى الكاظم ، عن أبيه جعفر الصادق ، عن أبيه محمد الباقر ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي بن أبي طلب (رضي الله عنهم) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ، ومعها ثياب مصبوغة بدم ، فتتعلق بقائمة من قوائم العرش فتقول : يا عدل ، احكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيحكم لابنتي وربِّ الكعبة)» (٥٥٣).

الثاني ـ لماذا التركيز على الدم :

يتضح جواب ذلك ، من خلال دراسة العناوين الآتية :

أولاً ـ أهمية الدم لحياة الإنسان :

وتظهر هذه الأهمية بعد دراسة وبحث ما يلي :

أ ـ الدم في التشريع الإسلامي :

الدم : سائل أحمر يجري في قلب الحيوان الفقاري وشراينه وأوردته وأوعيته الشعرِية ، حاملاً الغذاء والأوكسجين إلى جميع أجزاء الجسم ، وناقلاً منها ضروب الفضلات والنفايات إلى أعضاء الإخراج.

يتألف من أربعة عناصر هي : البلازما والكريات (الكريات الحمر) والكريْضات (الكريات البيض) ، واللويحات. فأما البلازما ـ وهي الجزء المائع

__________________

(٥٥٢) ـ ابن الجوزي ، عبد الرحمن بن علي : تذكرة خواس الأمة / ١٥٥.

(٥٥٣) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : جواهر العقدين / ٤٢.

٤٤٨

من الدم ـ ، فتتألف من الماء (٩٠ %) والبروتين (٩ %) والسكر والملح والبولة Urea ، والحامض البولي Uricacid وغيرها. وأما الكريات الحمر ـ وتحتوي على الهيموغلوبين ، أو اليحمور ، فتحمل الأوكسجين إلى جميع أنسجة الجسد وأعضائه. في حين تعمل الكريات البيض ـ وهي أنواع متعددة ـ على محاربة الجراثيم الناقلة للأمراض. أما اللويحات ـ وهي أقراص بروتوبلازمية بالغة الصغر ـ ، فتساعد على تجلط الدم ومنه النزف» (٥٥٤).

وبعد معرفة التركيب العام للدم ، تظهر لنا بعض الحكم الصحية في تحريم ونجاسة الدم ، ولكن ينبغي التنبيه على أنّ كل ما توصلنا إليه ليس هو الحكمة الواقعية التي هي في علم الغيب ، وإنما هي دراسات يطمع من خلالها العلم الحديث الوصول إلى الحقيقة ، فتراه بين فترة وأخرى يكتشف الجديد من أسرار الحياة. إذن ، سنعرض ما ذكره الطب الحديث حول الدم كالتالي :

«ثبت علمياً أنّ الدم هو أصلح الأوساط لنمو شتى الجراثيم ، كما أنّه أيضاً يحمل مخلفات الجسم التي تنتج عن الفعل الهدمي Catabolism في الأنسجة المختلفة.

كما أنّ شرب الدم المسفوح قد يؤدي إما إلى إرتفاع البولينا بالدم مما يهدد بحدوث فشل كلوي ، أو إرتفاع نسبة الأمونيا في الدم ، وحدوث غيبوبة كبدية ، ويحتوي الدم على مواد تدعى انتيجنات ، وبتكرار شرب الدم قد تحدث حالة حساسية شديدة من تفاعل الانتيجنات مع الأجسام المضادة. ويحتوي الدم إلى جانب ذلك على الكثير من المواد السامّة التي تعمل الكبد على تخليص الجسم منها. والدم يحتوي على جراثيم في كثير من الأحيان ، مما يحدث بالمعدة والأمعاء

__________________

(٥٥٤) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٩٧.

٤٤٩

تهيجاً في أغشيتها ، مما يسبب أخطر الأمراض ؛ لذا كان للتشريع القرآني نظرة علمية فيت حريمه لتناول الدم» (٥٥٥). وبعد عرض هذا النص العلمي حول الدم ، يمكن تقسيم حكم الدم في التشريع الإسلامي إلى ما يلي :

١ ـ النجاسة :

نَصّ الفقهاء على نجاسة الدم من كل حيوان له نفس سائلة ، بلا فرق في ذلك بين الإنسان وغيره ، ولا بين المحلل أكله ومحرّمه ، صغيراً كان أم كبيراً ، قليلاً أم كثيراً. حسب التفصيل المذكور في الرسائل العملية للفقهاء.

