كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

إليها المطالبة والعفو دون زوجها ، فان كانت ميتة ، كان ذلك لأوليائها دون الزوج ، لأن الأزواج عندنا لا يرثون من الحد شيئا.

وجملة القول وعقد الباب ان حد القذف يورث ، ويرثه من يرث المال ، الرجال والنساء من ذوي الأنساب ، فاما ذوو الأسباب فلا يرثون منه شيئا ، والمراد بذوي الأسباب هاهنا ، الزوج والزوج والزوجة دون من عداهما من ذوي الأسباب ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، فإذا ثبت ذلك فإنهم يستوجبونه ويستحقونه وكلّ واحد منهم حتى لو عفا الكلّ أو ماتوا الّا واحدا ، كان لذلك الواحد ان يستوفيه ، فهو بمنزلة الولاية في النكاح عند المخالف ، هو (١) لكل الأولياء ولكل واحد منهم.

ومن قال لولد الملاعنة يا ابن الزانية ، أو زنت بك أمك ، كان عليه الحد لأمّه كاملا تاما.

فان قال لولد الزنا الذي أقيم على امه الحد بالزنا ، يا ولد الزنا ، أو زنت بك أمك ، لم يكن عليه الحد تاما ، وكان عليه التعزير.

فان قال له يا بن الزانية ، وكانت امه قد تابت وأظهرت التوبة ، كان عليه الحد تاما ، لأنها بعد توبتها صارت محصنة عفيفة.

ويثبت الحد بالقذف بشهادة عدلين ، أو إقرار القاذف على نفسه مرتين بأنه قذف معلوم العين محصنا ، فإذا ثبت ذلك أقيم عليه الحد بعد مطالبة المقذوف أو وارثه بإقامته عليه ، وليس للحاكم اقامة الحد قبل المطالبة ، لأنه من حقوق الآدميين على ما أسلفنا القول فيه وحررناه (٢).

ولا يكون الحد فيه كما هو في شرب الخمر والزنا في الشدة ، بل يكون دون ذلك.

ويجلد القاذف من فوق الثياب ، ولا يجرد على حال.

وليس للإمام ان يعفو عن القاذف ، بل ذلك الى المقذوف على ما بيّناه (٣) ، سواء كان أقر بالقذف على نفسه ، أو قامت به عليه البينة ، أو تاب القاذف أو

__________________

(١) ج. هذا. ل. فهو.

(٢) و (٣) في ص ٥١٧ ـ ٥١٩.

٥٢١

لم يتب ، فان العفو في جميع هذه الأحوال إلى المقذوف.

وذهب شيخنا أبو جعفر في الجزء الثالث من الإستبصار ، الى انّ المقذوف بعد رفعه القاذف الى الامام وثبوت القذف عليه ، ليس له ان يعفو عنه (١).

والصحيح ان للمقذوف العفو على كل حال ، لان ذلك من حقوق الآدميين ، والى هذا ذهب في نهايته (٢) فليلحظ ذلك.

ومن قذف محصنا أو محصنة ، لم تقبل شهادته بعد ذلك الّا ان يتوب ويرجع ويصلح عمله ، ولا تقبل شهادته بمجرد توبته ، الّا بعد إصلاح العمل على ما قلناه في كتاب الشهادات (٣) فانا بلغنا فيه الى أبعد الغايات.

فاما كيفية التوبة من القذف ، فان الناس اختلفوا في ذلك ، فالذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول مذهبنا ، ان يقول القذف باطل حرام ، ولا أعود الى ما قلت ، لأنه إذا قال كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز ان يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله لا أعود الى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن قذف محصنا أو محصنة ، لم تقبل شهادته بعد ذلك ، الّا ان يتوب ويرجع ، وحد التوبة والرجوع عما قذف ، هو ان يكذّب نفسه في ملإ من الناس ، في المكان الذي قذف فيه فيما قاله ، فان لم يفعل ذلك لم يجز قبول شهادته بعد ذلك (٤).

