كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

كِتَابُ الوَصايا

١٨١

كتاب الوصايا

الوصيّة مشتقة من وصى يصي ، وهو الوصل ، قال الشاعر ذو الرمّة :

نصى الليل بالأيام حتى صلاتنا

مقاسمة يشتق انصافها السفر

ومعناه انّه يصل تصرّفه بما يكون بعد الموت ما قبل الموت ، ويقال منه أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصية والوصاية.

إذا ثبت هذا ، فالأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ » (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوصيّة حق على كلّ مسلم (٢).

وقال عليه‌السلام ما ينبغي لامرئ مسلم ان يبيت ليلة الا ووصيته تحت رأسه (٣).

وروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال ما من ميّت تحضره الوفاة إلا رد الله عليه من سمعه وبصره وعقله للوصيّة ، أخذ الوصيّة أو ترك ، وهي الرّاحة التي يقال لها راحة الموت ، وهي حق على كل مسلم (٤).

وروي عن الرسول عليه‌السلام انه قال من مات بغير وصيّة ، مات ميتة جاهليّة (٥)

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٠.

(٢) الوسائل ، الباب ١ من كتاب الوصايا ح ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٦.

(٣) الوسائل ، الباب ١ من كتاب الوصايا ح ٥ ـ ٧.

(٤) الوسائل ، الباب ٤ ، من كتاب الوصايا ح ١ ، وفي المصدر ، آخذ للوصيّة ، أو تارك.

(٥) الوسائل الباب ١ من كتاب الوصايا ح ٨.

١٨٢

معنى قوله عليه‌السلام « مات ميتة جاهلية » المراد به ان أهل الجاهليّة ما كانوا يرون الوصيّة ، فإذا لم يوص المسلم ، فقد عمل كعملهم ، وشابههم ، أو من تركها معتقدا انّها غير مشروعة ولا مسنونة ، فهذا جاحد للنّص القرآني ، حكمه حكم الكفار المرتدين.

وروي عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام انه قال : من اوصى ولم يحف ، ولم يضار كان كمن صدق به في حياته (١).

وقال ما أبالي أضررت بورثتي أو سرفتهم ذلك المال (٢).

سرفتهم بالسين غير المعجمة والراء غير المعجمة المكسورة ، والفاء ، ومعناه اخطأتهم ، واغفلتهم ، لان السرف الإغفال ، والخطأ ، وقد سرفت الشي‌ء بالكسر ، إذا أغفلته وجهلته ، وحكى الأصمعي عن بعض الاعراب ، وواعده أصحاب له من المسجد مكانا فاخلفهم فقيل له في ذلك ، فقال مررت بكم ، فسرفتكم ، اى اخطأتكم واغفلتكم ، ومنه قول جرير.

أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية

ما في عطائهم منّ ولا سرف

اي إغفال وخطأ ، أي لا يخطئون موضع العطاء ، بأن يعطوه من لا يستحق ، ويحرموه المستحق ، هكذا نصّ عليه جماعة أهل اللّغة ، ذكره الجوهري في كتاب الصّحاح ، وأبو عبيد الهروي في غريب الحديث ، وغيرهما من اللغويّين.

فامّا من قال : في الحديث « سرقتهم ذلك المال » بالقاف ، فقد صحّف ، لان سرقت لا يتعدى الى مفعولين ، الّا بحرف الجرّ ، يقال سرقت منه مالا ، وسرفت بالفاء يتعدى الى مفعولين بغير حرف الجرّ ، فليلحظ ذلك.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام انّه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من لم يحسن وصيّته عند الموت ، كان ذلك نقصا في مروته وعقله (٣).

فينبغي للمرء المسلم ان يتحرز من خلاف الله عزوجل وخلاف رسوله

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥ من كتاب الوصايا ، ح ٢ ، وفي المصدر ، كمن تصدق به.

(٢) الوسائل ، الباب ٥ من كتاب الوصايا ، الحديث ١ ، وفيه : « سرقتهم » بالقاف.

(٣) الوسائل ، الباب ٣ ، من كتاب الوصايا ، ح ١.

١٨٣

عليه‌السلام في ترك الوصيّة وإهمالها ، ويستظهر لدينه ، ويحتاط لنفسه ، بالوصيّة لأهله وإخوانه ، بتقوى الله ، والطّاعة له ، واجتناب معاصيه ، وما يجب أن يصنعوه في غسله ، وتحنيطه ، وتكفينه عند وفاته ، ومواراته ، وقضاء ديونه ، والصّدقة عنه ، والتدبير لتركته ، والنظر في أمر أطفاله ، ويسند ذلك الى ثقة عدل في نفسه ، ليقوم به ، ولا يفرّط فيه ان شاء الله.

والواجب منها البداءة بالإقرار على جهة الجملة بما أوجب الله تعالى علمه (١) ، والعمل به ، ثمّ الوصيّة بالاستمساك بذلك ، وبتقوى الله تعالى ، ولزوم طاعته ، ومجانبة معصيته ، ويعيّن من ذلك ما يجب من غسله وتكفينه ومواراته ، ثم الوصيّة بما عليه من حقّ واجب ديني أو دنيوي ، ويخرج ذلك من أصل تركته ان أطلق ، ولم يقيده بالثلث ، فان لم يكن عليه حق ، استحب له ان يوصي بجزء من ثلثه ، يصرف في النذور والكفارات ، وجزء في الحجّ والزيارات ، وجزء يصرف إلى مستحقي الخمس ، وجزء إلى مستحقي الزكوات وجزء الى من لا يرثه من الأهل والقرابات.

وجملة الأمر وعقد الباب على جهة الجملة ، دون التفصيل ، ان من شرط صحتها حصول الإيجاب من الموصي ، والقبول من الموصى اليه ، ومن شرطه ان يكون حرا مسلما ، بالغا عاقلا ، عدلا ، بصيرا بالقيام ، بما أسند إليه ، رجلا كان أو امرأة.

