كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

كتاب الصيد والذّبائح

٨١

كتاب الصيد والذّبائح

قال الله تعالى « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً » (١) فأباح تعالى صيد البحر مطلقا لكل أحد ، وأباح صيد البرّ إلّا في حال الإحرام.

وقال تعالى « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » (٢).

وقال « يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » (٣) الى قوله « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » (٤) وهذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد وأكل الصيد ، لأنّها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد ، وأكل ما تصيد وتقتل ، إذا كان معلما ، لانّه لو لم يقتله لما جاز اكله ، حتى يذكى ، معلما كان أو غير معلم.

وأيضا على ذلك إجماع الأمّة.

فأما ما يجوز الاصطياد به ، فعندنا لا يجوز الاصطياد بشي‌ء من الجوارح الّا الكلب المعلم فقط ، دون ما عداه ، سواء كان من جوارح السّباع ، أو جوارح الطير ، يدل على صحة ما قلناه بعد إجماعنا ، قوله تعالى « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » وهذا نصّ صريح على انّه لا يقوم مقام الكلاب في هذا الحكم غيرها ، لانّه تعالى لو قال وما علمتم من الجوارح ولم يقل مكلّبين ، لدخل في هذا الكلام كل جارح من

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١.

(٣ و ٤) سورة المائدة ، الآية ٤.

٨٢

طير وبهيمة ، ذي ظفر ، وناب ومخلب ، وانّما اتى بلفظ مكلبين ، وهي تخص الكلاب ، لأنّ المكلّب ، هو صاحب الكلاب بلا خلاف بين أهل اللّغة ، فعلمنا انّه تعالى لم يرد بالجوارح جميع ما يستحق هذا الاسم ، وانّما أراد بالجوارح الكلاب خاصّة ، ويجرى ذلك مجرى قولهم ركب القوم مهاريهم ، مبقرين ، أو مجمرين ، فإنه لا يحمل وان كان اللفظ الأول عاما ، الّا على ركوب البقر والجمازات ، وليس لأحد ان يقول المكلّب المضرى ، والممرّن ، والمغرى قلنا (١) هذه لفظة عربية مشتقة من الكاف واللام والباء ، فلا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز ، ولا يتكلّم فيما طريقه اللغة ، إلّا أهلها.

قال طفيل الغنوي :

« تباري مراخيها الزجاج كأنها

ضراء أحسّت تباعة من مكلب »

يصف خيلا والمراخى جمع مرخاء ، وهي السّريعة العدو ، والزجاج جمع زج ، والضراء جمع ضرورة ، وهي الكلبة.

وقال النابغة : فارتاع من صوت كلاب.

وانما يكون معلما بثلاث شرائط ، أحدها إذا أرسلته استرسل ، وثانيها إذا زجرته انزجر ، وثالثها لا يأكل ممّا يمسكه ، ويتكرر هذا منه دفعات ، حتى يقال في العادة انه معلّم.

ثمّ يكون مرسله ممن يعتقد وجوب التسمية عند إرساله ، ويسمي إذا أرسله.

فإن أكل الكلب منه نادرا فلا بأس بأكل الباقي ، وان كان الأكل عادة له فلا يجوز أكل ما قتله.

واما إذا استرسل بنفسه ، فان وجده وفيه حياة مستقرة ، لم يحل حتى يذكيه معلما كان أو غير معلم ، وان قتله فلا يحل أيضا ، فكأنّه إنّما يحل في موضع واحد ، وهو إذا أرسلته فقتله وهو معلم ، لدليل الآية.

إذا أرسل المسلم آلته على صيد وأرسل المجوسي ، أو أي كافر كان ، آلته أيضا

__________________

(١) ج. لأنا نقول.

٨٣

على ذلك الصّيد ، مثل ان أرسلا كلبين ، أو سهمين أو أحدهما كلبا والآخر سهما ، فاصاباه وقتلاه ، حرم اكله بلا خلاف ، ولا فصل بين ان يقع السّهمان دفعة واحدة أو واحدا بعد الآخر ، إذا كان القتل منهما ، فاما ان صيره الأول في حكم المذبوح ، ثم رماه الأخر ، مثل ان قطع الأوّل الحلقوم والمري والودجين ، ثمّ رماه الآخر ، فالأوّل ذابح ، والآخر جارح ، فيكون الحكم للأوّل ، فإن كان الأول مجوسيا ، لم يحل اكله ، وان كان مسلما والثاني مجوسيا ، حل أكله ، لأنّ الحكم للأوّل.

فامّا إن أرسلا معا فوجدا الصيد قتيلا ، فلم يعلم اى الكلبين قتله ، حرم أكله.

فإن أرسلا معا كلبا واحدا ، فقتل ، حرم أكله.

فإن كان مع مسلم كلبان ، فأرسلهما وأحدهما معلم ، والآخر غير معلم ، لم يحل أكله وان كان معه كلبان أرسل أحدهما ، ولم يرسل الآخر ، واسترسل الآخر بنفسه ، حرم أكل ما قتلاه.

فان أرسل مسلم كلبه ، ومجوسي كلبه ، فأدركه كلب المجوسي ، فرده الى كلب المسلم ، فقتله كلب المسلم ، وحده ، حل أكله.

إذا غصب رجل آلة فاصطاد بها ، كالسهم أو الكلب ، كان الصيد للصياد دون صاحب الإله وعلى الغاصب اجرة المثل في تلك الإله.

فإذا اصطاد بالكلب صيدا ، فعضه الكلب. وجرح موضعا منه ، كان موضع العضة نجسا ، لأنّ سؤر الكلب ولعابه نجس ، وما ماسّة نجس بغير خلاف بيننا ، فامّا قوله تعالى « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » (١) ولم يأمر بالغسل ، مرجوع عن ظاهره بالإجماع المقدم ذكره.