وإستثنوا من النجاسة دم الحيوان الذي ليس له نفس سائلة ، كدم السمك والبرغوث والقمل ونحوها ، والدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المقدار المتعارف منها بعد الذبح. فإنّ هذا الدم طاهر لا تترتب عليه النجاسة.

٢ ـ حرمة الأكل والشرب :

الدم نجس لا يجوز أكله ولا شربه ، وعلى هذا ، فالدم الموجود في اللبن عند الحلب ، فهو نجس وحرام أكله ، وكذلك الدم الموجود في البيضة ، بل كل طعام أو شراب تنجس بالدم.

٣ ـ حرمة الجنس :

إستفاد الفقهاء حرمة مقاربة الزوجة أثناء الحيض ، من الآية الشريفة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ) [البقرة / ٢٢٢].

وقد إستفاد الطب الحديث من هذه الآية الشريفة ـ خصوصاً من لفظة (أذى) ـ ، ترتب الضرر على المرأة والرجل ، كالتالي :

__________________

(٥٥٥) ـ عبد الصمد ، محمد كمال : الإعجاز العلمي «القرآن الكريم» / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٤٥٠

أ ـ الأضرار المترتبة على المرأة :

١ ـ إنّ إدخال القضيب إلى الفرج والمهبل في أثناء الحيض ، ليس إلا إدخالاً للميكروبات في وقت لا تستطيع فيه أجهزة الدفاع أن تقاوم. كما أنّ وجود الدم في المهبل والرحم يساعد على نمو تلك الميكروبات وتكاثرها.

٢ ـ إمتداد الإلتهابات إلى قناتي الرحم فتسدها ، أو تؤثر على شعيراتهما الداخلية ، التي لها دور كبير في دفع البويضة من المبيض إلى الرحم ، مما يؤدي إلى العقم ، أو إلى الحمل خارج الرحم .. وهو أخطر أنواع الحمل على الأطلاق.

٣ ـ إمتداد الإلتهاب إلى قناة مجرى البول ، فالمثانة ، فالحالبين ، فالكلى مما يسبب أمراضاً خطيرة ومزمنة في الجهاز البولي.

٤ ـ يصاحب الحيض آلام تختلف في شدتها من إمرأة إلى أخرى ، وتصاب كثير من النساء بحالة من الكآبة والضيق أثناء الحيض وخاصة عند بدايته ، وتكون المرأة عادة متقلبة المزاج ، سريعة الإهتياج قليلة الإحتمال ، كما أنّ حالتها العقلية والفكرية تكون في أدنى مستوى لها.

٥ ـ تقل الرغبة الجنسية لدى المرأة ، وخاصة عند بداية الطمث ، بل إنّ كثيراً من النساء يكن عازفات تماماً عن الإتصال الجنسي أثناء الحيض ، ويملن إلى العزلة والسكينة ، إذ أنّ فترة الحيض هي فترة نزيف دموي من قعر الرحم .. ، وتكون الأجهزة التناسلية بأكملها في حاله شبه مرضية ، فالجماع في هذه الآونة ليس طبيعياً .. ، ويؤدي إلى كثير من الأذى.

٤٥١

ب ـ الأضرار المترتبة على الرجل :

١ ـ إنّ إدخال القضيب إلى المهبل المليء بالدماء يؤدي إلى تكاثر الميكروبات ، وإلتهاب قناة مجرى البول لدى الرجل.

٢ ـ وقد ظهر بحث حديث قَدّمه البروفسور عبد الله باسلامه ، إلى المؤتمر الطبي السعودي السادس ، جاء فيه : إنّ الجماع أثناء الحيض قد يكون أحد أسباب سرطان عنق الرحم ، ويحتاج الأمر إلى مزيد من الدراسة للتأكد من ذلك.

٣ ـ وتنتقل الميكروبات من قناة مجرى البول إلى البروستاتا والمثانة .. وإلتهاب البروستاتا سرعان ما يزمن ؛ لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة والتي نادراً ما يصلها الدواء بكمية كافية لقتل الميكروبات المختفية في تلافيفها .. فإذا ما أزمن إلتهاب البروستاتا فإنّ الميكروبات سرعان ما تغزو بقية الجهاز البولي التناسلي ، فتنتقل إلى الحالبين ، ومنه الى الكلى .. وما أدراك ما إلتهاب الكلى المزمن ، إنّه العذاب المستمر حتى يحين الأجل .. ولا علاج.