الّا انه رجع عن ذلك في مبسوطة ، في الجزء السادس في كتاب الشهادات فقال فصل في شهادة القاذف ، إذا قذف الرجل رجلا أو امرأة ، فقال زنيت أو أنت زان ، لم يخل من أحد أمرين ، امّا ان يحقق قذفته (٥) ، أولا يحققه ، فان حققه نظرت.

__________________

(١) الاستبصار ، ج ٤ ، الباب ١٣٣ ، من كتاب الحدود ، ص ٢٣٢.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية ..

(٣) في الجزء الثاني : ص ١١٦.

(٤) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية ..

(٥) ج. ل. قذفه.

٥٢٢

فان كان المقذوف أجنبيّا حققه بأحد أمرين ، اما ان يقيم البيّنة أنّه زنى ، أو يعترف المقذوف بالزنا ، فان كان المقذوف زوجته ، فإنّه يحقّق قذفه بأحد ثلاثة أشياء البينة ، أو اعترافها ، أو اللعان ، فمتى حقق قذفه ، وجب على المقذوف الحد ، وبان انه لم يكن قاذفا ولأحد عليه ، ولا ترد شهادته ، ولا يفسق.

واما ان لم يحقق قذفه ، فقد تعلق بقذفه ثلاثة أحكام ، وجوب الجلد ورد الشهادة والتفسيق لقوله « ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الى قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » ، فان تاب القاذف ، لم يسقط الجلد بالتوبة ، وزال فسقه بمجرد التوبة بلا خلاف ، وهل تسقط شهادته ابدا فلا تقبل أم لا؟ فعندنا وعند جماعة لا تسقط ، بل تقبل بعد ذلك وعند قوم لا تقبل.

فاما كيفية التوبة ، فجملتها انه إذا قذفه ، تعلق بقذفه ثلاثة أحكام ، الجلد ورد الشهادة والفسق الذي تزول له ولايته على الأطفال والأموال ، وترد به شهادته.

ثم لا يخلو من أحد أمرين : اما ان يحقق قذفه أو لا يحققه ، فان حقق القذف ، امّا بالبيّنة أو باعتراف المقذوف ان كان غير زوجة ، أو بهما ، أو باللّعان ان كانت زوجة ، فمتى حقق القذف فلا جلد عليه ، وهو على العدالة والشهادة ، لأنه صح صدقه ، وثبت صحة قوله ، واما المقذوف فقد ثبت زناه بالبيّنة ، أو اللعان ، أو الاعتراف ، فيقام عليه الحدّ.

فاما ان لم يحققه ، فالحد واجب عليه ، ورد الشهادة قائم ، والفسق بحاله.

والكلام بعد هذا فيما يزيل ذلك عنه ، اما الحد فلا يزول عنه الّا بأحد أمرين استيفاء أو إبراء ، واما الفسق والشهادة فهما متعلقان بالتوبة.

والتوبة ضربان باطنة وحكمية ، فالباطنة توبته فيما بينه وبين الله ، وهي تختلف باختلاف المعصية.

وجملته ان المعصية لا تخلو من أحد أمرين ، اما ان يجب بها حق أو لا يجب ، فان لم يجب بها حق مثل ان قبّل أجنبيّة ، أو لمسها بشهوة ، أو وطأها فيما دون الفرج ، فتوبته هاهنا الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، فإذا فعل هذا فقد تاب لقوله تعالى « وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ

٥٢٣

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ » (١) فإذا اتى بالاستغفار وترك الإصرار ، صحت توبته وغفر الله ذنبه.

فأما ان كانت المعصية مما يجب بها حق ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون حقا على البدن أو في مال ، فان كانت في مال كالغصب والسرقة والإتلاف ، فتوبته الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والخروج من المظلمة بحسب الإمكان ، فإن كان موسرا بها متمكنا من دفعها الى مستحقها ، خرج اليه منها ، فان كانت قائمة ردّها ، وان كانت تالفة رد مثلها ان كان لها مثل ، وقيمتها ان لم يكن لها مثل ، وان كان قادرا غير انه لا يتمكن من المستحق لجهله ، أو كان عارفا غير انه لا يقدر على الخروج اليه منها ، فالتوبة بحسب القدرة وهي العزم على انه متى تمكن من ذلك فعل ، وكذلك إذا منع الزكاة مع القدرة عليها ، فهي كالدين والمظالم ، وقد بيّناه.