واختار شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (٢) قول بعض المخالفين انه لا يجب غسله ولا يكون نجسا.

الّا انه رجع عنه في مبسوطة (٣).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٤.

(٢) الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة ٨.

(٣) المبسوط ، كتاب الصيد والذبائح ، ص ٢٥٩ ، ج ٦.

٨٤

إذا شرب الكلب المعلم من دم الصّيد ، ولم يأكل من لحمه ، لم يحرم ، لقوله تعالى « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » وقد ثبت ان المراد بذلك ان لا يأكل منه ، لانه لو أكل لكان ممسكا على نفسه دون صاحبه.

إذا عقر الكلب المعلم الصّيد عقرا ، لم يصيره في حكم المذبوح ، وغاب الكلب والصيد عن عينه ثمّ وجده ميتا ، لم يحل أكله ، فإن كان قد صيّره في حكم المذبوح ، بان قطع المري والحلقوم والودجين ، أو قطعه نصفين ، فإنه يحل أكله ، لأنا نعلم انه قتله.

إذا أدركه ، وفيه حياة مستقرة ، لكنه في زمان لم يتسع لذبحه ، أو كان ممتنعا ، فجعل يعدو خلفه ، فوقف له ، وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه ، لا يحل أكله (١).

إذا أرسل كلبه المعلم ، وسمى عند إرساله على صيد بعينه ، فقتل غيره ، حل اكله.

وكذلك ان أرسله في جهة ، فعدل عن سمته إلى جهة غيرها ، وقتل ، حل أكله.

إذا رمى سهما أو حربة ، ولم يقصد شيئا ، فوقع في صيد فقتله ، أو رمى شخصا فوقع في صيد فقتله ، لا يحل ذلك ، ولا يجوز اكله بحال ، لانّه لم يسمّ ، وقد دلّلنا على وجوب التسمية.

إذا رمى سهما ، وسمّى ، فوقع على الأرض ، ثمّ وثب بالاعتماد الأوّل فأصاب الصيد فقتله ، حل أكله.

إذا قطع الصيد بنصفين ، وخرج منهما الدم ، حل أكل الكل بلا خلاف ، وان كان الذي مع الرأس أكثر ، حل الذي مع الرأس دون الباقي ، وان كان الذي مع الوركين أكثر ، حل الجميع أيضا ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (٢)

__________________

(١) في ج ول هنا زيادة بهذه العبارة : « وقال شيخنا في مسائل خلافه : فان قلنا انه يحلّ اكله كان قويا » إلّا انا لم نجده في كتاب الخلاف.

(٢) الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة ١٧.

٨٥

ومبسوطة (١) وهو قول بعض المخالفين.

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، ان الجميع يحل ، سواء كان الذي مع الرأس أكثر ، أو أقل ، إذا لم يكن قد بقي مع الذي مع الرأس حياة مستقرة ، لأنهما جميعا مذبوحان. ميتان ، مقتولان ، واما إذا كان الذي مع الرأس فيه حياة مستقرة ، فلا يجوز أكل الباقي ، لأنّه أبين من حي ، فهو ميتة ، لأن كل ما أبين من الحي ، وقطع منه ، والحي على حياته ، فهو ميتة ، فاما إذا لم يقطع من حي ، بل كلاهما غير حي ، بل صيد مقتول ، فلا يحرمان.

إذا اصطاد المسلم بكلب علّمه مجوسي ، حل أكل ما قتله ، وبه قال جميع الفقهاء.

إذا كان المرسل كتابيا ، لم يحل أكل ما قتله.

إذا كان المرسل مجوسيّا أو وثنيا ، لم يحل أكل ما اصطاده بلا خلاف ، وان كان أحد أبويه مجوسيّا أو وثنيا والآخر كتابيا لم يجز أيضا عندنا.

كل حيوان مقدور على ذكاته ، إذا لم يقدر عليه ، بان يصير مثل الصيد ، أو يتردى في بئر ، فلا يقدر على موضع ذكاته ، كان عقره ذكاته في أيّ موضع وقع منه.

لا تحل التذكية بالسن ، ولا بالظفر ، سواء كان متصلا أو منفصلا ، فان خالف وذبح لم يحل اكله ، هكذا ذكره شيخنا في مسائل خلافه (٢).

والذي ينبغي تحصيله في هذا الإطلاق ، فإن كان ذلك في حال الاختيار ، فهو على ما قال فهو صحيح ، وان كان في حال الاضطرار ، فغير صحيح ، بل عندنا بلا خلاف بيننا انه تجوز الذباحة في حال الاضطرار وعند تعذر الحديد بكلّ شي‌ء يفري الأوداج ، سواء كان ذلك عظما ، أو حجرا ، أو عودا ، أو غير ذلك ، وانما بعض المخالفين يذهب الى انّ ذلك لا يجوز الذبح بالسن والظفر في حال الاضطرار ،

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الصيد والذبائح ، ص ٢٦١ ، الّا انه ليس فيه قوله وان كان الذي مع الوركين أكثر حل الجميع أيضا.

(٢) الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة ٢٢.

٨٦

والاختيار ، واستدل بخبر رواه المخالف من طرقهم (١) ، وما رواه أحد من أصحابنا ، فليلحظ ذلك ، ولا يظنّ انّه قولنا.

لا تحل ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى.

ولا يجوز الذّكاة في اللّبة ، إلّا في الإبل خاصّة ، فأمّا البقر والغنم فلا يجوز ذبحهما إلّا في الحلق ، فان ذبح الإبل ونحر البقر والغنم لم يحل أكله.

