كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

الامام منه ذلك ، جاز له ان يعفو عنه ، ويجوز له أيضا إقامة الحد عليه حسب ما يراه من المصلحة وشاهد الحال ، ومتى لم يظهر التوبة منه ، لم يجز له العفو عنه بحال.

ومن قبّل غلاما ، ليس بمحرم له ، على جهة الالتذاذ والشّهوة وميل النفس ، وجب عليه التعزير.

فان فعل ذلك وهو محرم بحج أو عمرة ، غلّظ عليه تأديبه ، كي ينزجر عن مثله في مستقبل الأحوال.

وقد روى انه إذا قبّل الرجل غلاما بشهوة ، لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وملائكة الرحمة ، وملائكة الغضب ، وأعدّ له جهنم ، وساءت مصيرا (١).

وفي حديث آخر ، من قبل غلاما بشهوة ، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار (٢).

فان كان التقبيل للغلام أو الرجل على غير ذلك الوجه ، اما لأمر ديني ، أو صداقة دنياوية ، ومودة اصلاحية ، وعادة عرفية ، فلا حرج في ذلك ، ولا إثم ، فإنه قد روى (٣) استحباب تقبيل القادم من مكة بغير خلاف.

وانما يحرم من ذلك ما يقصد به الريبة والشهوة والفسوق ، وهذا شي‌ء راجع الى النيات والعقائد ، فقد قال عليه‌السلام الاعمال بالنيّات ، وانما لامرئ ما نوى (٤).

وفي ألفاظ الاخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام تقييد التحريم من ذلك ما يكون بالشهوة ، أورد ذلك ابن بابويه في رسالته (٥) ، وقيده في كلامه.

والمتلوط بما دون الإيقاب الذي يجلد مائة جلدة ، فإذا أقيم عليه الحد ثلاث مرّات ، يقتل في الرابعة ، مثل الزاني.

والأولى عندي انه يقتل هو والزاني في الثالثة ، لقولهم عليهم‌السلام ، المجمع

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، الباب ١٨ ، من أبواب نكاح المحرّم ، ح ٣.

(٢) الوسائل ، الباب ٢١ ، من أبواب نكاح المحرّم ، ح ١.

(٣) الوسائل ، الباب ٥٥ من أبواب آداب السفر ، ح ٧.

(٤) الوسائل ، الباب ٥ ، من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٦ ـ ٧.

(٥) لم نتحققه في رسالة ابن بابويه.

٤٦١

عليه ، ان أصحاب الكبائر يقتلون في الدفعة الثالثة (١) وهؤلاء بلا خلاف أصحاب كبائر.

وشيخنا أبو جعفر ذهب في نهايته إلى انه يقتل في الرابعة (٢) ، وذهب في مسائل خلافه انه يقتل في الخامسة (٣) وجعل ما ذهب إليه في نهايته رواية فقال مسألة إذا جلد الزاني الحر البكر البالغ أربع مرات قتل في الخامسة وكذلك في القذف يقتل في الخامسة ، والعبد يقتل في الثامنة (٤).

وقال في نهايته ، يقتل في التاسعة (٥).

ثم قال متمّما للمسألة ، وقد روى ان الحر يقتل في الرابعة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، وقالوا عليه الحد بالغا ما بلغ ، دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، هذا أخر مسألته (٦).

وما اخترناه أولا هو الأظهر بين الطائفة.

قال محمّد بن إدريس أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في الجزء الثالث من كتابه الإستبصار ، في باب الحد في اللواط ، خبرا عن على بن إبراهيم عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب عن ابن رئاب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيمن أوقب على غلام ، قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم فيه ثلاثة أحكام ، اما ضربة بالسيف في عنقه بالغة ما بلغت ، أو إهداء من جبل مشدود اليدين والرجلين ، أو إحراق بالنار (٧).

وجدناه لما عارضت كتابي بخط المصنف رحمه‌الله.

إهداء بألف في اوله ، وألف في أخره ، وصوابه دهداء ، بدال في اوله ، وأظن الدال الأولة كانت قصيرة المدة التحتانية ، وطويلة المدة الفوقانية ، فاعتقدها

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات الحدود ، ح ١.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في اللواط.

(٣) و (٤) و (٦) الخلاف ، كتاب الحدود ، مسألة ٥٥.

(٥) النهاية : كتاب الحدود ، باب أقسام الزنا.

(٧) الإستبصار ، ج ٤ ، الباب ١٢٦ من كتاب الحدود ص ٢٢٠ ح ٥ / ٨٢٢ ، وفي المصدر ، إهدارا.

٤٦٢

النساخ الناقلون ألفا مستقيمة ، فوقع الرّهق (١) والغلط لذلك ، لانه مصدر تدهدأ الحجر وغيره ، تدهدؤا ودهديته انا ادهديه دهدأة ودهداء.

قال ذو الرمة :

ادنى يقاذفه التقريب أو خبب (٢)

كما تدهدى من العرض الجلاميد

وهذا مما يبدل من الهاء ياء ، قال الجوهري ، في الصحاح دهدهت الحجر فتدهده ، اي دحرجته فتدحرج ، وقد يبدل من الهاء ياء فيقال تدهدى الحجر وغيره تدهديا ، ودهديته انا ، ادهديه دهدأة ودهداء إذا دحرجته ، وانشد بيت ذي الرمة المقدّم ذكره ، وانما أومأت الى هذا المكان لئلا يجرى تصحيف في الخبر الذي في الاستبصار.

باب الحد في السحق

السحق بضم السين الاسم ، وبفتحها المصدر ، وهو عبارة في عرف الشرع عن فعل الأنثى بالأنثى ، كما أنّ اللواط عبارة عن فعل الرجال بالرجال ، الذكران بالذكران ، والزنا عبارة عن فعل الرجال بالنساء.

فإذا ثبت ذلك ، فالبيّنة على الجميع واحدة ، وهي شهادة أربع عدول بتحقيق ذلك ومعاينته على ما قدمناه ، أو إقرار الفاعل أو المفعول على نفسه اربع مرات في أربع دفعات وأوقات.