هذا إذا كانت المعصية حقا في مال ، فاما ان كانت المعصية حقا على البدن ، لم يخل من أحد أمرين ، اما ان تكون لله أو للآدميين ، فان كان للآدميين فهو القصاص وحد القذف ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والتمكين من الاستيفاء من حد أو قصاص ، كالأموال سواء.

واما ان كان حقا لله كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر ، لم يخل من أحد أمرين امّا ان يكون مشتهرا أو مكتوما ، فان كان مكتوما لا يعلم به الناس ، ولم يشتهر ذلك عليه ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، والمستحب له ان يستر على نفسه ، ويكون على الكتمان ، لقوله عليه‌السلام من اتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر (٢) يستر الله فانّ من أبدى لنا صفحته ، أقمنا عليه حد الله (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لهزال بن شرجيل ، حين أشار على ماعز بن مالك ان يعترف بالزنا ، هلا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٢) ج. فليستر يستر الله عليه.

(٣) موطإ مالك ، الباب ٢ من كتاب الحدود ، الحديث ١ ( ج ٢ ، ص ٨٢٥ ) وفيه : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنّه من يبدى لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ».

٥٢٤

سترته بثوبك يا هزال (١) ، فان خالف وجاء واعترف بذلك ، لم يحرم ذلك عليه ، لما روى ان الغامدية (٢) وماعز بن مالك اعترفا عند النبيّ عليه‌السلام بالزنا ، فلم ينكر ذلك ، بل رجم كل واحد منهما (٣).

وامّا ان كان مشتهرا شائعا بين الناس ، فالتوبة الندم على ما كان ، والعزم على ان لا يعود ، وان يأتي الإمام فيعترف به عنده ليقيم عليه الحدود.

والفصل بينهما انه إذا لم يكن مشتهرا كان في ستره فائدة ، وهو ان لا يشتهر به ، ولا يضاف اليه ، وليس كذلك هاهنا ، لأنه إذا كان مشتهرا ظاهرا ، فلا فائدة في ترك إقامته عليه.

وعندي انه لا يجوز له ان يشتهر به ، ولا يعترف ، وان يتوب فيما بينه وبين الله ، ويقلع عمّا كان ويتوفر على الاعمال الصّالحات ، لعموم الخبر الذي تقدم.

هذا كلّه في حدود الله قبل ان يتقادم عهدها أو يقادم عهدها وقيل لا يسقط بتقادم العهد ، فاما من قال يسقط بتقادم العهد ، فلا يعترف بذلك بحال ، لأنه لأحد عليه ، فمتى اعترف كان اعترافا بغير حق هذا الكلام في التوبة الباطنة.

فاما الكلام في التوبة الحكمية ، وهي التي تقضى له بها بالعدالة ، وقبول الشهادة ، فلا تخلو المعصية من أحد أمرين ، اما ان تكون فعلا أو قولا ، فان كانت فعلا كالزنا والسرقة واللواط والغصب وشرب الخمر ، فالتوبة هاهنا ان يأتي بالضدّ مما كان عليه ، وهو صلاح عمله لقوله تعالى « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ » (٤) فإذا ثبت انها صلاح عمله ، فمدته التي تقبل بها شهادته سنة ، ومن الناس من قال يصلح عمله ستة أشهر.

فاما ان كانت المعصية قولا لم يخل من أحد أمرين ، اما ان تكون ردة أو قذفا ، فان كان ردّة فالتوبة الإسلام ، وهو ان يأتي بالشهادتين اشهد ان لا إله إلّا الله ، وان

__________________

(١) سنن أبي داود ، الباب ٦ من كتاب الحدود ، الحديث ( الرقم ٤٣٧٧. ج ٤. ص ١٣٤ ) وفيه : وقال لهزّال : « لو سترته بثوبك كان خيرا لك ».