إذا ملك صيدا فأفلت منه ، لم يزل ملكه عنه ، طائرا كان أو غير طائر ، لحق بالبرادى أو لم يلحق ، لانّه قد ثبت ملكه قبل الإفلات بلا خلاف ، ولا دليل على زواله فيما بعد ، وعلى من ادعى ذلك الدلالة.

إذا قتل المحل صيدا في الحل ، لا جزاء عليه ، سواء كان منشأه في الحل ، ولم يدخل الحرم ، أو دخل الحرم وخرج الى الحل ، أو كان منشأه في الحرم ، فخرج الى الحل.

وصيد السّمك أخذه وإخراجه من الماء حيا ، وكذلك ان وجده الإنسان على الجدد ، فأخذه حيا ، ولا تكفى مشاهدته له

دون أخذه ولمسه ، سواء كان من أخرجه وأخذه مسلما أو كافرا من أيّ أجناس الكفّار كان ، لانه لا يراعى في صيده وجوب التسمية ، الّا ان ما يصيده غير المسلم لا يجوز أكله ، إلّا إذا شوهد إخراجه له من الماء حيّا ، سواء مات في يده بعد إخراجه ، أو أخذه المسلم منه وهو حي.

وذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره ، لما أورد الاخبار ، وتأولها لما وردت عامة ، بأنّه لا بأس بصيد المجوس ، الى ان قال فالوجه في هذه الاخبار ، ان نحملها على انه لا بأس بصيد المجوس إذا أخذه الإنسان منهم حيا قبل ان يموت ، ولا يقبل قولهم في إخراج السّمك من الماء حيا ، لأنّهم لا يؤمنون على ذلك معتمدا على خبر ، رواه الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن ابان عن عيسى بن عبد الله ، قال سألت

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٢٠ ، كتاب الذبائح ، الباب ١٥ ، الرقم ٥١٥٠ ، ص ٩٥ ، وفي سنن ابن ماجة كتاب الذبائح ، باب ٥ ، ما يذكى به. الحديث ٤ ، الرقم ٣١٧٨ ج ٢ ص ١٠٦١. وروى عن رافع بن خديج نحوه أبو داود في سننه في الباب ١٤ من كتاب الضحايا الحديث ١ الرقم ٢٨٢١ ج ٣ ص ١٠٢.

٨٧

أبا عبد الله عليه‌السلام عن صيد المجوس ، فقال لا بأس إذا أعطوكه احياء (١) والسمك أيضا ، والّا فلا تجز شهادتهم ، الّا ان تشهده (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، وهذا تخصيص منه رحمه‌الله ، للعموم ، بخبر واحد ، وقد بيّنا ان اخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، وأيضا فالخبر الذي خصّص به واعتمد عليه ، هو دليل الخطاب ، لانّه قال لا بأس إذا أعطوكها حيا ، ولم يقل إذا شاهدت إخراجهم له حيا ، وأخذته منهم بعد ذلك ميتا لا يجوز اكله ، وقد يترك دليل الخطاب لدليل آخر ، وإجماعنا منعقد ، ان صيد السمك ، أخذه وإخراجه من الماء حيا ، ولا يراعى فيه وجوب التسمية.

والاولى لشيخنا ، انه كان يتأول ما شذّ من الاخبار ، على انه إذا صاده المجوس وجميع الكفار ، لا يجوز أكله إلّا إذا شاهد المسلم إخراج الكافر السمك حيا من الماء ، سواء مات في يده بعد إخراجه ، أو أخذه المسلم منه وهو حيّ ، بخلاف صيد المسلم له ، لان صيد المسلم يحل سواء شاهد إخراجه له حيا أو لم يشاهد ، ويقبل قوله في ذلك ، سواء كان محقا أو مبطلا ، والكفار لا يقبل قولهم في ذلك ، كما ذهب الى هذا القول في نهايته (٣). وهذا وجه صحيح في تأويل الأخبار ، مستمر على قاعدة النظر وأصل المذهب.

وهو الذي يذهب إليه المحصّلون من أصحابنا ، وهو انه لا خلاف بينهم قديما وحديثا في انّ صيد السمك لا يراعى فيه التسمية ، بل الحال التي يحل معها أكله ، ان يخرجه آدمي من الماء حيّا ، أو يأخذه من غير الماء وهو حي ، سواء أخذه أو أخرجه مسلم أو كافر ، من أي أجناس الكفار كان ، الّا ان ما يخرجه غير المسلم يراعى فيه المشاهدة له ، وقد أخذه حيا ، ولا يقبل قوله في انه أخرجه من الماء حيا ، والمسلم يقبل قوله في ذلك ، سواء كان المسلم محقا أو مبطلا ، فهذا فرق ما بين المسلم والكافر.

__________________

(١) ج. ل. حيّا.

(٢) الاستبصار ، ج ٤ ، باب صيد المجوسي للسمك ، ص ٦٤ ، ح ١١ ـ ٢٢٩ ، وفيه ، إذا أعطوكه حيّا.

(٣) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.

٨٨

وقد حقق ذلك السيد المرتضى في الناصريات (١).

فاما من تمسك وذهب الى تحريم أكل السمك والجراد إذا صادهما الذمي والمسلم غير المحق ، يعوّل على انّ صيدهما هي ذكاتهما ، وان العذر قد انقطع بان غير المحق لا ذكاة له ، ولا تؤكل ذبيحته.

فأقول ان أخذ السمك وإخراجه من الماء حيا ليس بذكاة على الحقيقة ، وانما اجرى مجرى الذّكاة في الحكم ، لا في وقوع الاسم ، وإذا وقع التحريم بتذكية غير المحق ، وانّه لا ذكاة له ، فإنّما يدخل في ذلك ما يكون حقيقة من الذبح وفرى الأوداج ، وما لا يكون حقيقة ويسمى بهذه التسمية ، جاز ان لا يدخل في الظاهر الّا بدليل ، فعلى من ادعى دخول صيد غير المحق السمك والجراد تحت تحريم ذكاة المبطل ، الدليل.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في استبصاره ، الى ما ذهبنا إليه في مبسوطة ، وحقق ذلك في نهايته ، على ما قدمناه وبيّناه أولا ، وحكيناه (٢).