فإذا ثبت ذلك وساحقت المرأة أخرى ، وجب على كل واحدة منهما الحد ، جلد مائة ، سواء كانتا محصنتين أو غير محصنتين.

وقال بعض أصحابنا ان كانتا محصنتين وجب على كل واحدة منهما الرجم ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (٣).

والأول اختيار شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في مقنعته (٤) والسيّد

__________________

(١) ج. الزهق.

(٢) ج. جنب.

(٣) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.

(٤) المقنعة ، باب الحدود والآداب ص ٧٨٧ و ٧٨٨.

٤٦٣

المرتضى (١) وغيرهما من أصحابنا.

وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ولأن الأصل براءة الذمة ، وحقن الدّماء ، وترك إدخال الضرر على الحيوان الا بدليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنة متواترة ، ولا إجماع.

وإذا ساحقت المرأة جاريتها ، وجب على كل واحدة منهما الحدّ كاملا ، وهو جلد مائة ، ولا ينتصف في حق الإماء مثل حد الزنا ، بل حد الحرة والأمة في السحق سواء ، لانه ليس بزنا ، والقياس عندنا باطل.

فان ذكرت الجارية انها أكرهتها ، درئ عنها الحد ، للشبهة في ذلك ، وأقيم (٢) على مولاتها.

وإذا ساحقت المجنونة ، لا يجب عليها الحد ، سواء كانت فاعلة أو مفعولة بها.

وقال شيخنا أبو جعفر بي نهايته : وإذا ساحقت المجنونة ، أقيم عليها الحد ، فان فعل بها ذلك ، لم يكن عليها الحد (٣).

وما ذهبنا اليه هو الذي يقتضيه أصول المذهب ، ولا يرجع في ذلك الى خبر واحد ، أو مسطور يوجد لبعض المصنفين ، إذا لم يعضده كتاب الله ، أو إجماع ، أو اخبار متواترة.

وإذا ساحقت المسلمة الكافرة ، وجب على كل واحدة منهما الحد ، وكان الامام مخيّرا في الكافر بين اقامة الحد عليها ، وبين إنفاذها ودفعها الى أهل ملتها ، ليعملوا بها ما يقتضيه مذهبهم.

وإذا ساحقت المرأة العاقلة صبية غير بالغة ، أقيم على العاقلة الحد ، وأدبت الصبيّة.

فان تساحقت صبيّتان غير بالغتين ، أدّبتا ، ولم يقم على واحدة منهما الحد كاملا.

__________________

(١) في الانتصار ، كتاب الحدود.

(٢) ج. ل. أقيم الحد.

(٣) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.

٤٦٤

وروى انّه إذا وطئ الرجل امرأته ، فقامت المرأة فساحقت جارية بكرا ، فألقت ماء الرجل في رحمها ، وحملت الجارية ، وجب على المرأة الرجم ، وعلى الجارية إذا وضعت مائة جلدة ، والحق الولد بالرجل ، وألزمت المرأة المهر للجارية ، لأن الولد لا يخرج منها الّا بعد ذهاب عذرتها (١).

فان عضد هذه الرواية دليل من كتاب ، أو سنة متواترة ، أو إجماع ، والّا السلامة التوقف فيها ، وترك العمل بها ، والنظر في دليل غيرها ، لأنا قد قلنا ان جلّ أصحابنا لا يرجمون المساحقة ، سواء كانت محصنة أو غير محصنة ، واستدللنا على صحة ذلك ، فكيف نوجب على هذه الرجم.

وإلحاق الولد بالرجل ، فيه نظر يحتاج الى دليل قاطع ، لانه غير مولود على فراشه ، والرّسول عليه‌السلام قال ـ الولد للفراش ـ (٢) وهذه ليست بفراش للرجل ، لان الفراش عبارة في الخبر عن العقد ، وإمكان الوطء ، ولا هو من وطئ شبهة بعقد (٣) الشبهة.

وإلزام المرأة المهر أيضا فيه نظر ، ولا دليل عليه ، لأنها مختارة غير مكرهة ، وقد بيّنا ان الزاني إذا زنى بالبكر الحرة البالغة ، لا مهر (٤) عليه إذا كانت مطاوعة ، والبكر المساحقة هاهنا مطاوعة ، قد أوجبنا عليها الحد ، لأنها بغي ، والنبيّ عليه‌السلام ـ نهى عن مهر البغي ـ (٥) فهذا الذي يقال على هذه الرواية ، فإن كان عليها دليل غيرها من إجماع وغيره ، فالتسليم للدليل دونها ، فليلحظ ما نبهنا عليه ويتأمل ، ولا ينبغي في الديانة أن يقلد اخبار الآحاد ، وما يوجد في سواد الكتب.

وإذا افتضت امرأة بكرا بإصبعها ، فذهبت بعذرتها ، لزمها مهرها ، إذا كان ذلك بغير اختيارها ، وكانت البكر عاقلة بالغة فان أمرتها بذلك ، فلا شي‌ء على المرأة الفاعلة من المهر بحال ، وكذلك الرجل إذا ذهب بعذرة البكر ، حرفا فحرفا ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب حد السحق والقيادة ، ح ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥.

(٢) الوسائل ، الباب ٥٦ ، من أبواب إنكاح العبيد والإماء ، ح ١.

(٣) ج. يعتقد الشبهة.

(٤) ج. لا مهر لها عليه.

(٥) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١٣ ـ ١٤.

٤٦٥

فان كانت البكر غير بالغ ، فيجب على من ذهب بعذرتها بإصبعه أو غير إصبعه المهر على ما قدمناه وحررناه.

فان كانت الجارية البالغة امة للغير ، فالمهر لا يجب ، بل يجب ما بين قيمتها بكرا أو غير بكر ، لانه مال الغير أتلفه ، سواء كانت الأمة مختارة أو مكرهة.