(٢) ل. العامرية.

(٣) راجع الباب ٢٤ و ٢٥ من كتاب حدود سنن أبي داود. ( ج ٤ ، ص ١٤٥ .. ١٥٢ ).

(٤) سورة الفرقان ، الآية ٧٠.

٥٢٥

محمّدا رسول الله ، وأنّه بري‌ء من كل دين خالف الإسلام ، فإذا فعل هذا فقد صحت توبته ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يعتبر بعد التوبة مدة يصلح فيها عمله ، لأنه إذا فعل هذا فقد اتى بضدّ المعصية.

واما ان كانت المعصية قذفا لم يخل من أحد أمرين ، اما ان يكون قذف سب ، أو قذف شهادة ، فإن كانت قذف سب ، فالتوبة هي اكذابه نفسه ، لما روى عن النبيّ عليه‌السلام في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا » (١) قال النبيّ عليه‌السلام توبته اكذابه نفسه (٢) فإذا تاب قبلت شهادته.

فإذا ثبت ان التوبة اكذابه نفسه ، فاختلفوا في كيفيته ، قال قوم ان يقول القذف باطل حرام ، ولا أعود الى ما قلت ، وقال بعضهم التوبة اكذابه نفسه وحقيقة ذلك ان يقول كذبت فيما قلت ، وروى ذلك في أخبارنا (٣) والأوّل أقوى ، لأنه إذا قال كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز ان يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله لا أعود الى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه.

فإذا ثبت صفة التوبة فهل تفتقر عدالته التي تقبل بها شهادته الى صلاح العمل أم لا؟ قال قوم مجرد التوبة يجزيه ، وقال قوم لا بدّ من صلاح العمل ، وهو الأقوى ، لقوله « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا » (٤) فمن قال لا يفتقر الى صلاح العمل ، فلا كلام ، ومن قال يفتقر اليه ، فصلاح العمل مدة سنة على ما مضى هذا الكلام في قذف السب.

واما قذف الشهادة فهو ان يشهد بالزنا دون الأربعة ، فإنهم فسقة ، وقال قوم يحدون ، وقال آخرون لا يحدون ، فالتوبة هاهنا ان يقول قد ندمت على ما كان مني ،

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٥.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، في تفسير سورة النور ، ج ٥ ، ص ٢٠ ، وفيه : « توبتهم اكذابهم أنفسهم ، فإن كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم ».

(٣) الوسائل : الباب ٣٦ من أبواب الشهادات ، ح ١ ـ ٤ ـ ٥.

(٤) سورة النور ، الآية ٥.

٥٢٦

ولا أعود الى ما اتهم فيه ، لا يقول ولا أعود الى ما قلت ، لأن الذي قاله شهادة ، فيجزيه ان يقول لا أعود الى ما اتهم فيه ، فإذا قال هذا ، زال فسقه ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يراعى صلاح العمل.

والفرق بين هذا وبين قذف السب ، هو ان قذف السب ، ثبت فسقه بالنص ، وهذا بالاجتهاد عندهم ، ويجوز للإمام عندنا ان يقول تب اقبل شهادتك ، فقال بعضهم لا اعرف هذا ، وانما قلنا ذلك ، لان النبيّ عليه‌السلام أمر بالتوبة (١).

هذا آخر الفصل الذي من كلام شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله أوردته على جهته ، من غير مداخلة مني له بشي‌ء من الكلام ، فإنه سديد في موضعه إلّا في قوله وحده صلاح العمل لسنة أو ستة أشهر ، فإن هذا مذهب الشافعي ، فأما نحن معشر شيعة أهل البيت عليهم‌السلام فلا نعتبره بزمان ولا مدة ، بل صلاح عمله ، ولو عرف ذلك منه في ساعة واحدة ، لأن ما خالف ذلك لا دليل عليه.