قال في مبسوطة ، إذا اصطاد السمك من لا يحل ذبيحته ، كالمجوسي والوثني ، حل اكله بلا خلاف ، غير انا نعتبر ان نشاهده ، وقد أخرجه حيّا ولا نصدّقه على ذلك ، لانه يجوز ان يكون مات في الماء ، وعندنا لا يجوز أكل ذلك ، وكذلك ما اصطاده اليهودي والنصراني من السمك ، والفرق بين صيد السمك والذبحية على مذهبنا ، ان صيد السمك لا يراعى فيه التسمية ، والذباحة يجب فيها التسمية ، فلأجل ذلك لم يصحّ منهما ، هذا آخر كلامه (٣) رحمه‌الله. فتدبّره واعتبره.

وأيضا لو كان صيد السمك ذكاة حقيقة لما قال الرسول عليه‌السلام لمّا سئل عن ماء البحر ، فقال « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » (٤) فأحلّ ميتته فلو كان

__________________

(١) الناصريات المسألة الثالثة والمأتان ، والعبارة هكذا ، لا يحلّ السمك الذي يصطاده ذمي ..

(٢) في ص ٨٧ و ٨٨.

(٣) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الصيد والذبائح ، ص ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ٢ ، من أبواب الماء المطلق الحديث ١. سنن النسائي ، كتاب الصيد والذبائح ، باب ميتة البحر ( ج ٧ ، ص ٣٠٧ ).

٨٩

صيده ذكاة حقيقة لما أطلق عليه اسم الميتة ، لأن الحيوان المذكى لا يسمّى ميتة في عرف الشرع ، ولما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عند سؤال السائل له عن دم السمك ، فقال « لا بأس بدم ما لم يذك » (١) فبان بذلك ما نبهنا عليه ، وأدل دليل على جواز أكل صيد غير المحق مع المشاهدة له ، السمك وقد أخرجه من الماء حيا ، وان مات في يده ، وانّ صيد السمك ليس بذكاة حقيقة ، وانما اجرى مجرى الذكاة الحقيقيّة في الحكم ، لا في وقوع الاسم ، إجماع أصحابنا المحصلين على انّ الشّاة المذكاة ، يحرم منها أربعة عشر شيئا ، وإجماعهم على ان السمك لا يحرم منه شي‌ء فلو كان صيده ذكاة حقيقيّة لحرم منه ما يحرم من الشّاة المذكاة ذكاة حقيقيّة ، وأحد لا يقول بذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا نصب الإنسان شبكة في الماء يوما وليلة ، أو ما زاد على ذلك ، ثمّ قلعها وقد اجتمع فيها سمك كثير ، جاز له أكل جميعه ، وان كان يغلب على ظنّه ، ان بعضه مات في الماء ، لانّه لا طريق له الى تمييزه من غيره ، فان كان له طريق الى تمييز ما مات في الماء مما لم يمت فيه لم يجز له أكل ما مات فيه ، وكذلك ما يصاد في الحظائر ويجتمع فيها ، جاز أكل ذلك جميعا مع فقد الطريق الى تمييز الميّت من الحي (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله هذه رواية أوردها رحمه‌الله إيرادا ، لا اعتقادا ، وتحرير ذلك ان الإنسان متى نصب الشبكة ، ووقع فيها السمك ، وأخذه منها وهو حيّ ، فإنّه حلال ، وان أخذه وهو ميّت ، فلا يجوز اكله بحال ، لأنّا أجمعنا على ان ما يموت من السمك في الماء فإنّه حرام ، وهذا إجماع منعقد من أصحابنا ، فلا يجوز ان نرجع عنه باخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

وإذا صيد سمك ، وجعل في شي‌ء ، وأعيد في الماء ، فمات فيه ، لم يجز أكله ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٣ ، من أبواب النجاسات الحديث ٢ ، مع اختلاف في العبارة وهي هكذا : ان عليا عليه‌السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلى فيه الرجل يعنى دم السمك.

(٢) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.

٩٠

وان أعيد الى غير الماء حتى يموت فيه ، فلا بأس باكله ، والفرق بين الأمرين ، ان في الأول مات فيما فيه حياته ، والثاني مات فيما ليس فيه حياته.

وروى (١) انه يكره صيد السمك يوم الجمعة قبل الصّلاة.

ويكره صيد الوحش والطير بالليل.

ويكره أخذ الفراخ من أعشاشهن ، واوكارهن ، وليس ذلك بمحظور.

والطير إذا كان مالكا جناحيه ، فلا بأس بصيده بسائر آلات الصيد ، ما لم يعرف له صاحب ، فان عرف له صاحب فلا يجوز اصطياده ، فان اصطيد وجب ردّه على صاحبه.

والمقصوص الجناح لا يجوز أخذه ، لأن له صاحبا فإن أخذه كان حكمه حكم اللقطة في جميع أحكامها.