ويجوز للمسند إليه القبول في الحال ، ويجوز له تأخير ذلك ، لان الوصيّة بمنزلة الوكالة.

قال بعض أصحابنا هي عقد منجز في الحال ، فجاز القبول فيها ، بخلاف قبول الموصى له ، فإنه لا يعتد به الا بعد الوفاة ، لأن الوصيّة تقتضي تمليكه في تلك الحال ، فتأخّر القبول إليها ، هذا أخر كلام من حكينا قوله (٢).

ولا أرى بأسا بقبوله قبل الموت وبعده. وعلى كلّ حال لانه لا مانع منه.

وللموصي الرجوع في الوصيّة وتغييرها ، بالزيادة والنقصان ، والاستبدال بالأوصياء ما دام حيّا.

__________________

(١) ج. ل. أوجب الله تعالى عليه.

(٢) وهو أبو المكارم ابن زهرة في الغنية ، في فصل في الوصية.

١٨٤

ولا يجوز للمسند اليه ترك القبول إذا بلغه ذلك بعد موت الموصي ، ولا ترك القيام بما فوّض اليه من ذلك ، إذا لم يقبل وردّ ، فلم يبلغ الموصي ذلك حتّى مات.

ولا يجوز للوصي ان يوصي الى غيره ، الا ان يفوّض ذلك الموصى اليه ، فاما إذا أطلق الوصية فلا يجوز له ذلك على الصحيح من المذهب ، وهو اختيار شيخنا المفيد (١).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، يصحّ ذلك (٢).

والأوّل هو الأظهر ، لأن ما ذهب اليه شيخنا أبو جعفر ، يحتاج الى دليل ، لانه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وإذا ضعف الوصي عمّا أسند إليه ، فعلى الناظر في مصالح المسلمين ان يعضده بقويّ أمين ، وليس له عزله ، فان مات أو فسق ، اقام مقامه من يراه لذلك أهلا.

والوصيّة المستحبة والمتبرع بها ، محسوبة من الثلث ، سواء كانت في حال الصحّة ، أو في حال المرض ، وتبطل فيما زاد عليه ، الا ان يجيز ذلك الورثة بعد موته ، لا قبل الموت على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقد ذهب بعضهم الى ان الإجازة من الورثة لهم سواء أجازوا قبل الموت أو بعده ، وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله (٣) والأول اختيار شيخنا المفيد (٤) وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنها اجازة في غير ما لا يستحقونه بعد (٥) ، فلا يلزمهم ذلك بحال.

__________________

(١) في المقنعة ، باب الوصيّ يوصى الى غيره ، والعبارة هكذا ، وليس للوصيّ ان يوصى الى غيره الّا ان يشترط ذلك الموصي ..

(٢) في النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء ، والعبارة هكذا ، وإذا حضر الوصيّ الوفاة وأراد ان يوصى الى غيره ، جاز له ان يوصى اليه بما كان يتصرف فيه من الوصيّة.

(٣) في النهاية ، باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ ، والعبارة هكذا ، فإن وصى بأكثر من الثلث ورضى به الورثة لم يكن لهم بعد ذلك امتناع من إنفاذها لا في حال.

(٤) في المقنعة ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، والعبارة هكذا ، فان أمضوه في الحياة كان لهم الرجوع فيه بعد الموت خيابة ولا بعد وفاته ..

(٥) ج. ل. في غير ما يستحقونه بعد. والظاهر ان لفظ الغير زائدة وحق العبارة ان يقال فيما لا يستحقونه بعد.

١٨٥

وتصحّ الوصيّة عندنا للوارث في المرض المتصل بالموت ، بدليل إجماع أصحابنا ، وأيضا قوله تعالى « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » (١) وهذا نصّ في موضع الخلاف ، ولا يمكن ان يدعى نسخ هذه الآية بآية المواريث ، لانه لا تنافي بينهما ، وإذا أمكن العمل بمقتضاهما ، لم يصحّ دعوى النسخ ، وقولهم « تخصّ الآية بالوالدين والأقربين إذا كانوا كفارا » يفتقر الى دليل ، ولا دليل لهم على ذلك.

وما يروونه من قوله عليه‌السلام « لا وصيّة لوارث » قد نصّ أصحاب الحديث على تضعيف رواته ثمّ هو مخالف لظاهر القرآن المعلوم ، ولا يجوز ترك المعلوم للمظنون ، ولو سلم من ذلك كله ، لكان خبر واحد ، وقد بيّنا انّه لا يجوز العمل بذلك عند أصحابنا في الشرعيّات.

والوصيّة تصح للكافر سواء كان ذا رحم ، أو غير ذلك ، لأنها عطية بعد الموت ، وليس من شرطها نية القربة ، ولا من مصححاتها.

وذهب بعض أصحابنا الى أن الوصية للكافر لا تصحّ الّا ان يكون ذا رحم للموصي.

ويجوز الوصيّة للحمل ، فان ولد ميتا فهي لورثة الموصي ، دون ورثة الموصي له.

وإذا اوصى بثلث ماله في أبواب من البر ، ولم يذكر تفصيلا ، كان لكل باب منها مثل الآخر ، وكذلك إذ أوصى لجماعة ولم يرتبهم ، ولا سمى لكلّ واحد منهم شيئا معيّنا ، وان رتبهم ، وسمى ما لكل واحد منهم ، بدئ بالأوّل ، ثمّ الثّاني إلى تكميل الثلث ، ولا شي‌ء لمن بقي منهم.

ومن اوصى بوصايا من ثلثه ، وعين منها الحجّ ، وكانت عليه حجّة الإسلام ، وجب تقديم الحجّ على الوصايا الأخر ، وان لم يبق لها شي‌ء من الثلث ، لأن الحجّ واجب ، وليس بمتبرّع به.

ويستأجر للنيابة عنه من بلده ، فان لم يف الثلث بذلك ، تمم من أصل المال ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٠.