وقد رجع شيخنا عن ذلك في مسائل خلافه فقال مسألة إذا أكذب نفسه وتاب ، لا تقبل (٢) شهادته حتى يظهر منه العمل الصالح ، وهو أحد قولي الشافعي الّا انه اعتبر ذلك سنة ، ولم نعتبره نحن ، لانه لا دليل عليه ، هذا آخر كلامه في مسائل خلافه (٣).

فانظر أرشدك الله الى قوله في مبسوطة ، وجعل ما ذكره وأورده في نهايته (٤) رواية واعتمد على ما اخترناه ، لوضوحه عنده وموافقته الأدلة ، فلا يرجع عن ذلك باخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ومن قذف مكاتبا ضرب بحساب ما عتق منه حدّ الحر ويعزّر بالباقي الذي كان رقا.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٨ كتاب الشهادات ، ص ١٧٦ ـ ١٧٩.

(٢) ج. فلا تقبل.

(٣) الخلاف ، كتاب الشهادات ، مسألة ١٣.

(٤) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية .. والعبارة هكذا ، وحد التوبة والرجوع عما قذف هو ان يكذب نفسه في ملإ من الناس في المكان الذي قذف فيه وقال في كتاب الشهادات وحد توبته من القذف ان يكذب نفسه فيما ادعى وكان قذف به .. وكيف كان ليس في كلامه قدس‌سره في الموردين اعتبار العمل الصالح. فراجع.

٥٢٧

وإذا قال الرجل لامرأته يا زانية ، أنا زنيت بك ، كان عليه حد القاذف ، لقذفه ايّاها ، ولم يكن عليه لإضافة الزنا الى نفسه شي‌ء الّا ان يقر اربع مرات ، فإن أقر أربع مرات ، كان عليه حد الزنا مع ذلك على ما بيّناه ، فان كان إقراره أقل من ذلك ، لم يجب عليه حد الزنا ، ووجب عليه التعزير ، لإضافة الفاحشة إلى نفسه.

وإذا قال الرّجل لولده يا زاني أو قد زنيت ، لم يكن عليه حدّ ، فان قال يا ابن الزانية ولم ينتف منه ، كان عليه الحد لزوجته أم المقذوف ، ان كانت حرة مسلمة حية ، فان كانت ميتة وكان وليها ووارثها أولاده ، لم يكن لهم المطالبة له بالحد ، فان كان لها أولاد من غيره أو وارث سوى أولادها ممن يشارك الأولاد في الميراث ، كان لهم المطالبة بالحد على الكمال ولا يسقط من حيث أن الأولاد ليس لهم أن يطالبوا الأب بحقهم من الحد ، وكذلك لو عفا جميع الورّاث الا واحدا كان له المطالبة بإقامة الحد على الكمال ، على ما حررناه فيما مضى (١) وبيناه.

فان انتفى من ولده ، كان عليه ان يلاعن امه على ما بيّناه في باب اللّعان (٢) ، فان انتفى منه بعد ان كان أقرّ به ، وجب عليه الحد ، وكذلك ان قذفها بعد انقضاء اللعان ، كان عليه الحد.

وإذا تقاذف نفسان بما يجب فيه الحد ، سقط عنهما الحد ، وكان عليهما جميعا التعزير ، لئلا يعود الى مثل ذلك ، على ما رواه (٣) أصحابنا واجمعوا عليه.

وإذ قال الإنسان لغيره يا قرنان ، أو يا كشحان ، أو يا ديوث ، وكان متكلما باللغة التي تفيد فيها هذه اللفظة رمى الإنسان بزوجة أو أخت ، وكان عالما بمعنى اللفظة ، عارفا بها ، كان عليه الحد ، كما لو صرح بالقذف بالزنا على ما بيّناه ، فان لم يكن عارفا بمعنى اللفظة ، لم يكن عليه حد القاذف ، ثم ينظر في عادته وعرفه في استعماله هذه اللفظة ، فإن كان قبيحا غير انه لا يفيد القذف ، أدّب وعزّر ، وان كان يفيد غير القذف وغير القبح في عرفه وعادته ، لم يكن عليه تعزير.