ولا يؤكل من الطير ما يصاد بسائر أنواع آلات الصيد ، الّا ما أدرك ذكاته ، الّا ما يقتله السهم ، ويكون مرسله قد سمى عند إرساله ، أو ترك التسمية ساهيا ، مع اعتقاده لوجوبها ، فان لم يكن صاحبه قد سمى ، أو صيد بالبندق ، ـ وهو الجلاهق وهو الطين المدور ، يرمى به عن القوس ، فارسي واصلة بالفارسية « جلاهة » الواحدة جلاهقة وجلاهقتان ، وليس الجلاهق ، القسي ، كما يظنه بعض النّاس. وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، ورمي الجلاهق ، وهي قسى البندق ، حرام ـ ، والصحيح ما ذكرناه ، فإنه قول اللغويين ، ذكره ابن الجواليقي ، في المغرب ، وذكره أيضا الجوهري في كتاب الصّحاح ، والاعتماد على أهل اللغة في ذلك ، فإنهم أقوم به ـ أو المعراض ، وهو سهم بلا ريش ، ولا نصل ، ويصيب بعرض عوده ، دون حده ، ومنه حديث عدي ، انه قال : انى أرمي بالمعراض فيخرق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان خرق فكل ، وان أصاب بالعرض ، فلا تأكل (٢) ، هذا قول الهروي ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣٠ ، من أبواب الصيد.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الذبائح والصيد الباب ٣ ، ( ج ٢٠ ص ٧٩ ) فيه : « قلت وانا نرمي بالمعراض قال كل ما خرق ، وما أصاب بعرضه فلا تأكل ». رواه مسلم في صحيحه كتاب الصيد

٩١

في غريب الحديث ، وقال ابن فارس ، صاحب مجمل اللّغة : المعراض سهم طويل ، له اربع قذذ دقاق ، فإذا رمى به اعترض ، وكذلك ما يقتله الحجارة ، وما أشبه ذلك ، فمات منه لم يجز اكله.

وإذا رمى إنسان طيرا بسهم ، فأصابه وأصاب فرخا لم ينهض بعد ، فأصابهما وقتلهما ، جاز أكل الطير ، لانه صيد ، ولم يجز أكل الفرخ الذي لم ينهض ، لانه ليس بصيد ، وهو مقدور عليه ، فلا يكون حكمه حكم الصيد.

وإذا قتل الصيد بسهم يصيبه ، ولا يكون فيه حديدة ، لم يجز أكله ، فإن كان فيه حديدة ، غير انّه أصابه معترضا فقتله ، جاز اكله.

ولا يجوز ان يرمى الصيد بشي‌ء أكبر منه ، فان رمى بشي‌ء أكبر منه فقتله ، لم يجز له اكله ، على ما روى (١) في الاخبار.

وإذا لم يكن مع الصائد سهم فيه حديدة ، ومعه سهم حادّ ينفذ ويخرق ـ بكسر الرّاء ـ جاز أكل ما يصيده به إذا خرق ، فإذا لم يخرق ، لم يجز اكله.

وصيد الوحش يجوز بسائر آلات الصيد ، من الجوارح والسباع ، والمصايد ، والحبالات ، الّا انّه لا يجوز أكل شي‌ء من ذلك عند أصحابنا ، إلّا ما أدرك الإنسان ذكاته ، الّا الكلب خاصّة ، على ما تقدم بيانه وتحريره (٢).

وروى (٣) أصحابنا ان ادنى ما يلحق معه الذكاة ، ان يجده تطرف عينه ، أو تتحرك يده ، أو رجله ، أو ذنبه.

وإذا أخذ الكلب المعلم صيدا ، فأدركه صاحبه حيا ، وجب ان يذكيه ، فان لم يكن معه ما يذكيه به ، فليتركه حتى يقتله ، ثمّ ليأكل ان شاء ، هكذا أورده شيخنا

__________________

والذبائح الباب ١ ، الحديث ٣ ( الرقم ١٩٢٢ ) وفيه سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل ، وإذا أصاب بعرضه فقتل ، فإنه وقيذ فلا تأكل. ج ٣ ص ١٥٣٠ ورواه النسائي في سننه في كتاب الصيد والذبائح ، باب ما أصاب بعرض من صيد المعراض ( ج ٧ ص ١٩٥ ).

(١) الوسائل ، الباب ٢١ ، من أبواب الصيد.

(٢) في ص ٨٢.

(٣) الوسائل ، الباب ١١ ، من أبواب الذبائح.

٩٢

في نهايته (١).

والأولى عندي انّه يجب عليه ان يذكيه ، فان لم يكن معه ما يذكيه به فلا يحل أكله إذا قتله الكلب بعد ذلك ، لانّه ليس بصيد الكلب بعد القدرة عليه ، لانه غير ممتنع ، بل هو مقدور عليه ، وهو بمنزلة الغنم.

إذا لم يكن مع الإنسان ما يذكيه ويذبحه به ومعه كلب ، فلا يجوز له ان يدع الكلب يذبحه بلا خلاف ، لانّه ليس بصيد ، هذا الّذي يقتضيه أصول المذهب ، وانّما أورد هذا الخبر شيخنا (٢) إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله مما لا يعمل عليه في هذا الكتاب.

وإذا انفلت كلب ، فصاد من غير ان يرسله صاحبه ، وسمّى ، لم يجز أكل ما يقتله.

ومن نسي التسمية عند إرسال الكلب ، وكان معتقدا لوجوب ذلك ، جاز أكل ما يقتله.

ولا يجوز ان يسمى غير الذي يرسل الكلب ، فإن أرسل واحد الكلب وسمى غيره ، لم يجز أكل ما يقتله.

ومن شرط أكل ما يقتله الكلب خاصّة ، ان لا يغيب عن العين ، فإذا غاب عن العين ، ثمّ وجد مقتولا ، لم يجز أكل ما يقتله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٣).

والذي تقتضيه الأدلة ان يقال ، هذا يكون إذا عقره عقرا ، لم يصيره في حكم المذبوح ، فامّا إذا عقره عقرا يصيره في حكم المذبوح ، بأن أخرج حشوته ، أو فلق قلبه ، أو قطع الحلقوم ، والمري ، والودجين ، ثمّ غاب عن العين بعد ذلك ، فإنه يحل اكله ، والى هذا التحرير والتفصيل يذهب رحمه‌الله في مسائل خلافه (٤).