١٨٦

واستؤجر من بلده ، فان لم يف الجميع بذلك ، استؤجر من ميقات اهله.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه يستأجر للنّيابة عنه من ميقات اهله.

والأوّل هو الأظهر ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في نهايته (١) ، وبه تواترت الأخبار عن الأئمة الأبرار ، والثاني خيرة شيخنا أيضا في مبسوطة (٢).

ومن اوصى بسهم من ماله ، كان ذلك الثمن.

ومن اوصى بجزء من ماله ، كان ذلك السبع ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، والأظهر من اخبارهم ، وقد وردت رواية (٣) شاذة ، وقال بها بعض أصحابنا ، الى انّ الجزء يكون العشر والأوّل هو الصحيح.

ومن اوصى بشي‌ء من ماله كان ذلك السّدس بغير خلاف.

وذهب بعض أصحابنا الى ان من اوصى بسهم من ماله ، يكون السدس.

والأوّل هو الأظهر المعمول عليه.

ومن اوصى لقرابته ، دخل في ذلك من كان معروفا بنسبه واهله في العادة والعرف ، دون من سواهم.

وقد روي رواية شاذة ، إلى انه يدخل في ذلك كل من تقرب إليه إلى آخر أب وأم في الإسلام (٤).

أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥) ، وما اخترناه اختاره في مسائل خلافه ، ودلّ على صحّته وفساد ما قاله في نهايته.

ومن اوصى في سبيل الله ، صرف ذلك في جميع مصالح المسلمين ، مثل بناء

__________________

(١) النهاية ، كتاب الوصايا باب الوصية المبهمة.

(٢) المبسوط : ج ٤ ، كتاب الوصايا ص ٢٤ ، والعبارة هكذا ، وكل موضع قلنا يحج من ثلثه فمن اين يجزيه .. وفيهم من قال يحرم من الميقات وهو الذي تقتضيه مذهبنا.

(٣) الوسائل ، الباب ٥٤ من كتاب الوصايا ، ح ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ـ ١١.

(٤) لم نجدهما في المجاميع ، وظاهر عبارة المتن انها مروية في النهاية فقط ، راجع الوسائل ، الباب ٦٨ من الوصايا.

(٥) النهاية : باب الوصية المبهمة.

١٨٧

المساجد ، والقناطر ، وتكفين الموتى ، ومعونة الحاج ، والزوار ، وما أشبه ذلك ، بدليل إجماع أصحابنا ، ولان ما ذكرناه طرق الى الله سبحانه ، فإذا كان كذلك ، فالأولى حمل لفظة « سبيل الله » على عمومها.

ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل خلافه ، في كتاب الإقرار ، إلى انّه من قال له عندي مال كثير ، فإنّه يكون إقرارا بثمانين ، على الرواية التي تضمنت بأنّ الوصيّة بالمال الكثير بثمانين ، ثم قال وعليه إجماع الطائفة ، في تفسير الكثير بثمانين (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله مصنف هذا الكتاب قول شيخنا « على الرّواية التي تضمنت بأن الوصيّة بالمال الكثير تكون ثمانين » فيه تسامح وتجاوز ، إنّما الرواية (٢) وردت فيمن نذر ان يتصدّق بمال كثير ، وما وردت بالوصيّة جملة كافية ، ولا أوردها أحد من أصحابنا في الوصايا ، والذي يقتضيه أصول المذهب ، ويحكم به الأدلة والاعتبار ، ان لا نتجاوز بالرّواية ما وردت فيه فحسب ، ولا نعدّ بها الى غير النذر ، ونرجع في تفسير الكثير الى المقرّ ، وكذلك في الوصيّة نرجع إليهم في تفسير الكثير ، وكذلك نرجع الى العرف والعادة في كثير الجراد فيمن قتله وهو محرم ، وكذلك كثير الشعر ، ونلزم الأصول ، فإن تعدّيناها نصير قايسين ، والقياس باطل على مذهبنا.

قد ذكرنا هذه الجملة والان نذكر الأبواب وتفصيل كل شي‌ء في بابه على المألوف في التصنيف.

باب الأوصياء

ينبغي للمسلم ان يختار لوصيّته من يثق بديانته ، ولا تصح الوصيّة الّا الى من جمع صفات خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعدالة ، والحرّيّة ، فمتى اختل

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣ من كتاب النذر والعهد ، ح ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤.

(٢) الخلاف ، كتاب الإقرار ، مسألة ١.

١٨٨

شي‌ء منها ، بطلت الوصيّة.

وانّما راعينا البلوغ ، لأن الصبيّ لا يجوز ان يكون وصيّا ، لقوله عليه‌السلام رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يحتلم (١) ، وفي بعضها حتّى يبلغ (٢) ، وإذا كان كذلك ، لم يكن لكلامه حكم ، ومن كان كذلك لا يجوز ان يكون وصيّا لانه مولى عليه في نفسه ، فلا يجوز ان يكون وصيّا لغيره.

وراعينا العقل ، لأن من ليس بعاقل ليس بمكلف ، ومن لا يكون مكلّفا لا يجوز ان يكون وصيّا.

والإسلام ، لا بدّ منه ، لان الكافر فاسق ، والمسلم لا يجوز ان يوصى الى كافر ولا فاسق ، لأنّهما ليسا من أهل الامانة ، والوصيّة امانة.

ويجب ان يكون عدلا لأن الوصيّة امانة ، ولا يؤمن الا العدل.

والحرية شرط ، لان المملوك لا يملك من نفسه التصرّف ، وحكم المدبّر وأم الولد والمكاتب ، حكم العبد القن.

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، إلى انه يجوز الوصيّة إلى المدبر والمكاتب ، والأوّل هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، دون ما سواه.

ويعتبر هذه الأوصاف في الحالين معا ، حال الوصيّة ، وحال الموت.