وإذا وجدت امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما ، وليس بينهما رحم ، ولا أحوجهما الى ذلك ضرورة من برد وغيره ، كان على كل واحدة منهما التعزير ، من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا ، حسب ما يراه الإمام ، أو الوالي (١) والحاكم من قبله ، ولا يبلغ بذلك الحد.

وقد يوجد في بعض المواضع التعزير من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين.

والوجه في ذلك : انه كان الفعال مما يناسب الزنا واللواط والسحق ، فان الحد في هذه الفواحش مائة جلدة ، فيكون التعزير دونها ولا يبلغها ، فللحاكم أن يعزّر من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين ، فينقص عن المائة سوطا ، فاما إذا كان التعزير على ما يناسب ويماثل الحد الذي هو الثمانون ، وهو حد شارب الخمر عندنا ، وحد القاذف ، فيكون التعزير لا يبلغه ، بل من

ثلاثين إلى تسعة وسبعين ، فهذا معنى ما يوجد في بعض المواضع من الكتب ، تارة تسعة وتسعون ، وتارة تسعة وسبعون.

قال شيخنا أبو جعفر ، في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، في كتاب الأشربة ما ينبهك على ما قلناه ، قال مسألة لا يبلغ بالتعزير حد كامل ، بل يكون دونه ، وادنى الحدود في جنية الأحرار ، ثمانون ، والتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة ، هذا آخر كلامه (٢).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا وأخبارنا ، ان التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي هو المائة ، ايّ تعزير كان ، سواء كان ما يناسب الزنا أو القذف ، وانما هذا الذي لوح به شيخنا من أقوال المخالفين ، وفرع من فروع بعضهم ، ومن اجتهاداتهم وقياساتهم الباطلة ، وظنونهم العاطلة.

__________________

(١) ل. أو الوالي أو الحاكم.

(٢) الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة ١٤.

٤٦٦

فإن عادتا الى مثل ذلك ، نهيتا ، وأدّبتا ، فإن عادتا ثالثة ، أقيم عليهما الحد كاملا مائة جلدة ، على ما روى (١).

أورده شيخنا في نهايته (٢) وقال فان عادتا رابعة ، كان عليهما القتل.

قال محمّد بن إدريس ان قتلهما في الرابعة ، لقولهم عليهم‌السلام أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة ، فالصحيح (٣) انهم يقتلون في الثالثة.

وإذا ساحقت المرأة وأقيم عليها الحد ثلاث مرات ، قتلت في الرابعة ، مثل الزانية سواء.

وقد قلنا ما عندنا في الزانية ، وان الأظهر عند أصحابنا ، والذي يقتضيه أصول مذهبهم ، القتل في الثالثة.

وإذا تابت المساحقة قبل ان ترفع الى الامام ، سقط عنها الحد ، فان قامت بعد ذلك عليها البيّنة ، لم يقم عليها الحد ، فان قامت البيّنة عليها ، ثم تابت بعد ذلك ، أقيم عليها الحد على كل حال ، ولم يجز للحاكم العفو عنها ، فان كانت أقرت بالفعل عند الحاكم ، ثم أظهرت التوبة ، كان للإمام العفو عنها ، وله اقامة الحد عليها ، حسب ما يراه أصلح في الحال ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٤).

والأظهر انه لا يجوز له العفو ، لان هذا الحد لا يوجب القتل وانما ذلك في الإقرار الذي يوجب القتل.

باب وطي الأموات والبهائم والاستمناء بالأيدي

وما يتعلق بذلك من الاحكام

من وطأ امرأة ميتة ، فان حكمه حكم من وطأها وهي حيّة ، لقولهم عليهم‌السلام ـ حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا. (٥).

__________________

(١) لم نتحققها بعينها الّا ما أوردها في الوسائل الباب ٢ من أبواب حد السحق والقيادة ، ح ١ ـ ٢.

(٢) و (٤) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في السحق.

(٣) ج. الصحيح.

(٥) الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نكاح البهائم ووطي الأموات .. ح والباب ١٩ من أبواب حد السرقة ، ح ٦ ، ولفظه هكذا ، حرمة الميّت ، وحرمة الميتة كحرمة الحية.

٤٦٧

فإذا ثبت ذلك ، فإنه يجب عليه الرجم ان كان محصنا ، والجلد ان لم يكن كذلك ويضرب (١) زيادة على الحد تعزيرا ، لانتهاكه حرمة الأموات ، والجرأة على ذلك ، فان كانت الموطوءة زوجته أو أمته ، وجب عليه التعزير دون الحد ، للشبهة الداخلة عليه في ذلك.

ويثبت الحكم في ذلك بإقرار الفاعل على نفسه مرتين ، أو شهادة عدلين ، هذا ما روى (٢) في اخبار الآحاد.

والذي تقتضيه الأدلة وأصول مذهبنا ، ان الإقرار أربع مرات ، والشهادة أربع رجال ، لأنا أجمعنا انه زان وزنا ، والزنا بإجماع المسلمين لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال ، أو إقرار الفاعل اربع مرات ، والإجماع فغير منعقد على تخصيص ذلك ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار الآحاد ، ولا كتاب مصنف ، وان كان قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (٣) إيرادا لا اعتقادا كما أورد أمثاله من اخبار الآحاد.

وحكم المتلوط بالأموات ، حكم المتلوط بالاحياء على السواء ، لا يختلف الحكم في ذلك ، بل تغلظ عقوبته ، لانتهاكه حرمة الأموات.

ومن وطأ بهيمة ، كان عليه التعزير حسب ما يراه الحاكم من الصلاح في الحال ، ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها ان لم تكن له ، إذا كانت مما يركب ظهرها في الأغلب ، كالخيل والبغال والحمير ، وان كان يقع على هذه الأجناس الذكاة ، وتؤكل عندنا لحومهنّ ، الّا انه غير غالب عليهن ، بل ركوب ظهورها هو الأغلب ، واتخاذها لذلك هو المقصود الأشهر ، وأخرجت من البلد الذي فعل بها ما فعل الى بلد أخر ، وبيعت هناك لئلا يعير صاحبها بها ، على ما روى (٤) في الاخبار هذا التعليل ، فإذا بيعت ، كان الثمن لمن غرمناه ثمنها ، لان صاحبها قد أخذ ثمنها ، وصارت

__________________

(١) ج. ويعزّر.