__________________

(١) في ص ٥١٧.

(٢) في الجزء الثاني ، ص ٧٠٢.

(٣) الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب حد القذف ، ح ١ ـ ٢.

٥٢٨

ومن قال لغيره يا فاسق ، أو يا خائن ، أو يا سارق ، أو يا شارب خمر ، أو شيئا من أسباب الفسق ، وهو على ظاهر العدالة ، لم يكن عليه حد القاذف ، وكان عليه التعزير.

وإذا قال له أنت ولد حرام ، فهو كقوله أنت ولد زنا ، وقد قدمنا (١) احكام ذلك فلا وجه لا عادته ، إذ لا فرق بينهما في العرف وعادة الناس وما يريدونه بذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قال له أنت ولد حرام ، أو حملت بك أمك في حيضها ، لم يكن عليه حدّ الفرية ، وكان عليه التعزير (٢).

وما ذهبنا اليه هو الظاهر في الاستعمال ، والمتعارف في هذه اللفظة ، فأما ما ذكره من قوله حملت بك أمك في حيضها ، فلا يجب به حد القذف ، بل فيه التعزير.

وشاهد الزور يجب عليه التعزير بما دون الحد ، وينبغي للسلطان ان يشهره في المصر ، ليعرفه الناس ، فلا يسمع منه قول ، ولا يلتفت إليه في شهادة ، ويحذره المسلمون.

وقول القائل للمسلم أنت خسيس ، أو وضيع ، أو رقيع ، أو نذل ، أو ساقط ، أو بخيل ، أو نجس ، أو كلب ، أو خنزير ، أو حمار ، أو ثور ، أو مسخ ، وما أشبه ذلك ، يوجب التعزير والتأديب ، وليس فيه حد محدود ، فان كان المقول له بذلك مستحقا للاستخفاف ، لضلاله عن الحق ، لم يجب على القائل له تأديب ، وكان باستخفافه به مأجورا.

وقد قلنا ان من قال لغيره يا فاسق وهو على ظاهر الإسلام والعدالة ، وجب عليه التعزير ، فان قال له ذلك وهو على ظاهر الفسق ، فقد صدق عليه ، وأجر في الاستخفاف به والإهانة.

فإن قال له يا كافر وهو على ظاهر الايمان ، ضرب ضربا وجيعا تعزيرا له بخطابه على ما قال ، فان كان المقول له جاحدا لفريضة عامة من فرائض الإسلام ،

__________________

(١) في ص ٥١٧ ـ ٥١٨.

(٢) النهاية ، كتاب الحدود ، باب الحد في الفرية وما يوجب التعزير.

٥٢٩

فقد أحسن المكفّر له ، وأجر بالشهادة بترك الايمان.

وإذا واجه إنسان غيره بكلام يحتمل السب له ، ويحتمل غيره من المعاني والأغراض ، كان عليه الأدب بذلك ، الّا ان يعفو عنه الإنسان المخاطب ، كما قدمناه.

ومن عيّر إنسانا بشي‌ء من بلاء الله ، وأظهر عنه ما هو مستور من البلايا والأمراض ، وجب عليه بذلك التأديب ، وان كان محقا فيما قال ، لاذاه وإيلامه المسلمين بما يشق عليهم ويؤلمهم من الكلام ، فان كان المعيّر بذلك ضالا كافرا مخالفا لأهل الايمان ، لم يستحق المعيّر له بذلك أدبا ولا عقوبة على كل حال.

وكل شي‌ء يؤذي المسلمين من الكلام ، دون القذف بالزنا واللواط ، ففيه التعزير على ما يراه سلطان الإسلام ، أو المنصوب من قبل السلطان.

وقد روى ان رجلا قال لآخر أني احتلمت البارحة في منامي بأمك ، فاستعدى عليه الى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وطلب اقامة الحد عليه ، فقال له أمير المؤمنين ان شئت ضربت لك ظله ، ولكني أحسن أدبه ، لئلا يعود بعدها إلى أذى المسلمين ، ثم أوجعه ضربا على سبيل التعزير (١).