والذي يقتضيه مذهبنا وتشهد به أصولنا ، ورواياتنا ، انّ العدالة في الوصيّ ليست شرطا في صحة الوصيّة اليه ، وانّما ذلك على جهة الأولى والمستحب ، دون ان يكون شرطا في الصحّة ، ولا خلاف ان الإنسان يجوز ان يودع الفاسق وديعة ، وهي امانة ، ويجعله أمينه في حفظها ، فكذلك الوصيّة.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٤ ، من مقدمات العبادات ، ح ١٠ وفي سنن أبي داود ج ٤ ص ١٤١ كتاب الحدود ، باب ١٦.

(٢) سنن أبي داود ، الباب ١٦ من كتاب الحدود ( ج ٤ ، ص ١٤١ ، الرقم ٤٤٠٢ ) مسند ابن حنبل ، في مواضع من مسند على عليه‌السلام منها قوله عليه‌السلام : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : رفع القلم عن ثلاثة : عن الصغير حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المصاب حتى يكشف عنه » ، ج ١ ، ص ١١٦.

١٨٩

والوصيّ إذا تغيّرت حاله ، نظرت ، فان كان تغيّر بالكبر والمرض ، فان الحاكم يضيف إليه إليه أمينا آخر ، ولا يخرج من يده ، لان الكبر والمرض لا ينافيان الامانة ، وان كان تغير حاله بفسق ، أخرجت الوصيّة من يده ، لان الفاسق لا يكون أمينا على ما أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (١) ، وهذا الكتاب معظمه فروع المخالفين ، وكلام الشافعي ، وتخريجاته ، ولم يورد أصحابنا في ذلك شيئا لا رواية ولا تصنيفا ، والأصل صحّة الوصية اليه ، والاعتماد عليه ، مع قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » (٢) وعزله عن الوصيّة وإخراجه منها ، تبديل وتغيير بلا خلاف.

والمرأة يصحّ أن تكون وصيّة على ما قدمناه (٣) ، وكذلك الأعمى.

ولا بأس ان يوصي على اثنين ، أحدهما صغير والأخر كبير بعد ان يكون الكبير ممّن جمع الأوصاف الخمسة ، ويجعل للكامل النظر في الحال ، وللصبي إذا بلغ ، فان مات الصبيّ أو بلغ ، وكان فاسد الرأي ، كان للعاقل إنفاذ الوصيّة ، فإذا أنفذ البالغ الكامل الوصيّة ، كان ذلك جائزا ، فإذا بلغ الصبي ولم يرض بذلك ، لم يكن له الفسخ لما أنفذه البالغ الكامل ، الا ان يكون الكبير خالف شرط الوصيّة.

فإن اوصى الى كاملين فلا يخلو من ثلاثة أحوال ، امّا ان يطلق الوصيّة إليهما ، أو يقيّدها بان لا يمضي أحدهما شيئا إلّا باتفاق الآخر ، أو يقيّدها بان كلّ واحد يمضي على الاجتماع والانفراد.

فالقسمان الأولان ، لا يجوز لأحدهما التصرف الّا باتّفاق الآخر ، لانه ما رضي بامانة أحدهما دون الآخر.

فاما القسم الثالث ، فإنه يجوز ان يتصرّف كلّ واحد منهما على الاجتماع وعلى الانفراد.

فإن أطلق الوصيّة أو قيّدها بالاجتماع ، لم يكن لكلّ واحد منهما الاستبداد

__________________

(١) المبسوط ، ج ٤ ، كتاب الوصايا ، فصل في ذكر الأوصياء ، ص ٥٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٨١.

(٣) في ص ١٨٤.

١٩٠

بما يصيبه.

فان تشاحّا في الوصيّة والاجتماع ، لم ينفذ شي‌ء مما يتصرّفان فيه ، الّا ما يعود لمصلحة الورثة والكسوة لهم ، والمأكول ، على ما روى (١) ، وللنّاظر في أمر المسلمين الاستبدال بهما ، لأنّهما حينئذ قد فسقا ، لأنّهما أخلّا بما وجب عليهما القيام به ، وقد قدّمنا (٢) ان بالفسق تخرج الوصيّة من يده.

ولا بأس ان يوصي الإنسان إلى أولاده ، والى من يرثه ، والى زوجته ، فإن أوصى إليهم وكان فيهم صغار وكبار ، كان للكبار إنفاذ الوصيّة ـ وان لا ينتظروا بلوغ الصّغار الّا ان يكون الموصى قد اشترط إيقاف الوصية إلى وقت بلوغ الصغار وكان الشي‌ء الذي اوصى به يجوز تأخيره ، فإن كان ذلك لم يجز لهم ان ينفذوا شيئا منها الا بعد بلوغ الصغار منهم.

وإذا اوصى الإنسان إلى غيره ، كان بالخيار في قبول الوصيّة وردّها ، إذا كان حاضرا شاهدا ، فان كان الموصى إليه غائبا ، فإن له ردّ الوصيّة ما دام الموصي حيّا ، فإذا مات الموصي قبل ان يبلغ اليه الامتناع من قبول الوصيّة ، لم يكن للموصى الغائب الامتناع من القيام بها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وإذا حضر الوصي الوفاة ، وأراد أن يوصي الى غيره ، جاز له ان يوصي اليه بما كان يتصرّف فيه من الوصيّة ، ويلزم الموصى إليه القيام بذلك (٣).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : وليس للموصي ان يوصي الى غيره ، الّا ان يشترط ذلك الموصي ، فان لم يشترط له ذلك ، لم يكن له الإيصاء في الوصيّة ، فان مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولى إنفاذ الوصيّة ، على حسب ما كان يجب على الوصيّ ان ينفذها ، وليس للورثة ان يتولّوا ذلك بأنفسهم ، وإذا عدم السّلطان العادل فيما ذكرناه من ذلك ، كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرّأي

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥١ من كتاب الوصايا ، والمستفاد من روايات الباب عدم تنفيذ عمل كل من الوصيّين فحسب.

(٢) في ص ١٩٠.