(٢) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب حد السرقة ، ح ١ ـ ٤ ـ ٦ ، والباب ٤٩ من أبواب الشهادات ، ج ١ ـ ٢ ، والباب ٥ من أبواب كيفية الحكم ..

(٣) النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطي ميتة.

(٤) الوسائل ، الباب ١ ، من أبواب نكاح البهائم ، ح ١ ـ ٤.

٤٦٨

للواطئ فلا يعطى صاحبها غير ثمن واحد ، وهو الذي غرمه (١) له ، ولا يجمع له الثمنين معا ، لانه لا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، بل قد وردت اخبار (٢) عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بما قلناه.

فان كانت ملك الواطي ، لم يكن عليه شي‌ء سوى التعزير ، ولا يجب عليه غرم ثمنها ، لان ثمنها له ، فلم يغرم.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، يتصدق بثمنها على المساكين والفقراء ، سواء كانت لصاحبها أو لغيره ، إذا غرم ثمنها وبيعت ، وتصدق بالثمن الثاني (٣).

فإن كانت البهيمة الموطوءة مما لا يركب ظهرها ، بل في الأغلب يكون للأكل والنحر والذبح ، ذبحت وأحرقت بالنار ، لان لحمها قد حرم ، ولحم ما يكون من نسلها.

فان اختلطت بغيرها من البهائم ، ولم تميّز ، قسم القطيع ، وأقرع بينهما ، فما وقعت عليه القرعة ، قسّم من رأس ، وأقرع بينهما ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة ، ثم تؤخذ وتحرق بالنار ، بعد أن تذبح ، وليس ذلك على جهة العقوبة لها ، لكن لما يعلمه الله تعالى من المصلحة في ذلك للعباد ، ودفع العار بها عن صاحبها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ومن نكح بهيمة ، كان عليه التعزير بما دون الحد ، حسب ما يراه الإمام في الحال ، ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها إن لم تكن له ، فان كانت له لم يكن عليه شي‌ء ، وان كانت البهيمة مما يقع عليها الذكاة ، ذبحت وأحرقت بالنار ، لان لحمها قد حرم ولحم جميع ما يكون من نسلها ، فان اختلطت البهيمة الموطوءة بغيرها من البهائم ولم تتميّز قسم القطيع الذي فيه تلك البهيمة ، وأقرع بينهما ، فما وقعت عليه القرعة ، قسم من الرأس ، وأقرع بينهما ، الى ان لا تبقى إلّا واحدة ، ثم تؤخذ وتحرق بالنار بعد ان تذبح ، وليس ذلك على جهة العقوبة لها ، لكن لما يعلمه الله تعالى من المصلحة في ذلك ، ولدفع العار بها عن صاحبها ، فان كانت

__________________

(١) ج. غرمناه له.

(٢) الوسائل ، الباب ١ ، من أبواب نكاح البهائم ، ح ١ ـ ٤.

(٣) المقنعة : باب الحد في نكاح البهائم والاستمناء بالأيدي ص ٧٩٠.

٤٦٩

البهيمة مما لا تقع عليها الذكاة ، أخرجت من البلد الذي فعل بها ما فعل الى بلد أخر ، وبيعت هناك لئلا يعيّر صاحبها بها. هذا أخر كلامه رحمه‌الله (١).

قال محمّد بن إدريس اما قوله رحمه‌الله في أوّل الكلام وهو ـ فان كانت البهيمة ممّا يقع عليها الذكاة ، ذبحت وأحرقت ـ ، فالمراد به ما قلناه ونبّهنا عليه ، من انها تصلح للذبح في الغالب ، دون ركوب الظهر ، واما قوله في آخر الكلام ـ فان كانت البهيمة مما لا تقع عليها الذكاة ، أخرجت من البلد مراده بذلك ما قلناه ، وهو أنها تصلح للركوب ، لا للذبح في الغالب ، وان كانت عندنا أيضا يقع عليها الذكاة ، لأن الخيل والبغال والحمير تقع عليها الذكاة ، ويؤكل لحمها عندنا ، الّا انّها ما تراد لذلك ، ولا الغالب فيها الذبح ، ولا قنيتها واتخاذها للأكل والذبح ، فليلحظ ذلك.

وقد نبّه شيخنا المفيد ولوّح في مقنعته على شي‌ء من ذلك ، قال فان كانت البهيمة مما يقع عليها الذكاة ، كالشاة ، والبقرة ، والبعير ، وحمر الوحش ، والغزلان ، ذبحت وحرّقت (٢) بالنار ، ثم قال بعد ذلك ، وان كانت مما لا يقع عليها الذكاة ، كالدواب والبغال والحمر الأهلية وأشباه ذلك ، أخرجت من البلد (٣).

فهذا تنبيه على ما أشرنا اليه واعتمدنا عليه.

قوله رحمه‌الله من الرأس ، لا ينبغي ان يكون بألف ولام ، بل عند أهل اللغة يقال من رأس ، ويعدون ما خالف ذلك مما تغلط فيه العامة ، فينبغي ان يتجنبه الإنسان ويثبت الحكم بذلك امّا بالإقرار من الفاعل مرّتين ، أو بشهادة عدلين ، لا أكثر من ذلك.

ومتى تكرر الفعل من واطئ البهيمة والميتة ، وكان قد أدّب وحدّ ، وجب عليه القتل في الثالثة.

وقال شيخنا في نهايته (٤) : في الرابعة.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطي ميّتة.

(٢) ج. أحرقت.

(٣) المقنعة ، باب الحد في نكاح البهائم والاستمناء بالأيدي ص ٧٨٩.