__________________

(١) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.

(٢) ما تعرض الشيخ رحمه‌الله للمسألة في النهاية ولعله استفاد ابن إدريس رحمه‌الله هذه الفتوى منه من المسألة السابقة.

(٣) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.

(٤) الخلاف كتاب الصيد والذبائح ، مسألة ٩.

٩٣

فامّا السّهم ، فان غاب عن العين ، وكان قد جعله السّهم في حكم المذبوح ، بان قطع الحلقوم والمري والودجين ، أو جميع الرّقبة ، ما خلا الجلد ، أو ابان السّهم حشوته ـ بكسر الحاء ـ يعنى جميع ما في بطنه ، وما أشبه ذلك ، فلا بأس بأكله ، فامّا ان كان بخلاف ذلك ، فلا يجوز أكله ، لأنّ في الأوّل يقطع على ان سهمه القاتل له ، والثاني لا قطع معه ، وبهذا وردت الاخبار (١) عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، وأصول المذهب أيضا تقتضيه.

فإن أصاب الصيد سهم فتدهده من جبل ، أو وقع في الماء ، ثم مات فعلى ما فصّلناه من الاعتبار.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا أصاب الصيد سهم ، فتدهده من جبل ، أو وقع في الماء ، ثمّ مات لم يجز أكله ، لأنّه لا يأمن من ان يكون قد مات في الماء ، ومن وقوعه من الجبل (٢).

والأصل ما قدمناه من الاعتبار ، لأنّ شيخنا علل القول ، لانه قال لا يأمن ان يكون قد مات في الماء ، ومن وقوعه من الجبل ، ونحن فقد أمّنا إذا وجدناه على الصّفة المقدم ذكرها ، من كونه في حكم المذبوح ، فاما إذا لم يكن كذلك ، فالقول ما قاله رحمه‌الله.

وقال في مبسوطة ، إذا رمى طائرا فجرحه ، فسقط على الأرض ، فوجد ميتا ، حل اكله ، سواء مات قبل ان يسقط ، أو بعد ما سقط ، وقال بعضهم ، إذا مات بعد ما سقط ، لم يحل أكله ، لأن سقوطه على الأرض ، قبل موته ، فقد أعانت السقطة على قتله ، فقد مات من مبيح وحاظر ، فغلّبنا حكم الحظر ، كما لو سقط في الماء ، وهذا أليق بمذهبنا ، فاما ان سقط عن الإصابة في ماء ، أو تردى من جبل ، أو وقع على شجرة ، فتردى منها إلى الأرض ، لم يحل اكله ، لقوله تعالى : « وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٨ ، من أبواب الصيد لكن اخبار الباب تعرض بحلية ما علم انه قتل بإصابة السهم.

(٢) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد واحكامه.

٩٤

وَالْمُتَرَدِّيَةُ » (١) فما وقع في الماء ، فالماء يخنقه ، وما وقع على الجبل ثمّ تردّى ، فهو المتردية ، هذا إذا كان الجرح غير موحّى. فاما ان كان الجرح قاتلا موحيا ، مثل ان وقع السّلاح في حلقه ، فذبح ، أو في قلبه ، أو في كبده فقتله ، حل اكله بكل حال ، لأنه صار مذكى ، فلا يقدح فيه ما وراء ذلك ، كما لو ذبح شاة ، ثم وقعت في الماء ، فماتت فيه ، فإنه يحل أكلها ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٢).

وقال شيخنا في نهايته ، وإذا طعن الصيد برمح ، أو ضربه بسيف ، فقتله ويكون قد سمّى جاز له أكله ، فإن قدّه بنصفين ، ولم يتحرك واحد منهما ، جاز له أكلهما ، إذا خرج منهما الدم ، وان تحرك أحد النصفين ، ولم يتحرك الآخر ، أكل الذي تحرك ، ورمى ما لم يتحرك (٣).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله إذا سال الدم منهما ، أكلهما جميعا ما يتحرك ، وما لم يتحرك.

وذهب شيخنا في مسائل خلافه ، إذا قطع الصيد بنصفين ، حلّ أكل الكل ، بلا خلاف ، وان كان الذي مع الرأس أكثر ، حلّ الذي مع الرأس دون الباقي (٤).

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله الاعتبار بما مع الرأس إذا لم يكن فيه حياة مستقرة ، فإذا كان كذلك حل الجميع ، وان كان الذي مع الرأس فيه حياة مستقرة ، فلا يؤكل ما عداه ممّا أبين منه. لأنّه أبين من حي ، وما أبين من حيّ فهو ميتة ، فامّا إذا لم يكن فيه حياة مستقرّة ، فما هو ممّا أبين من حي ، فيؤكل الجميع ، وشيخنا استدلّ على تحريمه بأنه أبين من حي ، ولم يفصّل ما فصّلناه ، ولا حرر ما حررناه ، فلتلحظ ما بيّناه بعين الانصاف ، تجده واضحا جليا.

وان قطع منه قطعة بسيف ، أو أخذت الحبالة منه ذلك ، فليرم بالقطعة ، وليذكّى الباقي ويأكله.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٣.

(٢) المبسوط ، ج ٦ ، كتاب الصيد والذبائح ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٣) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الصيد واحكامه.

(٤) الخلاف ، كتاب الصيد والذبائح ، مسألة ١٧.