(٣) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

١٩١

والفضل ان يتولوا ما يتولاه السّلطان ، فان لم يتمكّنوا من ذلك ، فلا تبعة عليهم فيه (١).

وهذا الذي اختاره ، واعمل عليه ، وافتي به ، وقد قدمنا ذلك وأجملناه (٢) فيما مضى (٣).

وللموصي أن يستبدل بالأوصياء ما دام حيّا صحيح العقل ، لا يولى على مثله ، فإذا مضى لسبيله لم يكن لأحد ان يغيّر وصيّته ، ولا يستبدل باوصيائه ، فان ظهر منه خيانة ، كان على الناظر في أمور المسلمين ان يعزله ، ويقيم أمينا مقامه على ما قدّمناه (٤) ، وان لم يظهر منه خيانة ، الّا انّه ظهر منه عجز وضعف عن القيام بالوصيّة ، كان للناظر في أمر المسلمين ان يقيم أمينا ضابطا يعينه على تنفيذ الوصيّة ، ولم يكن له عزله لضعفه.

والوصي إذا خالف ما أمر به كان ضامنا للمال.

وقد روي انّه إذا أمر الموصي الوصي ان يتصرف في تركته لورثته ، ويتجر لهم بها ، ويأخذ نصف الربح ، كان ذلك جائزا وحلال له نصف الربح (٥) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (٦).

الا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه الميت قبل موته والربح تجدّد بعد موته ، فكيف ينفذ وصيته وقوله فيه ، وفي الرواية نظر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وإذا كان للوصي على الميّت مال ، لم يجز له ان يأخذ من تحت يده ، الّا ما تقوم له به البينة (٧).

وهذا خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

والذي يقضيه أصول مذهبنا ، انه يأخذ مما له في يده ، لان من له على إنسان مال ، ولا بينة له عليه ، ولا يقدر على استخلاصه ظاهرا ، فله أخذ حقه باطنا ، لانه يكون بأخذ ماله من غير زيادة عليه محسنا لا مسيئا. وقد قال تعالى « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ

__________________

(١) المقنعة ، باب الوصيّ يوصي الى غيره ص ٦٧٦.

(٢) ج. أحكمناه.

(٣) و (٤) في ص ١٨٥.

(٥) الوسائل : الباب ٩٢ من كتاب الوصايا ح ١ ـ ٢.

(٦) و (٧) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

١٩٢

مِنْ سَبِيلٍ » (١).

وقال شيخنا في نهايته : ومتى باع الوصيّ شيئا من التركة لمصلحة الورثة ، وأراد أن يشتريه لنفسه ، جاز له ذلك ، إذا أخذه بالقيمة العدل من غير نقصان (٢).

والذي يقتضيه مذهبنا ، انه لا يجوز له ان يشتريه لنفسه بحال ، لأنّ الإنسان لا يكون موجبا قابلا في عقد واحد ، لان العقد يكون بين اثنين ، فلا يصح ذلك الّا ما خرج بإجماعنا من الوالد إذا اشترى من مال ولده الصغير ، فلا نقيس غيره عليه بحال ، لأنا لا نقول بالقياس في الشرعيّات.

الّا ان شيخنا أبا جعفر رجع عمّا ذكره في نهايته ، وقال بخلافه في مسائل خلافه ، في كتاب الوكالة في الجزء الثاني ، فقال مسألة : جميع من يبيع مال غيره ستة أنفس ، الأب ، والجد ، ووصيّهما ، والحاكم ، وأمين الحاكم ، والوكيل ، لا يصح لأحد منهم ان يبيع المال الذي في يده من نفسه الا الاثنين ، الأب والجد ، ولا يصح لغيرهما ، ثمّ استدلّ ، فقال دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم ، على انه يجوز للأب ان يقوّم جارية ابنه الصّغير على نفسه ، ويستبيح وطأها بعد ذلك ، وروي (٣) ان رجلا اوصى الى رجل في بيع فرس له ، فاشتراه الوصي لنفسه ، واستفتى عبد الله بن مسعود ، فقال ليس له ذلك ، ولا يعرف له مخالف ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر (٤).

وإذا مات الإنسان من غير وصيّة ، كان على الناظر في أمور المسلمين ، ان يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة ، ويبيع لهم ويشترى ، ويكون ذلك جائزا ، فان لم يكن السلطان الذي يتولى ذلك ، أو يأمر به ، جاز لبعض المؤمنين ان ينظر في ذلك من قبل نفسه ، ويستعمل فيه الأمانة ، فيؤديها من غير إضرار بالورثة ، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥).

والذي يقتضيه المذهب انّه إذا لم يكن سلطان يتولى ذلك فالأمر فيه الى فقهاء

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٩١.

(٢) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

(٣) سنن البيهقي ، كتاب البيوع ، باب لا يشترى من ماله لنفسه إذا كان وصيّا ، ج ٦ ، ص ٣.

(٤) الخلاف ، كتاب الوكالة مسألة ٩.

(٥) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الأوصياء.

١٩٣

شيعته عليه‌السلام (١) ، من ذوي الرّأي والصّلاح ، فإنّهم عليهم‌السلام قد ولوهم هذه الأمور ، فلا يجوز لمن ليس بفقيه تولّى ذلك بحال ، فان تولاه ، فإنه لا يمضى شي‌ء ممّا يفعله ، لانّه ليس له ذلك بحال ، فامّا ان تولّاه الفقيه ، فما يفعله صحيح جائز ماض.

باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ

الوصيّة بالخمس أفضل من الوصيّة بالربع ، وهي بالرّبع أفضل منها بالثلث ، ومن اوصى بالثلث ، فقد بلغ الغاية.

ولا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث على حال ، فإن أوصى بأكثر من الثلث ، ردت الى الثلث ، الّا ان يجيزها الورثة بعد الموت ، فان أجازت ما فوق الثلث قبل الموت ، كان لها ردها بعد الموت.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته « على ما حكيناه عنه فيما مضى » (٢) سواء أجازت الورثة ما زاد على الثلث في حال الحياة أو بعد الوفاة ليس لها رجوع (٣).