ولم يرد أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله ان شئت ضربت لك ظله ، ان ضرب الظل واجب ، أو شي‌ء ينتفع به ، وانما أراد أن الحلم لا يجب به حد وحلم النائم في البطلان ، كضرب الظل الذي لا يصل ألمه إلى الإنسان ، فنبهه عليه‌السلام على تجاهله بالتماس الحدود على الحلم في المنام ، وضرب له في فهم ما أراد تفهيمه إياه هذا المثال.

وإذا قذف ذمي ذميّا بالزنا واللواط ، وترافعا الى سلطان الإسلام ، أدّب القاذف ، ولم يجلده كحد قاذف أهل الإسلام.

فإن تسابّ أهل الذمة بما سوى القذف بالزنا واللواط بما يوجب فعله الحدود ، ادّبوا على ذلك كما يؤدّب أهل الإسلام ، فإن تسابوا بالكفر والضلال ، أو تنابزوا

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٢٤ ، من أبواب حد القذف ، ح ١ ـ ٢.

٥٣٠

بالألقاب ، أو عيّر بعضهم بعضا بالبلايا ، لم يؤدّب أحد منهم على ذلك ، الّا ان يثمر فسادا في البلاد فيدبر أمرهم حينئذ بما يمنع من الفساد.

وإذا قامت البيّنة على إنسان بأنه اغتاب مسلما ، أو نبزه بلقب مكروه ، أدّب على ذلك بما دون الحد.

وإذا تساب الصبيان ، أدبوا على ذلك بما يردعهم من بعد عن السباب ، وقد قدمنا ان القذف بالزنا واللواط يوجب الحد على القاذف بهما بأيّ اللّسان كان به قاذفا ، وبأي لغة قذف وافترى.

وفي التعريض بالقذف دون التصريح به التعزير دون الحد.

وإذا تواضع أهل بلد أو لغة على لفظ يفيد ما أفاده القذف بالزنا واللواط على التصريح ، فاستعمله إنسان منهم ، كان قاذفا وجب عليه الحد تاما به كما يجب على القاذف بالتصريح في اللغة العربيّة واللّسان.

وقلنا (١) إذا قال الإنسان لغيره يا قرنان ، وكان هذا اللّفظ موضوعا بين أهل الوقت أو الناحية على قذف الزوجة بالزنا ، حكم عليه بما يحكم على من قال لصاحبه زوجتك زانية ، وكذلك إذا قال له يا ديوث ، وإذا قال له يا كشحان ، وقصد بذلك على عرفه رمي أخته بالزنا ، كان قاذفا ووجب عليه له ، كما يجب عليه إذا قال له أختك زانية ، فإن تلفظ بهذه الألفاظ من لا يعرف التواضع عليها لما ذكرناه ، وكانت عنده موضوعة لغير ذلك من الأغراض ، لم يكن بها قاذفا ولم يجب عليه بها حد المفتري ، ولكن ينظر في معناها على عادته ، فان كان جميلا حسنا من القول عنده ، لم يكن بذلك عليه تبعة ، وان كان قبيحا لا حقا بالسباب الذي لا يفيد القذف بالزنا واللواط ، عزر عليها وأدب تأديبا يردعه عن العود إلى أذى المسلمين.

وقد قلنا ان شهود الزور يعزرون ويشهرون في مصرهم ، وكيفية ذلك ان ينادى عليهم في محلتهم أو قبيلتهم ، هؤلاء شهود زور ، فاجتنبوهم واحذروهم ، ويغرمون ما شهدوا به ان كان (٢) قد أتلفوا بشهادتهم شيئا ، على ما بيّناه في كتاب الشهادات.

__________________

(١) في ص ٥٢٨.

(٢) ج. كانوا.

٥٣١

وإذا قال الرجل لامرأته بعد ما دخل بها لم أجدك عذراء ، قاصدا وهنها ، كان عليه بذلك التعزير.