(٤) النهاية ، كتاب الحدود ، باب من نكح بهيمة أو وطئ ميتة ..

٤٧٠

ومن استمنى بيده حتى انزل ، كان عليه التعزير والتأديب بما دون الحد الكامل.

وقد روى أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ضرب يد من فعل ذلك ، حتى احمرت ، وزوّجه من بيت المال ، واستتابه من ذلك الفعال.

ويثبت الفعل بذلك بإقرار الفاعل مرتين ، أو شهادة عدلين مرضيين.

باب الحد في القيادة

الجامع بين النساء والرجال ، أو الرجال والغلمان للفجور إذا شهد عليه عدلان ، أو أقر على نفسه وهو عاقل مرتين ، فإنه يجب عليه ثلاثة أرباع حد الزاني الحر ، وهو خمس وسبعون جلدة ، ويحلق رأسه ، ويشهر في البلد ، وينفى عنه الى غيره من الأمصار من غير تحديد لمدة نفيه ، سواء كان حرا أو عبدا لأن الأخبار عامة مطلقة ، خالية من تخصيص ، فهي عامة في هذا الحكم ، ويجب العمل بالعموم حتى يقوم دليل الخصوص ، فليلحظ ذلك.

وشيخنا المفيد يفعل به ما قلناه في الدفعة الأولى إلّا النفي ، فإنه لا ينفيه إلّا إذا عاد دفعة ثانية ، بل في الدفعة الأولى لا ينفيه ، بل يحلق رأسه ويشهره في البلد ، ويضربه العدد الذي ذكرناه ، ولا ينفيه إلّا في الثانية (١).

والأوّل اختيار شيخنا أبي جعفر (٢) في نهايته.

والمرأة إذا فعلت ذلك ، فعل بها ما يفعل بالرجل من الجلد فحسب ، ولا تحلق ولا تشهر ولا تنفى بحال.

ومن رمى غيره بالقيادة ، فقال له يا قواد ، كان عليه التعزير بما دون الحد ، لئلا يعود إلى أذى المسلمين ، فان قال له يا قائد ، لم يكن عليه تعزير لأنّ لفظ القائد ، ما أفاد لفظ قوّاد ، لأن بالعرف صار قبيحا ، دون لفظ قائد.

__________________

(١) المقنعة ، باب الحد في القيادة ص ٧٩١.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحدّ في القيادة ..

٤٧١

باب الحد في شرب الخمر والمسكر من الشراب والفقاع

وغير ذلك من الأشربة والمآكل المحظورة وما يتعلق بذلك من الأحكام

الخمر محرّمة بالكتاب والسنّة والإجماع ، قال الله تعالى « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » (١) فأخبر تعالى ان في الخمر إثما كبيرا ، وأخبر أن فيهما منافع للناس ، ثم قال وإثمهما أكبر من نفعهما ، فثبت انهما محرمان.

وقال تعالى « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » (٢) والإثم في الآية ، المراد به الخمر بلا خلاف.

قال الشاعر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » (٣) الى آخر الآيتين.

وفيهما أدلة.

أولها ان الله تعالى افتتح الأشياء المحرمات ، فذكر الخمر والميسر ، وهو القمار ، والأنصاب ، وهي الأصنام ، والأزلام ، وهي القداح ، فلما ذكرها مع المحرمات ، وافتتح المحرمات بها ، ثبت انها آكد المحرمات.

ثم قال رجس من عمل الشيطان ، فسمّاها رجسا ، والرجس الخبيث ، والرجس النجس ، والرجس الحرام ، ثبت ان الكل حرام.

ثم قال من عمل الشيطان ، وعمل الشيطان حرام.

ثم قال فاجتنبوه ، فأمر باجتنابه ، والأمر عندنا يقتضي الوجوب.

ثم قال لعلكم تفلحون ، يعنى باجتنابها ، وضد الفلاح الفساد.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢١٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ٣٣.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٩٠.

٤٧٢

ثم قال « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ » (١) وما يوقع العداوة حرام.

ثم قال « وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَعَنِ الصَّلاةِ » (٢) وما يصد عنهما أو أحدهما حرام ثم قال « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » ، وهذا نهى ومنع منها ، لانه يقال أبلغ كلمة في النهي ان تقول أنت (٣) منته ، لانه تضمن معنى التهديد ان لم تنته عنه ، ففي الآية عشرة أدلّة ، على ما ترى (٤).

وروى عن النبيّ عليه‌السلام انه قال كل شراب ، أسكر ، فهو حرام (٥).

وروى عنه عليه‌السلام انه قال الخمر شر الخبائث ، من شربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما ، فان مات وهي في بطنه ، مات ميتة جاهلية (٦).

وروى عنه عليه‌السلام انه قال لعن الله الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وبائعها ، ومشتريها ، وحاملها ، والمحمولة اليه ، وساقيها ، وشاربها ، وأكل ثمنها (٧).

فإذا ثبت تحريمها ، فمن شربها ، عليه (٨) الحد ، قليلا (٩) شرب أو كثيرا بلا خلاف ، فإذا ثبت هذا فان شرب ، ثم شرب فتكرر ذلك منه ، وكثر قبل ان يقام عليه الحد ، حد للكل حدا واحدا ، لأنّ حدود الله إذا توالت تداخلت.

فان شرب فحد ، ثم شرب فحد ، ثم شرب فحد (١٠) ، قتل في الثالثة على الأظهر من أقوال أصحابنا.

وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (١١).

__________________

(١) و (٢) سورة المائدة ، الآية ٩١.

(٣) ج. أأنت.

(٤) هذه على ما تراها ثمانية أدلّة الّا ان نحسب ذكر الخمر في سياق المحرمات دليلا على حدة فلا تتم أيضا ، أو ان نحسب الرجس على حسب ما فسره بالنجس والحرام والخبيث ثلاثة أدلة.

(٥) سنن أبي داود باب النهي عن المنكر ، ج ٣ ، ص ٣٢٨ ، ح ٣٦٨٢.