والمذهب ، الأوّل ، لأن ما ذهب اليه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعيّ وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد في مقنعته ، على ما حكيناه عنه فيما مضى (٤).

وقد قلنا (٥) ان للإنسان ان يرجع في وصيّته ما دام فيه الروح ، وعقله ثابت عليه ، وبعض أصحابنا يطلق ذلك ، ويقول « وللإنسان ان يرجع في وصيّته ما دام فيه روح » وإطلاق ذلك غير مستقيم ، لانه قد يكون فيه روح الّا ان عقله قد زال ، والاولى تقييده بما قيدناه ، فإذا كان كذلك فله تغييرها ، وتبديلها ونقلها من شي‌ء إلى شي‌ء ، ومن إنسان إلى غيره ، وليس لأحد فيه اعتراض.

فان دبر مملوكه ، كان ذلك مثل الوصيّة ، بل هو هي عند أصحابنا ، يجوز له

__________________

(١) ج. شيعة آل محمّد عليهم‌السلام.

(٢) في ص ١٨٥.

(٣) النهاية باب الوصية وما يصح منها وما لا يصح.

(٤) في ص ١٨٥.

(٥) في ص ١٨٤.

١٩٤

الرجوع فيه ، فان لم يرجع فيه ، كان من الثلث ، فإن أعتقه في الحال مضى العتق ، وليس لأحد عليه سبيل ، سواء كان عليه دين بأضعافه ، أو أقل ، أو أكثر ، أو لم يكن ، بخلاف التدبير.

فإذا أوصى الإنسان بثلث ماله لشخص ، ثم بعد ذلك اوصى بثلث ماله لغير ذلك الشخص ، كان الثلث لمن اوصى له أخيرا ، وكانت الوصيّة الأخيرة ناسخة للأولى ، ورافعة لحكمها ، لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته الا ثلث ماله ، فإذا اوصى به لإنسان ، ثم وصى بعد ذلك به لإنسان آخر ، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأوّل الى الثّاني ، لأنه يعلم انه لا يستحق سوى الثلث ، فإذا وصّى به ثمّ وصّى به ، فقد رجع عن الوصيّة الأولى ، وللإنسان ان يرجع عن وصيّته ويبدّلها ويغير أحكامها ما دام حيّا ثابت العقل ، فليحظ ذلك ، فهذا معنى قول أصحابنا ، وما يوجد في الكتب « انّه إذا اوصى الإنسان بوصيّة ، ثمّ أوصى بأخرى ، فإن أمكن العمل بهما جميعا وجب العمل بهما ، وإن لم يمكن العمل بهما كان العمل على الأخيرة دون الأولى ».

فامّا إذا اوصى بشي‌ء ولم يقل بثلثي ، ثم أوصى بشي‌ء آخر ولم يذكر الثلث ، وأوصى بشي‌ء آخر ولم يذكر الثلث ، فان مذهب أصحابنا ان يبدأ بالأوّل فالأوّل ، ويكون النقصان ان لم يف الثلث داخلا على من ذكر أخيرا ، لأنه لما أوصى للأوّل ، ما قال أوصيت له بثلثي ، وكذلك الثّاني والثالث ، فظن ان ثلثه يبلغ مقداره جميع من ذكره ، ويفى بما ذكر ، ولم ينقل عن الأوّل ما اوصى له به ، وكذلك الثاني ، فلو علم انه قد استوفى ثلث ماله لمن اوصى له به ، ما اوصى بعده بشي‌ء آخر ، لانه يعلم انه ليس له بعد موته سوى الثلث ، فإذا استوفاه فيكون النقصان داخلا على من ذكره أخيرا.

فهذا الفرق بين المسألتين ، فلا يظن ظان ان المسألتين واحدة ، وان بينهما تناقضا أو مذهب أصحابنا ان الوصيّة الثانية ناسخة للأولى في جميع المواضع ، أو انّ الواجب البدأة بالأوّل فالأوّل ، بل إذا وجد في بعض الكتب أنّ الأخيرة ناسخة للأولى ، ففقه ذلك ما ذكرناه ، وإذا وجد في الكتب ، ان الواجب ان يبدأ بالأوّل

١٩٥

فالأوّل ، ويكون النقصان داخلا على من ذكر أخيرا ، ففقهه ما ذكرناه ، فليحظ ويتأمل ويعمل فيه بما قررناه.

والذي يدلّك على ما حرّرناه ، ما ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة ، ومسائل خلافه.

فإنه قال في مبسوطة : إذا اوصى الرجل بثلث ماله ، ثم اوصى لآخر بثلث ماله ، فهاتان وصيّتان بثلثي ماله ، وهكذا إذا أوصى بعبد بعينه لرجل ، ثم اوصى لرجل آخر بذلك العبد بعينه ، فهما وصيّتان ، ويكون الثّاني رجوعا عن الاولى ، ومنهم من قال لا يكون رجوعا ، وفيه خلاف ، فمن قال ليس برجوع ، قال ينظر فإن أجاز الورثة ، يكون لكلّ واحد منهما ثلث ماله ، وكذلك نقول ، ومن قال هو رجوع ، فإن أجازوه قالوا المال بينهما نصفان ، وان لم يجيزوه نظرت ، فان كان قيمة العبد قدر الثلث ، فإنه يكون بينهما ، ولا يحتاج إلى اجازة الورثة ، وان كان قيمة العبد أكثر من الثلث ، فللورّاث ان يمنعوا الزيادة على الثلث ، فامّا الثلث فلا ، ويكون الثلث بينهما نصفين ، هذا إذا قبلا جميعا الوصيّة وان رد أحدهما وقبل الآخر ، فان جميع الثلث لمن قبل ، لانه قد اوصى لكل واحد منهما بجميع الثلث ، وعلى ما قلناه « من ان في الثاني رجوعا عن الأول » ينظر ، فان رجع الأوّل فلا تأثير لرجوعه ، لأن الوصيّة له قد بطلت بالوصيّة للثاني ، وان رجع الثاني ولم يقبلها ، رجع المال إلى الورثة ، لأن الوصيّة للأوّل كانت قد بطلت بالوصيّة للثاني ، هذا أخر كلامه في مبسوطة (١).