٤ ـ وقد ينتقل الميكروب من البروستاتا إلى الحويصلات المنوية ، فالحبل المنوي ، فالربخ فالخصيتين .. كما أن الآلام المبرحة التي يعانيها المريض تفوق ما قد ينتج عن ذلك الإلتهاب من عقم. هذا موجز للأذى الذي يصيب كلاً من المرأة والرجل ، إذا خالفنا الأوامر الإلهية وقرار منع الوطء في الحيض» (٥٥٦).

٤ ـ حرمة سفك الدم :

حَرّمت الشريعة الإسلامية سفك الدم المحترم ، إلا ما إستثني في حال القصاص والجهاد ، والدفاع عن النفس والعرض ونحو ذلك ، كما أكد على

__________________

(٥٥٦) ـ البارّ ، الدكتور محمد علي : خلق الإنسان بين الطب والقرآن / ١٠١ ـ ١٠٥ «بتصرف».

٤٥٢

ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) [البقرة / ٨٤]. وقوله تعالى : (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة / ٣٠]. فالمراد من سفك الدماء في الآيتين هو :

إراقة الدماء بغير حق ؛ أي من غير إجازة شرعية ، حيث أنّ الإجازة في موارد معدودة ، كالقصاص والجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن النفس والعرض ، ونحو ذلك. كما هو موضّح في كتب الفقه الإسلامي.

٥ ـ بيع الدم :

ذكر الفقهاء في (المعاملات) : يجوز بيد الدم لمعالجة المرضى المحتاجين إليه. هذه بعض الأحكام المتعلقة بالدم ، ومن أراد التوسع ؛ فعليه بمراجعة كتب الفقهاء في هذا الموضوع.

ج ـ تأثير الدم على طباع وشخصية الإنسان :

أثبت العلم الحديث مدى تأثير الدم على طباع وميول الإنسان ، فقد : «أثبتت المختبرات العلمية في اليابان ، أنّ دم كل إنسان يكشف عن طباع صاحبه وميوله وقدراته العملية ، ومن تحليل هذا الدم يمكن تعيين كل فرد في العمل ، أو في الوظيفة التي تتفق مع ميوله وطاقته .. وفي هذا الصدد يذكر الدكتور الياباني (توشيتا كانومي) في كتابه حول تحليل أنواع الدماء ، أنّه قد أتم دراسة ثلاثمائة ألف نوع من الدماء ، وعلاقة كل نوع بشخصية صاحبه ، وخلص من دراسته بتقسيم عينات الدماء كما يلي :

ـ النوع O : يدل على إستقامة صاحبه ووثوقه من نفسه ، وأصحابه يصلحون لشئون الإدارة والقيادة.

٤٥٣

ـ النوع A : يتميز أصحابه بالشدة والعنف والصرامة ، وهؤلاء يصلحون في الغالب للأعمال الفنية والهندسية.

ـ النوع B : يتميز أصحابه بالقدرة على الخلق والإبتكار والإختراع ، وهؤلاء يصلحون للعمل في المختبرات العلمية والطبية والصناعية.

ـ النوع AB : يتميز أصحابه بالطموح والجرأة والإقدام ، وهؤلاء يصلحون في المجالات العسكرية والحربية» (٥٥٧).

«وتوصل علماء السوفيت إلى إكتشاف فريد من نوعه .. وهو الربط بين بعض الصفات الشخصية للأفراد وحالتهم الصحية وفصيلة دمهم .. فذكروا على سبيل المثال :

أنّ فصيلة (A) هم أصدقاء أوفياء ومثابرون نجباء يتدرجون بنجاح في سلم الوظيفة أو المهنة .. وبرغم ذلك فصحتهم هشة ، كما أنهم معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بمرض القلب وتصلب الشرايين والسكر.

أما أصحاب الدم (B) ، الرجال فيتميزون بحساسية الطباع ، والتفوق في العمل ، وأما النساء فسريعات التقلب ، شديدات الغيرة ، ويخضعن لأهوائهن بشكل كبير.