(٦) المبسوط : ج ٨ ، ص ٥٨. ولم نعثر عليه في مصدر آخر.

(٧) الوسائل ، الباب ٣٤ ، من أبواب الأشربة المحرمة ، ح ١ ـ ٢ ـ ٤ بتقديم بعض الألفاظ وتأخيرها.

(٨) ج. فعليه.

(٩) ج. قليلا كان.

(١٠) ل. ثم شرب قتل في الثالثة.

(١١) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

٤٧٣

واختياره في مسائل خلافه (١) ومبسوطة (٢) انه يقتل في الرابعة.

فأما عند مخالفي أهل البيت عليهم‌السلام فإنه لا يقتل بل يضرب أبدا.

فأما بيان الأشربة المسكرة وأنواعها ، فالخمر مجمع على تحريمها ، وهو عصير العنب النبيّ (٣) الذي اشتدّ وأسكر ، وفي المخالفين من قال إذا أسكر واشتد وأزبد ، فاعتبر أن يزبد.

والأول مذهبنا ، فهذا حرام نجس ، يحد شاربها (٤) سكر أو لم يسكر ، بلا خلاف بين المسلمين.

واما ما عداها من الأشربة ، وهو ما عمل من العنب ، فمسه طبخ ، أو من غير العنب ، مسه طبخ أو لم يمسه. وكل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ، وكل هذا عند أهل البيت عليهم‌السلام خمر حرام نجس يحد شاربه ، سكر أو لم يسكر ، كالخمر سواء ، وسواء عمل من تمر ، أو زبيب ، أو عسل ، أو حنطة ، أو شعير ، أو ذرّة ، فالكل واحد نقيعه ومطبوخه ، هذا عندنا وعند جماعة من المخالفين وفيه خلاف.

فإذا ثبت ان كل مسكر حرام ، فإنها غير معللة عندنا ، بل محرمة بالنص ، لان التعليل للقياس عليه ، وذلك عندنا باطل ، ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الخليطين (٥) والخليطان نبيذ يعمل من لونين ، تمر وزبيب ، أو تمر وبسر ، ونحو هذا ، فكل ما يعمل من شيئين يسمى خليطين ، والنهى عن ذلك نهى كراهة إذا كان حلوا قبل ان يشتد.

واما النبيذ في الأوعية في أي وعاء كان ، إذا كان زمانا لا تظهر الشدة فيه ،

__________________

(١) الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة ١.

(٢) المبسوط ، ج ٧ ، كتاب الأشربة ، ص ٥٩.

(٣) النيئ ، الشي‌ء الذي لم تمسه النار ولم ينضج.

(٤) ج. فهذا حرام يجب ان يحد شاربها.

(٥) سنن أبي داود الباب ٨ من كتاب الأشربة ( ج ٣ ، ص ٣٣٣ ، ح ٣٧٠٤ ) ، فيه : « من أبي قتادة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انه نهى عن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط البسر والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ».

٤٧٤

وقد ذكرنا ما يحتاج إليه في كتاب الأشربة (١) ، فلا وجه لإعادته.

وحد شارب الخمر عندنا ثمانون جلدة.

وحد المفتري سواء كان مسلما أو كافرا حرا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة لا يختلف الحكم فيه ، الا ان المسلم يقام عليه ذلك على كل حال شربه عليها ، والكافر لا يحد الّا بان يظهر شرب ذلك بين المسلمين ، أو يخرج بينهم سكران ، فان استسرّ بذلك فشربه في بيته ، أو كنيسته ، أو بيعته ، لم يجز أن يحد.

والحد يقام على شارب الخمر ، وكل مسكر من الشراب ، قليلا كان ما شرب منه ، أو كثيرا ، لان القليل منه يوجب الحد ، كما يوجبه الكثير ، لا يختلف الحكم في ذلك على ما قدمناه.

ويثبت الحكم فيما ذكرناه بشهادة شاهدين عدلين ، أو بالإقرار بذلك مرتين.

فان شهد أحد الشاهدين بالشرب ، وشهد الآخر بالقي‌ء ، قبلت شهادتهما ، ووجب بها الحد ، على ما رواه (٢) أصحابنا ، واجمعوا عليه.

وكذلك إن شهدا جميعا بأنه قاء خمرا اللهم الّا ان يدعي من قاءها انّه شربها مكرها عليها غير مختار لذلك ، فيدرأ الحدّ عنه ، لمكان الشّبهة.

فإن قيل كيف يعمل برواية أصحابنا وإجماعهم الذي ذكرتموه.

قلنا يمكن ان يعمل بذلك ، وهو انه لا يدعي الذي قاءها انه شربها مكرها ، وانما خصصنا ما بيناه ، لئلا يتناقض الأدلة ، فإنه قال عليه‌السلام وروته الأمة ، وأجمعت عليه ، بغير خلاف ادرءوا الحدود بالشبهات (٣).

فان ادعى انه أكره على شرب ما قاءه ، يمكن صدقه ، فصار شبهة ، فامّا إذا لم يدع ذلك ، فقد شهد عليه بالشرب ، لأنه إذا قاءها ، فما قاءها الّا بعد ان شربها ، ولم يدع شبهة في شربها ، وهو الإكراه ، فيجب عليه اقامة الحد فصحّ العمل برواية أصحابنا ، وبالرواية الأخرى المجمع عليها ، إذ لا تناقض بينهما على ما حررناه ،

__________________

(١) في ص ١٢٨.

(٢) الوسائل ، الباب ١٤ ، من أبواب حد المسكر ، ح ١.

(٣) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب مقدّمات الحدود .. ح ٤.

٤٧٥

فليلحظ.

ولا تقبل شهادة على شهادة في شي‌ء من الحدود.

ولا يجوز أيضا ان يكفل من وجب عليه الحد ، بل ينبغي ان يقام عليه الحد على البدار.

ولا تجوز الشفاعة في إسقاط حد من الحدود ، لا عند الامام ، ولا عند غيره من الحكام النواب عنه.