٩٥

وإذا أخذ الصيد جماعة فتناهبوه ، وتوزعوه قطعة قطعة ، جاز اكله بشرط انهم جميعا صيروه في حكم المذبوح ، أو أولهم ، فإن كان الأوّل منهم لم يصيره في حكم المذبوح ، بل أدرك وفيه حياة مستقرة ، يعيش اليوم واليومين ، ولم يذكوه في موضع ذكاته الشرعية ، بل تناهبوه ، وتوزّعوه من قبل ذكاته ، فلا يجوز لهم أكله ، لأنه صار مقدورا على ذكاته ، ولم يصر في حكم الصيد الذي لا يعتبر في قتله وتحليله موضع ذكاته ، لانه غير مقدور عليه ، فيذكى في أي موضع كان من جسده ، فليلحظ ذلك.

ومتى رمى الإنسان صيدا بعينه ، وسمى ، فأصاب غير ما رماه فقتله ، جاز اكله.

وإذا وجد لحما لا يعلم أذكي هو أم ميّت ، فليطرحه على النار ، فان انقبض فهو ذكي ، وان انبسط فليس بذكيّ.

وقد قدّمنا (١) ان صيد الجراد أخذه ولا يراعى فيه التسمية.

ولا يجوز ان يؤكل من الجراد ما مات في الماء أو الصّحراء ، قبل ان يؤخذ ، ولا ما يحرق في الشجر قبل التناول له ، وعلى هذا التحرير إذا كان الجراد في أجمة ، أو قراح ، فأحرق الموضع ، فاحترق الجراد ، لم يجز اكله.

ولا يؤكل منه الدباء بفتح الدال ، وهو الذي لا يستقل بالطيران ، لانّه ليس بصيد قبل نهوضه.

باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح

الحيوان على ضروب ، منها ما يكون في الحضر خاصّة ، ومنها ما يكون في البرّ ، ومنها ما يكون في البحر.

وكل واحد من هذه الأجناس ينقسم أقساما ثلاثة قسم منها مباح طلق بكسر الطاء ـ وقسم مكروه ، وقسم محظور.

فامّا حيوان الحضر ، فالإبل ، والبقر ، والغنم ، فإنّها اجمع مباحة ، ويجوز استعمالها

__________________

(١) في ص ٨٩.

٩٦

وأكلها على كل حال ، الّا ما كان منها جلالا ، وهو الذي يكون غذاؤه أجمع الجلّة بفتح الجيم وتشديد اللام ، وهي عذرة بني أدم ـ فإنه محظور لا يجوز اكله.

وحد الجلال الذي لا يجوز أكله إلّا بعد الاستبراء ، هو ان يكون غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، لا يخلطها بغيرها على ما قدّمناه (١) ، وإذا كان مخلطا ، يأكل العذرة وغيرها ، فان لحمه مكروه ، وليس بمحظور.

ويستبرأ الجلال ، الإبل منه بأربعين يوما ، يربط ويعلف علقا مباحا حتى يزول عنه حكم الجلل ، والبقر منه بعشرين يوما كذلك ، والشاة بعشرة أيام ، والبطة بخمسة أيام ، والدّجاجة بثلاثة أيام ، والسمك بيوم واحد.

وقد روى (٢) انّه إذا شرب شي‌ء من هذه الأجناس خمرا ، ثمّ ذبح جاز أكل لحمه بعد ان يغسل بالماء ، ولا يجوز أكل شي‌ء ممّا في بطنه ، ولا استعماله ، والاولى حمل هذه الرّواية على الكراهيّة دون الحظر ، لانه لا دليل على تحريم ذلك من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل الإباحة.

وإذا رضع شي‌ء من هذه الأجناس من خنزيرة ، حتى اشتد على ذلك ، لم يجز أكل لحمه.

وروى (٣) انه لا يجوز أيضا أكل ما كان من نسله.

وان كان شربه من الخنزيرة دفعة أو دفعتين ، ولم يشتد على ذلك ، كان أكل لحمه مكروها غير محظور ، الّا انّه يستبرأ بسبعة أيام ، على ما روى في الاخبار (٤) ان كان ممّا يأكل العلف كسبا ، وغيره اطعم ذلك ، وان لم يكن مما يأكل العلف ، سقى من لبن ما يجوز شرب لبنه سبعة أيام.

وروى (٥) انه إذا شرب شي‌ء من هذه الحيوانات بولا ، ثمّ ذبح ، لم يؤكل ما في بطنه الّا بعد غسله بالماء.

__________________

(١) في الجزء الأول ، ص ٨٠.

(٢) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ١.

(٣) الوسائل ، الباب ٢٥ ، من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٤) الوسائل ، الباب ٢٥ ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ١.

(٥) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٢.

٩٧

ومتى شرب شي‌ء من ذلك من لبن امرأة واشتد على ذلك كره أكل لحمه ، ولم يكن محظورا.

فامّا الخيل والبغال والحمير ، فان لحمها مكروه عند أصحابنا ، وليس بمحظور ، وان كان بعضه أشد كراهة من بعض ، لان لحم البغل أشد كراهة من لحم الحمار ، ولحم الحمار أشد كراهة من لحم الخيل ، ولحم الخيل ادونهن كراهية.

وذهب بعض أصحابنا الى ان أشد ذلك كراهية لحم الحمار.

فان جلّ واحد من هذه الأجناس الثلاثة ، كان لحمه محظورا ، الّا ان يستبرأ ، ولم يرد حد في مدّة استبراء شي‌ء من ذلك.

والذي ينبغي ان يعوّل عليه ، انّه يستبرأ بمدّة تخرجه من اسم الجلل ، بان يصير غذاؤه أجمع ممّا يجوز اكله من المباحات ، بعد ان كان قد صار غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، بحيث يزول عنه اسم الجلل ، بان لا يسمى جلالا ، لانّه لم يصر غذاؤه أجمع عذرة الإنسان ، فليلحظ ذلك فهذا تحرير فقهه.

ولا يجوز أكل لحم الفيل.