أما أصحاب فصيلة الدم (O) الناذرة التي تعطي لجميع الفصائل ، ولكن لا تأخذ إلا من فصيلتها .. فيتمتع أصحابها بالنشاط والعمل الدؤوب» (٥٥٨).

كما أنّ الدماء المتكونة من الأغذية المحرمة تحرف مسار الإنسان الطبيعي إلى طباع ونوعية الغذاء المحرم ، فمثلاً الإنسان الذي يتغذى على لحوم الحيوانات

__________________

(٥٥٧) ـ عبد الصمد ، محمد كامل : ثبت علمياً ، ج ٤ / ١٣٤.

(٥٥٨) ـ نفس المصدر ، ج ٢ / ١٨٧.

٤٥٤

المفترسة يتطبع بطباعها ، وإلى هذا يشير العلم الحديث : «كما أثبت علم التغذية الحديث ، أنّ الشعوب تكتسب بعض صفات الحيوانات التي تأكلها ؛ لإحتواء لحومها على سميات ومفرزات داخِلية تسري في الدماء وتنتقل إلى معدة البشر فتؤثر في أخلاقياتهم. فقد تبين أنّ الحيوان المفترس عندما يهمّ بإقتناص فريسته تفرز في جسمه هرمونات ومواد تساعده على القتال وإقتناص الفريسة .. وقد لوحظ على الشعوب آكلات لحوم الجوارح أو غيرها من اللحوم التي حَرّم الإسلام أكلها ـ أن تصاب بنوع من الشراسة والميل إلى العنف ولو بدون سبب إلا إلى الرغبة في سفك الدماء ، ولقد تأكدت الدراسات والبحوث من هذه الظاهرة على القبائل المتخلفة التي تستمرئ أكل مثل تلك اللحوم إلى حد أنّ بعضها يصاب بالضراوة فيأكل لحوم البشر ، كما إنتهت تلك الدراسات والبحوث أيضاً إلى ظاهرة أخرى في هذه القبائل ، وهي إصابتها بنوع من الفوضى الجنسية وإنعدام الغيرة على الجنس الآخر ، فضلاً على عدم إحترام نظام الأسرة ومسألة العرض والشرف .. وهي حالة أقرب إلى حياة تلك الحيوانات المفترسة ، حيث أنّ الذكر يهجم على الذكر الآخر من القطيع ويقتله ، لكي يحظى بإناثه إلى أن يأتي ذكر آخر أكثر شباباً وحيوية وقوة فيقتل المغتصب السابق وهكذا ..» (٥٥٩).

ثانياً ـ قداسة الدم :

مما تقدم نستفيد أنّ الدم يحكي طباع الإنسان وينبأ عن شخصيته من خير وشر ، فالإنسان الذي مصدر دمه من الحرام ، فهو شرير يفعل فعل الحيوانات المفترسة ، والطيور الجارحة ، وهكذا ينطبق على أعداء ومحاربي سيد الشهداء

__________________

(٥٥٩) ـ عبد الصمد ، محمد كامل : الإعجاز العلمي في السنة / ٨٤ ـ ٨٥.

٤٥٥

عليه السلام فقد عَبّر عنهم في خطبته بكربلاء (أملئت بطونكم من الحرام؟!!) وخطبته بمكة المكرمة : (كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا ، وأجربة سغبا). وقد مضى شرح هذه الخطبة في بداية هذا الجزء. والإنسان الذي مصدر دمه من الحلال ، فينبأ عن طيب عنصره وإنسانيته التي يريدها الله عَزّ وجَلّ. وبعد هذا التمهيد ؛ تظهر لنا قداسة الدم كالتالي :

أ ـ التبرك بدم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) :

إنّ بعض البشر لهم تركيبة إلهية خاصة ، وهم الأنبياء والأوصياء ، وفي طليعتهم نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، الذين نَصّ القرآن الكريم على عصمتهم وطهارتهم في قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الآحزاب / ٣٣].

فدمهم مُقدّس له مكانة عند الباري عَزّ وجَلّ لا يجوز سفكه ولا التعدي عليه. ومن الشواهد على قداسته عند المسلمين أنهم يتبركون بدم أشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في الروايات التالية :

١ ـ شرب مالك بن سنان ، بن عبيد الأنصاري الخزرجي ـ والد أبي سعيد الخدري ـ ، دمه (صلى الله عليه وآله) يوم احد حين مسح الدم عن وجهه ، ثم إزدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب أن ينظر إلى من خالط دمي دمه ، فلينظر إلى مالك بن سنان) (٥٦٠).