ويثبت أيضا بإقرار الشارب على نفسه مرتين ، ويجب به الحد ، كما يجب بالبيّنة سواء ، على ما قدمناه.

ومن شرب الخمر مستحلّا لها ، حل دمه ، ووجب على الامام ان يستتيبه ، فان تاب ، قام عليه الحد للشرب (١) ان كان شربه ، ولن لم يتب قتله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٢).

والاولى والأظهر : انه يكون مرتدا ، ويحكم فيه بحكم المرتدين ، لانه قد استحل ما حرمه الله تعالى ، ونص عليه في محكم كتابه.

وليس المستحل لما عدا الخمر من المسكرات يحل دمه ، وللإمام ان يعزره ، والحدّ في شربه لا يختلف على ما بيّناه ، لان الخمر مجمع على تحريمه ، منصوص في كتاب الله تعالى ، وليس كذلك باقي المسكرات ، لأنّ لها شبها وتأويلات.

وشارب الخمر وسائر الأشربة المسكرة يضرب عريانا على ظهره وكتفيه ، ولا يضرب على وجهه وفرجه على حال.

ولا يجوز أكل طعام فيه شي‌ء من الخمر ، ولا شي‌ء من المسكر ، ولا الاصطباغ بشي‌ء فيه من ذلك ، قليل ولا كثير (٣) ، ولا استعمال دواء فيه شي‌ء منه.

فمن أكل شيئا مما ذكرناه ، أو شرب ، كان عليه ثمانون جلدة ، فإن أكل ذلك أو شرب ، وهو لا يعلم ان فيه خمرا لم يكن عليه شي‌ء.

ولا ينبغي للمسلم ان يجالس شرّاب (٤) شي‌ء من المسكرات ، ولا ان يجلس على

__________________

(١) ج. ل. حد الشرب.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

(٣) ج. قليل أو كثير. ل. قليلا أو كثيرا.

(٤) ج. شارب. والشرّاب جمع شارب.

٤٧٦

مائدة يشرب عليها شي‌ء من ذلك ، خمرا كان أو غيره ، وكذلك الحكم في الفقاع ، فمتى فعل ذلك ، كان عليه التأديب ، حسب ما يراه الامام.

ولا يقام الحد على السكران في حال سكره ، بل يمهل حتى يفيق ، ثم يقام عليه الحد.

وشارب الخمر إذا أقيم عليه الحد مرتين ، ثم عاد ثالثة ، وجب عليه القتل فيها.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (١).

وذهب في مسائل خلافه : إلى انه لا يقتل إلّا في الرابعة ، أو الخامسة (٢).

والأول هو الذي يقتضيه أصول المذهب ، لقولهم عليهم‌السلام أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة.

ومن باع الخمر أو الشراب المسكر ، أو اشتراه ، كان عليه التأديب ، فان فعل ذلك مستحلا له ، استتيب ، فان تاب والّا وجب عليه ما يجب على المرتدين.

وحكم الفقاع في شربه ، ووجوب الحد على من شربه ، وتأديب من اتجر فيه ، وتعزير من استعمله ، حكم الخمر على السواء ، بما ثبت (٣) عن أهل البيت (٤) عليهم‌السلام وإجماعهم عليه.

ومن استحل الميتة ، أو الدم ، أو لحم الخنزير ، ممن هو مولود على فطرة الإسلام ، فقد ارتد بذلك عن الدين ، ووجب عليه القتل بالإجماع.

وكذا ينبغي ان يكون حكم من استحل شرب الخمر من غير استتابة للمولود (٥) على فطرة الإسلام.

وما قلناه من استتابته ، فمحمول على غير المولود على فطرة الإسلام ، بل على من كان كافرا ثم أسلم ثم استحل ذلك ، فهذا يستتاب ، فان تاب ، والّا ضربت عنقه ،

__________________

(١) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

(٢) الخلاف ، كتاب الأشربة ، مسألة ١ وهي تدل على القتل في الرابعة.

(٣) ج بما ثبت عليهم.

(٤) الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب حد المسكر والباب ٢٧ ـ ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١ ـ ٢.

(٥) ج. ل. المولود.

٤٧٧

لان المرتد عندنا على ضربين على ما يأتي بيانه فيما بعد ان شاء الله تعالى.

ومن تناول شيئا من ذلك محرما له ، كان عليه في الخمر والمسكر الحد ثمانون جلدة ، فإن كان ذلك ميتة ، أو لحم خنزير ، أو دما ، كان عليه التعزير ، فان عاد بعد ذلك (١) عزر وغلظ عقابه ، فان تكرر منه ذلك دفعات وأقلها ثلاث ، قتل ليكون (٢) عبرة لغيره.

ومن أكل الربا بعد الحجة عليه في تحريمه عوقب على ذلك حتى يتوب ، فان استحل ذلك وكان مولودا على فطرة الإسلام ، وجب قتله من غير استتابة ، فإن كان قد تقدمه كفر استتيب ، فان تاب ، والا وجب قتله.

والتجارة في السموم القاتلة محظورة ، ووجب على من اتجر في شي‌ء منها العقاب والتعزير ، فان استمر على ذلك ولم ينته ، وجب عليه القتل.

ويعزر آكل الجري ، والزمار ، والمارماهي ، ومسوخ السمك كلها ، والطحال ، ومسوخ البر ، وسباع الطير ، وغير ذلك مما لا يؤكل لحمه من المحرمات ، فان عاد أدب ثانية ، فان استحل شيئا من ذلك ، وجب عليه القتل.

ومن تاب من شرب الخمر أو غيره من المسكرات التي توجب الحد ، وكذلك الفقاع ، لان حكمه عند أهل البيت عليهم‌السلام ، حكم الخمر سواء ، على ما ذكرناه ، أو تاب مما يوجب التأديب قبل قيام البيّنة عليه ، سقط عنه الحد ، فان تاب بعد قيام البيّنة عليه ، لم تسقط التوبة الحد ، وأقيم عليه على كل حال.