وقال رحمه‌الله في موضع آخر ، في هذا الفصل في مبسوطة ، أيضا ، فإمّا العطيّة المؤخّرة ، إذا اوصى بعتق ، أو اوصى بمحاباة دفعة واحدة ، نظرت ، فان لم يكن فيه عتق ، فإنه يسوّي بينهم ، لأن حال استحقاق وجوبه واحدة ، وهو بعد الموت ، فان خرج كلّه من الثلث ، صح الكلّ ، وان لم يخرج من الثلث عندنا ، يقدم الأوّل فالأوّل ويدخل النقص على الأخير ، وان اشتبهوا أقرع بينهم ، وعند المخالف يقسط عليهم ، فهذا آخر كلامه (٢).

__________________

(١) المبسوط ، ج ٤ ، كتاب الوصايا ، ص ٤٢.

(٢) المبسوط ، ج ٤ ، كتاب الوصايا ، ص ٤٨.

١٩٦

فانظر أيدك الله بتوفيقه ، الى كلامه في المسألة الأولى ، والى كلامه في هذه المسألة ، لا وجه له الا ما حرّرناه.

وإذا اوصى الإنسان بوصيّة ، فليس لأحد مخالفته فيما اوصى به ، ولا تغيير شي‌ء من شرائطها على ما قدمناه (١) ، الا ان يكون قد وصّى بما لا يجوز له ان يوصي به ، مثل ان يكون قد اوصى بماله في غير مرضاة الله ، أو أمر بإنفاقه في وجوه المعاصي ، من قتل النفوس ، وسلب الأموال ، أو إعطائه الكفار ، أو إنفاقه على مواضع قربهم من البيع ، والكنائس ، وبيوت النيران ، فان فعل شيئا من ذلك وجب على الوصي مخالفته في جميع ذلك ، وصرف الوصيّة إلى الحق ، وكان على امام المسلمين معاونته على ذلك.

فإن أوصى الإنسان لأحد أبويه أو بعض قرابته بشي‌ء من ثلثه ، وجب إيصاله إليهم وان كانوا كفارا ضلّالا ، وكذلك من لا بينه وبينه قرابة من الكفار على ما قدمناه (٢).

وقد ذهب بعض أصحابنا انه لا تصحّ الوصيّة للكفّار الّا لمن بينه وبينه رحم.

والأوّل هو الأظهر لأنا لا نراعي في الوصيّة القربة ، ويعضد ذلك قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » (٣) وهذا عام.

ولا بأس بالوصيّة للوارث عندنا إذا لم تكن بأكثر من الثلث ، فان كانت بأكثر من الثلث ، ردت اليه ، الّا ان يجيزه الوارث على ما قدّمناه (٤).

وإذا اوصى بوصيّة ثم قتل نفسه ، كانت وصيته ماضية ، لم يكن لأحد ردّها ، فان جرح نفسه بما فيه هلاكها على غالب العادات ، ثم وصّى ، كانت وصيّته مردودة ، لا يجوز العمل عليها ، على ما رواه بعض أصحابنا في بعض الاخبار (٥).

والذي يقتضيه أصولنا ، وتشهد بصحّته أدلّتنا ، أنّ وصيّته ماضية صحيحة ، إذا كان عقله ثابتا عليه ، لانه لا مانع من ذلك ، ويعضده قوله تعالى « فَمَنْ بَدَّلَهُ

__________________

(١) في ص ١٩٢.

(٢) في ص ١٨٦.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١٨١.

(٤) في ص ١٩٤.

(٥) الوسائل ، الباب ٥٢ من كتاب الوصايا ، ح ١.

١٩٧

بَعْدَ ما سَمِعَهُ » ولا دليل على إبطال هذه الوصيّة من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع.

وإذا اوصى بوصيّة ثمّ قتله غيره خطأ ، كانت وصيّته ماضية في ثلث ماله وثلث ديته ، على ما رواه أصحابنا (١).

وإذا جرحه غيره ، ثمّ وصّى كان الحكم فيه أيضا مثل ذلك ، في انّه تمضى الوصيّة في ثلث ماله ، وثلث ما يستحقه من أرش الجراح.

وإذا اوصى الإنسان لعبده بثلث ماله ، فان كان الثلث وفق قيمة العبد ، عتق ولا شي‌ء له ولا عليه ، وان كان أكثر عتق أيضا ، واعطي بقيّة الثلث ، وان كان الثلث أقلّ من القيمة بأيّ شي‌ء كان أقل (٢) ، عتق منه بمقدار الثلث ، واستسعى في الفاضل عن الثلث ، لأن الإنسان يملك بعد موته ثلث ماله ، فقد انعتق على كل حال ما يملكه ، وهو ثلث العبد (٣).

وقد رويت رواية (٤) شاذة ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا لصحّتها ، لانه رجع عنها في مسائل خلافه ، فقال في نهايته ، وإذا اوصى الإنسان لعبده بثلث ماله ، نظر في قيمة العبد قيمة عادلة ، فإن كانت قيمته أقلّ من الثلث ، أعتق ، واعطي الباقي ، وان كانت مثله أعتق وليس له شي‌ء ، ولا عليه شي‌ء ، وان كانت القيمة أكثر من الثلث بمقدار السدس ، أو الربع ، أو الثلث ، أعتق بمقدار ذلك ، واستسعى في الباقي لورثته ، وان كانت قيمته على الضعف من ثلثه ، كانت الوصيّة باطلة (٥).

وهذا لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنه عاد عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال مسألة : إذا اوصى لعبد نفسه صحت الوصيّة ، وقوّم

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٤ من كتاب الوصايا ، ح ١ ـ ٢ ـ ٣.