ومن وطي شيئا من الأجناس التي يحل أكل لحمها ، حرّم ذلك لحمها ولحم ما كان من نسلها ، على ما رواه (١) أصحابنا ، ووجب إحراقها بالنّار ، فان اختلطت بغيرها واشتبهت ، استخرجت بالقرعة ، بأن يقسم القطيع قسمين ، ويقرع على كل واحد منهما ، ثم يقسم ذلك أبدا ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة.

واما حيوان البحر ، فلا يستباح أكل شي‌ء منه الّا السّمك خاصة ، والسمك يؤكل منه ما كان له فلس ، وهو القشر ، فاما ما لم يكن له قشر ، وان انطلق عليه اسم المسك فلا يحل اكله ، فعلى هذا التحرير ، الجريّ ـ بكسر الجيم ـ والرّاء وتشديدها وتشديد الياء أيضا ، لا يجوز اكله وكذلك الجرّيث ـ بكسر الجيم ـ أيضا وتشديد الراء وكسرها فلا يجوز اكله.

ولا يجوز أكل الطّافيّ وهو الذي يموت في الماء فيطفو عليه.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣٠ ، من أبواب الأطعمة المحرمة.

٩٨

وكذلك لا يجوز أكل المارماهي ، ولا الزمار والزّهو بالزاء المعجمة ، لأنّه لا قشر له ، ولا هو سمك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، واما المارماهي ، والزمار ، والزهو ، فإنه مكروه شديد الكراهية ، وان لم يكن محظورا (١).

وهذا غير مستقيم ولا صحيح ، لانّه مخالف لأصول مذهبنا ، ولأنّ إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، انه لا يؤكل من حيوان البحر الّا السمك ، والسمك لا يؤكل منه الّا ما كان له فلس ، وهذه الأجناس التي ذكرها ، لا تسمى سمكا لا لغة ولا عرفا ، وليس لها أيضا فلس ، وانّما هذا خبر واحد أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله ممّا لا يعمل عليه.

الّا انّه رحمه‌الله عاد ، وقال في نهايته أيضا ، يعزر آكل الجرّي ، والمارماهي ، ومسوخ السمك كلها ، والطحال ، ومسوخ البر ، وسباع الطير ، وغير ذلك من المحرمات ، فان عاد أدّب ثانية ، فان استحل شيئا من ذلك وجب عليه القتل ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٢).

فمن يوجب عليه القتل باستحلاله لآكله ، كيف يجعله مكروها غير محظور ، وانّما ذلك خبر واحد أورده على ما رواه ووجده.

ولا بأس بأكل الكنعت ، ويقال أيضا الكنعد ، بالدّال غير المعجمة.

ولا بأس أيضا بأكل الربيثا ، ـ بفتح الراء وكسر الباء ـ ، وكذلك لا بأس بأكل الإربيان ، ـ بكسر الالف وتسكين الراء ، وكسر الباء ـ وهو ضرب من السمك البحري ، أبيض كالدود ، والجراد ، الواحدة اربيانة.

ولا يؤكل من السمك ما كان جلّالا ، الّا بعد ان يستبرأ يوما الى الليل ، على ما قدّمناه (٣) في ماء طاهر ، يطعم شيئا طاهرا.

ولا يجوز أكل ما نضب عنه الماء من السمك.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوانات وما لا يستباح.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

(٣) في ص ٩٧.

٩٩

وإذا شق جوف سمكة ، فوجد فيها سمكة ، جاز أكلها ، إذا كانت من جنس ما يحل أكلها ، على ما روى (١) في الاخبار ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢).

والذي يقتضيه المذهب ، انّه ان كانت الموجودة حيّة ، فإنها تؤكل ، ويصح العمل بالرّواية ، وان كانت ميتة ، فلا يجوز أكلها على حال ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

فان شق جوف حيّة فوجد فيها سمكة ، فإن كانت على هيئتها ولم تنسلخ ، لم يكن بأكلها بأس ، وان كانت قد انسلخت لم يجز أكلها على حال ، على ما وردت الرواية (٣) بذلك ، وأوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤).

والاولى ان يقال : ان كانت السمكة الموجودة في جوف الحيّة حيّة ، فإنها تؤكل ، سواء تسلخت أو لم تنسلخ ، وان كانت ميتة ، فلا يجوز أكلها ، سواء تسلخت أو لم تنسلخ (٥) ، على حال ، فهذا تحرير هذه الرّواية على ما يقتضيه أصول مذهبنا.

وإذا وثبت سمكة من الماء ، فماتت ، فإن أدركها الإنسان بمباشرة ، سوى حاسة النظر ، وفيها روح ، جاز له أكلها ، وان لم يدركها كذلك ، تركها ولم يجز له أكلها.

وإذا وجد الإنسان سمكة على ساحل بحر ، أو شاطئ نهر ، ولم يدر أذكية هي أم ميتة؟ فليلقها في الماء ، فان طفت على ظهرها ، فهي ميتة ، وان طفت على وجهها فهي ذكية.

ولا بأس بأكل الطمر ـ بالطّاء غير المعجمة المكسورة ، والميم المسكنة ، والراء غير المعجمة ـ وكذلك لا بأس بأكل الطبراني ـ بالطاء غير المعجمة المفتوحة ، والباء بنقطة واحدة من تحتها ، المفتوحة ، والرّاء غير المعجمة ـ وهذان جنسان من أجناس السمك ، لهما فلوس.

وكذلك الإبلامي ، ـ بكسر الهمزة ، وبالباء المنقطة بنقطة واحدة من تحتها ،

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، الباب ٣٢ ، من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٢ و ٣) الوسائل كتاب الصيد والذبائح باب ما يستباح اكله من سائر أجناس الحيوان وما لا يستباح.

(٤) الوسائل ، الباب ١٥ ، من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٥) ج. انسلخت وتنسلخ ، في المواضع الثلاثة.

١٠٠