فان كان أقر على نفسه وتاب بعد الإقرار ، قبل ان يرفع الى الامام أو الحاكم ، درأت التوبة أيضا عنه الحد ، فان كان قد أقر عند الحاكم أو الإمام ، ثم تاب بعد إقراره عندهما ، فإنه يقام الحد عليه ، ولا يجوز إسقاطه ، لأن هذا الحد لا يوجب القتل بل الجلد ، وقد ثبت ، فمن أسقطه يحتاج الى دليل ، وحمله على الإقرار بما يوجب القتل في الرجم قياس لا نقول به ، لانه عندنا باطل.

وقال شيخنا في نهايته : فان كان أقر على نفسه وتاب بعد الإقرار ، جاز للإمام

__________________

(١) ج. عاد بذلك. ل. عاد الى ذلك.

(٢) ج. ليكون ذلك.

٤٧٨

العفو عنه ، ويجوز له اقامة الحد عليه (١).

الّا انه رجع عن ذلك في مسائل خلافه (٢) ومبسوطة (٣) ، وقال كل حد لا يوجب القتل وأقر به من جناه ، فلا يجوز للإمام العفو عنه ، ووجب عليه إقامته.

وهذا هو الظاهر من أقوال أصحابنا ، بل ما أظن أحدا خالف فيه ، لان شيخنا رجع عما ذكره في نهايته.

ومن شرب الخمر والمسكر في شهر رمضان ، أو في موضع شريف ، مثل حرم الله ، أو حرم رسوله أو المشاهد والمساجد ، أقيم عليه الحد في الشرب ، وأدب بعد ذلك لانتهاكه حرمة الله تعالى ، وحرمة أوليائه ، وكذلك من فعل شيئا من ذلك في الأوقات الشريفة.

إذا عزر الإمام أو الحاكم من قبله إنسانا فمات من التعزير ، فلا دية له لا في (٤) بيت المال ، ولا على الحاكم ، ولا على عاقلته بحال ، لقوله تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (٥) وهذا محسن بتعزيره ، ولا كفارة أيضا عليه ولقول أمير المؤمنين عليه‌السلام من أقمنا عليه حدا من حدود الله ، فمات ، فلا ضمان (٦) ، وهذا حد ، وان كان غير معين.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، الذي يقتضيه مذهبنا ، انه يجب الدية في بيت المال (٧).

ولا دليل على ما قاله من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وانما ورد ان الدية في بيت المال فيما أخطأت فيه الحكّام ، وهذا ما أخطأ فيه بحال.

إذا أقام الحاكم على شارب الخمر الحد بشاهدين ، فمات فبان انهما فاسقان ، فالضمان على الحاكم ، لان عليه البحث عن حال الشهود ، فإذا لم يفعل فقد فرّط ، فعليه الضمان ، واين يضمن عندنا من بيت المال ، لان هذا من خطأ الحكّام.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في شرب الخمر.

(٢) الخلاف ، لم نجده فيه بل المسألة ١٣ من كتاب قطّاع الطريق ربما تدل على خلافه فراجع.

(٣) المبسوط : ج ٨ كتاب الحدود ، ص ٤.

(٤) ج. فلا دية له في بيت المال.

(٥) سورة التوبة ، الآية ٩١.

(٦) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب مقدمات الحدود ، ح ٤ ، باختلاف في الألفاظ.

(٧) المبسوط ، ج ٨ كتاب الأشربة ، ص ٦٣.

٤٧٩

وقال قوم من المخالفين على عاقلته.

إذا ذكرت عند الحاكم امرأة بسوء ، فأرسل إليها فأجهضت ، اى أسقطت ما في بطنها فزعا منه ، فخرج الجنين ميتا ، فعلى الحاكم الضمان ، لما روى (١) من قصة المجهضة ، واين يكون على ما مضى ، وقلنا ان ما أخطأت فيه الحكّام فعلى بيت المال ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٢).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا أن دية الجنين على عاقلة الامام والحاكم ، لان هذا بعينه قتل الخطأ المحض ، وهو ان يكون ، غير عامد في قصده (٣) ، فكذلك هذا ، لانه لم يقصد الجنين بفعل ، ولا قصد قتله ، وانما قصد شيئا أخر ، وهي أمّة ، فإذا تقرر ذلك فالدية على عاقلته ، والكفارة في ماله.

والمسألة منصوصة لنا ، قد وردت في أخبارنا ، وفتوى أمير المؤمنين عليه‌السلام لعمر بن الخطاب ، في قصّة المجهضة ، معلومة شايعة عندنا وعند المخالفين ، قد أوردها شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي رضى الله عنه في كتابه الإرشاد ، في قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرة عمر بن الخطاب ، بحضور جماعة من الصحابة ، فسألهم عمر عن ذلك ، فاخطأوا وأمير المؤمنين جالس فقال له عمر ، ما عندك في هذا يا أبا الحسن ، فتنصّل من الجواب ، فعزم عليه ، فقال له ان كان القوم قد قاربوك ، فقد غشوك ، وان كانوا ارتاءوا ، فقد قصروا ، الدية ، على عاقلتك ، لان قتل الصبيّ خطأ ، تعلق بك فقال أنت والله نصحتني من بينهم ، والله لا تبرح حتى تجري الدية على بنى عدي ، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وانما نظر (٥) شيخنا ما ذكره المخالفون ، فقد اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا.

قال شيخنا أبو جعفر في كتاب الأشربة من الجزء السادس من مبسوطة ، الختان

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب موجبات الضمان ، ح ١ ، باختلاف في الألفاظ.

(٢) المبسوط ، ج ٨ ، كتاب الأشربة ، ص ٦٤ ، وكلامه قدس‌سره فيه يتم على ما مضى.

(٣) ج. غير عامد في فعله ، غير عامد في قصده.

(٤) الإرشاد ، قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ص ٩٨ ، ط سنة ١٣٧٧.

(٥) ج. سطر ، ل. ينظر.

٤٨٠