(٢) في نسخة الأصل : « وان كانت قيمته أقل من الثلث بأي شي‌ء كانت أقل » وخطاه ظاهر.

(٣) ج. بما يملكه وهو ثلث ماله.

(٤) الوسائل ، الباب ٧٨ من كتاب الوصايا ، ح ٢ ، وأورده بسند آخر في الباب ١١ من هذا الكتاب ح ١٠

(٥) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة وما يصحّ منها ومالا يصحّ.

١٩٨

العبد ، وأعتق ، إذا كان ثمنه أقلّ من الثلث ، فان كان ثمنه أكثر من الثلث ، استسعى فيما يفضل للورثة ، هذا أخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (١). واستدلّ عليه بإجماع الفرقة ، والى هذا يذهب ابن بابويه في رسالته.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا اوصى الإنسان بعتق مملوك له ، وكان عليه دين ، فان كان قيمة العبد ضعفي الدين ، استسعى العبد في خمسة أسداس قيمته ، ثلاثة أسهم للديان ، وسهمان للورثة ، وسهم له ، وان كانت قيمته أقلّ من ذلك ، بطلت الوصيّة (٢) على ما روي (٣) في أخبارنا ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته.

والذي يقتضيه المذهب ، انه لا وصية قبل قضاء الدين ، بل الدّين مقدّم على الوصيّة ، والتدبير عندنا وصيّة ، فلا تمضى الوصيّة إلا بعد قضاء الدين ، فان عمل عامل بهذه الرّواية ، يلزمه ان يستسعى العبد ، سواء كانت قيمته ضعفي الدين ، أو أقلّ من ذلك ، لانه متى كانت قيمته أكثر من الدين ، بأي شي‌ء كانت ، فان الميّت الموصى قد استحق في الذي فضل على الدين ثلثه ، فتمضى وصيّته في ذلك الثلث ، ويعتق العبد ، ويستسعى في دين الغرماء ، وما فضل عن ثلث الباقي للورثة ، ولي في ذلك نظر.

فإن أعتقه في الحال ، وبتّ عتقه قبل موته ، مضى العتق ، وليس لأحد من الديّان ولا للورثة عليه سبيل ، لان ذلك ليس بتدبير ، وانّما ذلك عطيّة منجزة في الحال ، وعطاياه المنجزة صحيحة على الصّحيح من المذهب ، لا تحسب من الثلث ، بل من أصل المال.

ومن وصّى لعبد غيره لم يصح وصيّته ، فإن وصى لمكاتب مشروط عليه ، كان أيضا مثل ذلك ، فان لم يكن مشروطا عليه ، جازت الوصيّة له بمقدار ما ادى من كتابته ، لا أكثر من ذلك.

وإذا اوصى لأم ولده ، اعتقت من نصيب ولدها ، وأعطيت ما اوصى لها به ،

__________________

(١) الخلاف ، كتاب الوصايا ، مسألة ٤٨.

(٢) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة وما يصحّ منها وما لا يصحّ.

(٣) الوسائل ، الباب ٣٩ ، من كتاب الوصايا ، الحديث ١ و ٢ و ٥ و ٦.

١٩٩

على ما روى (١) في الاخبار ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، انها تنعتق بالوصيّة ان كانت وفق قيمتها ، وما بقي بعد رقبتها يكون بين ولدها وباقي الورثة ، على كتاب الله تعالى ، وإن كانت الوصيّة بأكثر من قيمتها ، وتخرج من الثلث ، فتعتق أيضا بالوصيّة ويسلم إليها ذلك الأكثر ، وان كانت الوصيّة أقل من قيمتها ، عتقت بمقدارها بالوصيّة ، وباقيها من سهم ولدها ، وجعل باقيها من نصيبه ، لان الله تعالى قال « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ » (٣) فجعل تعالى استحقاق الإرث بعد الوصيّة والدين ، بغير خلاف بين أصحابنا ، فإذا أعتقناها من سهم ابنها ، دون الوصيّة ، فقد قدمنا الإرث على الوصيّة ، وهذا بخلاف القرآن ، وهذه الرواية خبر واحد ، وقد قدّمنا ان اخبار الآحاد لا يعمل بها في الشرعيات ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

وإذا اوصى الموصي بإخراج بعض الورثة من الميراث ، لم يلتفت الى وصيّته ، وقوله ، إذا كان مقرا به قبل ذلك ، أو كان مولودا على فراشه ، لم يكن قد انتفى منه في حال حياته بلعان امرأته.

تصرّف المريض فيما زاد على الثلث إذا لم يكن منجزا لا يصح بلا خلاف ، وان كان منجزا مثل العتاق والهبة المقبوضة ، فلأصحابنا فيه روايتان ، إحديهما (٤) انّه يصحّ ، وهو الأظهر في المذهب ، الّذي يعضده الأدلة ، والأخرى (٥) لا يصح ، وهو مذهب جميع من خالفنا.

إذا اوصى إنسان بغلة بستانه ، أو ثمرة نخلته ، أو خدمة عبده ابدا لإنسان على

__________________

(١) لم ، نتحققها في المجامع الحديثية ، وفي الجواهر ، ج ٢٨ ، ص ٣٨٢ ، قال وفي كتاب العباس ، تعتق من نصيب ابنها وتعطى من ثلثه ما اوصى لها به ، وكان المراد انه قد روى الخبر المزبور في كتاب العباس على هذا النحو .. فراجع.

(٢) النهاية ، كتاب الوصايا ، باب الوصيّة ، وما يصحّ منها وما لا يصحّ.

(٣) سورة النساء ، الآية ١٢.

(٤) الوسائل ، الباب ١٧ من كتاب الوصايا ، ح ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ـ ١١.

(٥) الوسائل ، الباب ١٧ ، من كتاب الوصايا ، ح ١٣ ـ ١٤ ـ ١٥ ـ ١٦.

٢٠٠