__________________

(٥٦٠) ـ الأحمدي ، الشيخ علي بن حسين : التبرك / ٥٦ (عن الإصابة ج ٢ / ٦ ، وأسد الغابة / ٣٤٧ ، وكنز العمال ج ١٩ / ١١٩.

٤٥٦

وفي رواية (البحار) هكذا : (قال : وأما الدم ؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحتجم مرة فدفع الدم الخارج منه إلى أبي سعيد الخدري ، وقال له : غَيّبُه؟ فقال : غيبته في وعاء حريز ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : إياك وأن تعود لمثل هذا ، ثم إعلم أنّ الله قد حَرّم على النار لحمك ودمك لما إختلط بدمي ولحمي ، فجعل أربعون من المنافقين ـ يهزؤن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون : زعم أنّه قد أعتق الخدري من النار لاختلاط دمه بدمه ، وما هو إلا كذاب مفتر! وأما نحن فنستقذر دمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما إنّ الله يعذبهم بالدم ويميتهم به ، وإن كان لم يمت القبط. فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى لحقهم الرعاف الدائم ، وسيلان الدماء من أضراسهم ، فكان طعامهم وشرابهم يختلط بالدم فيأكلونه ، فبقوا كذلك أربعين صباحاً معذبين ثم هلكوا) (٥٦١).

٢ ـ إنّ عبد الله بن الزبير قال : (إحتجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت الدم لأهريقه ، فلما برزت حسوته ، فلما رجعت ؛ قال : ما صنعت؟ قلت : جعلته في أخفى مكان. قال : ألفاك شربت الدم؟ ثم قال : ويل للناس منك ، وويل لك من الناس) (٥٦٢).

٣ ـ عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : (إحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حجمه مولى لبني بياضه وأعطاه ، (ولو) كان حراماً ما أعطاه ، فلما فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أين الدم؟ قال : شربته يا رسول الله. فقال : ما كان ينبغي لك أن تفعله ، وقد جعله الله لك حجاباً من النار) (٥٦٣).

__________________

(٥٦١) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ١٧ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٥٦٢) ـ نفس المصدر ، ج ١٨ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٥٦٣) ـ نفس المصدر ، ج ٥٩ / ١١٩.

٤٥٧

٤ ـ عن أبي عبد الله ، جعفر الصادق ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال : (ما إشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعاً قط إلا كان مفزعة إلى الحجامة. وقال أبو طيبة : حجمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاني ديناراً وشربت دمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أشربته؟ قلت : نعم. قال : وما حملك على ذلك؟ قلت : أتبرك به. قال : أخذت أماناً من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة والله ما تمسك النار أبداً) (٥٦٤).

ـ نظرة في هذه الروايات :

بعد عرض هذه الروايات ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

١ ـ نلاحظ أنّ قسماً من الروايات مفادها ، أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على من شرب دمه للتبرك ، بل أقرّهم على ذلك ، فقال لمالك بن سنان : (من أحب أن ينظر إلى من خالط دمي دمي ؛ فلينظر إلى مالك بن سنان) ، وقال لمولى بني بياضه : (وقد جعله الله لك حجاباً من النار) ، وقال لأبي طيبة (أخذت أماناً من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة ، والله ما تمسك النار أبداً).

٢ ـ ينكر على بعضهم شرب الدم من حيث حرمته ، فقال لسالم الحجام : (يا سالم ، أما علمت أنّ الدم حرام أكله ، أو ويحك يا سالم أما علمت أنّ الدم كله حرام لا تعد) (٥٦٥) وقال لعبد الله بن الزبير : (ويل للناس منك ، وويل لك من الناس ، والنتيجة التي توصلنا إليها :

إنّ جمعاً من الصحابة شربوا من دمه عليه السلام تبركاً وتعظيماً لمقامه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما المنافقين الذين قالوا : (زعم أنّه قد أعتق الخدري من النار ، لإختلاط دمه

__________________

(٥٦٤) ـ المصدر السابق.

(٥٦٥) ـ الأحمدي ، الشيخ علي بن حسين : التبرك / ٥٦ (عن السيرة الحلبية ، ج ٢ / ٢٤٨ ، وتبرك الصحابة / ١٥).

٤٥٨

بدمه ، وما هو إلا كذاب مفتر ، وأما نحن فنستقذر دمه) ؛ فدعا عليهم بقوله (أما إنّ الله يعذبهم بالدم ويميتهم به).

ب ـ قداسة دم الحسين (عليه السلام) :

إنّ الدم أغلى وأثمن شيء في جسد الإنسان ، إذا فقد فقدت معه الروح ، فعلى هذا من يبدي إستعداده لبذل دمه في سبيل الدين والعقيدة ، فدمه مقدس. ولذا أعلن سيد الشهداء هذا المبدأ منذ بداية مسيره إلى كربلاء ، فقال : (من كان باذلاً فينا مهجته ، موطناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا) (٥٦٦).

وإطلاق القداسة على دم الشهداء ، باعتبار تعاملهم مع الله عَزّ وجَلّ ؛ ولذا كافأهم بالمغفرة والرحمة مع أول قطرة تراق من دمهم ، ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام : (مَن قتل في سبيل الله لم يُعرِّفه الله شيئاً من سيئاته) (٥٦٧).

وفي الحديث النبوي الشريف : (الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين) (٥٦٨).

وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام : (كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدين ، فإنّه لا كفارة له إلا أداؤه ، أو يقضي صاحبه ، أو يعفوا الذي له الحق) (٥٦٩).

أي أنّ الحق ينقسم إلى قسمين : حق الله عَزّ وجَلّ ، وحق الناس. فحق الله تشمله المغفرة الإلهية. وأما حق الناس ، كالدين ، فيحتاج إلى عفو صاحب الحق أو أدائه ، حتى تتحقق المغفرة.

__________________

(٥٦٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٩٤.

(٥٦٧) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ١٥ / ١٦ (باب ١ ـ من ابواب جهاد العدو ـ حديث ١٩).

(٥٦٨) ـ الرّيشهري ، محمد : ميزان الحكمة ، ج ٥ / ٢٠٠٨.

(٥٦٩) ـ نفس المصدر.

٤٥٩

فمقام الشهادة يحتاج إلى الإبتعاد عن حقوق الناس ، وإلى هذا يشير الحديث الذي رواه موسى بن عمير ، عن أبيه قال : (أمر الحسين منادياً فنادى : لا يقتل معنا رجل عليه دين. فقال رجل : إنّ إمرأتي ضمنت ديني. فقال الحسين عليه السلام : وما ضمان إمرأة) (٥٧٠).

إذن ، فمقام الشهادة يحتاج إلى تصفية حقوق الناس ، حتى يكون الإنسان مرشحاً لهذه المنزلة الرفيعة عند الله عَزّ وجَلّ ، وقد أشارت الروايات إلى هذه المنزلة ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ في الحديث النبوي : (ما من نفس تموت لها عند الله خير يَسُرُّها أنّها ترجع إلى الدنيا ، ولا أنّ لها الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد ؛ فإنّه يَتمنّى أن يرجع فيُقتل في الدنيا ، لما يرى من فضل الشهادة) (٥٧١).

٢ ـ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : (ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وأنّ له ما على الأرض من شيء ، غير الشهيد ، فإنّه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة) (٥٧٢).

وقد ورد في زيارات الحسين عليه السلام تعابير من هذا القبيل ، نذكر منها ما يلي :

(وَاَشْهَدُ اَنَّ الَّذينَ سَفَكُوا دَمَكَ ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَكَ ، مَلْعُونُونَ مُعَذَّبُونَ عَلى لِسانِ داوُدَ ، وَعيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدْونَ) (٥٧٣).

__________________

(٥٧٠) ـ المرعشي ، السيد شهاب الدين : ملحقات إحقاق الحق ، ج ١١ / ٤٣٧.

(٥٧١) ـ الرّيشهري ، محمد : ميزان الحكمة ، ج ٥ / ٢٠٠٩.

(٥٧٢) ـ نفس المصدر.

(٥٧٣) ـ القمي ، الشيخ عباس : مفاتيح الجنان / ٥٢١.

٤٦٠