ومن هجا غيره من أهل الإسلام ، كان عليه بذلك التأديب ، فإن هجا أهل الحرب دون من بيننا وبينهم ذمة ، لم يكن عليه شي‌ء على حال ، فان حسان بن ثابت امره الرسول عليه‌السلام بهجاء مشركي قريش وقال عليه‌السلام انه شر عليهم من النبل (١).

ومن سب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو واحدا من الأئمة عليهم‌السلام صار دمه هدرا ، وحلّ لمن سمع ذلك منه قتله ما لم يخف على نفسه الضرر ، أو على غيره من أهل الايمان ، أو ماله ، فان خاف على نفسه أو على أحد من المؤمنين ضررا في الحال ، أو في مستقبل الأوقات ، فلا يجوز له التعرض به على حال.

ومن ادعى انه نبيّ ، حلّ دمه ووجب قتله ، ومن قال لا أدري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صادق أم كاذب ، وانا شاك في ذلك ، وجب قتله ، الّا ان يقرّ به هذا في حق من كان على ظاهر الإسلام.

ومن أفطر في شهر رمضان يوما متعمدا ، وجب عليه التعزير والعقوبة المردعة ، فإن أفطر ثلاثة أيام سئل هل عليك في ذلك شي‌ء أم لا؟ فان قال لا ، وجب قتله ، فان قال نعم زيد في عقوبته بما يرتدع معه عن مثله ، فان لم يرتدع وجب قتله ، وكذلك تارك الصّلاة عن غير عذر ، يعزر في أوّل دفعة وثاني دفعة ، ويقتل في الثالثة ، لقولهم عليهم‌السلام ـ أصحاب الكبائر يقتلون في الثوالث ـ (٢).

والمرتد عن الإسلام على ضربين ، مرتد كان ولد على فطرة الإسلام ، فهذا يجب قتله على كل حال من غير ان يستتاب ، ومرتد كان قد أسلم عن كفر ثم ارتد ، يجب ان يستتاب ، فان تاب ، والّا ضربت عنقه.

والمرتدة عن الإسلام لا يجب عليها القتل ، بل ينبغي أن تحبس أبدا ، ويضيّق عليها

__________________

(١) سنن البيهقي ، ج ١٠ ص ٢٣٨ ، نقلا بالمعنى.

(٢) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ١ ، والباب ١١ من أبواب حدّ المسكر.

٥٣٢

في المأكول والملبوس ، وتضرب في أوقات الصّلوات من ايّ الضربين كانت ، سواء كانت ارتدت عن فطرة الإسلام ، أو عن إسلام تعقبه كفر (١).

وروى ان من تزوج بامة على حرة من غير اذنها ، فرق بينهما ، وكان عليه اثنى عشر سوطا ونصف ، ثمن جلد الزاني (٢).

وكيفية ضرب نصف السوط أن يأخذ الجلاد بنصف السوط ، ويضربه بالنصف الباقي في يده.

وروى انّ من اتى امرأته وهي حائض في قبلها ، كان عليه خمسة وعشرون سوطا (٣).

ومن وطي امرأته في شهر رمضان نهارا متعمدا ، كان عليه خمسة وعشرون سوطا ، وعلى المرأة أيضا مثل ذلك ان طاوعته على ذلك ، فان كان أكرهها (٤) ، كان عليه خمسون جلدة ، وعليه كفارة واحدة ، وعليها أيضا مثل ذلك ان كانت مختارة ، فان كانت مكرهة كان على الرجل كفارتان.

ومن قامت عليه البينة بالسحر ، وكان مسلما وجب عليه القتل ، فان كان كافرا لم يكن عليه الّا التأديب والعقوبة المردعة ، لان ما هو عليه من الكفر أعظم من السحر.

ولا حقيقة للسحر ، وانما هو تخيل وشعبذة ، وعند بعض المخالفين ان له حقيقة ، ولا خلاف بينهم انّ تعليمه وتعلمه وفعله محرم ، لقوله تعالى « وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ » (٥) فذم على تعليم السحر.

وروى عن ابن عباس انه قال : ليس منا من سحر أو سحر له ، وليس منا من تكهن أو تكهن له ، وليس منا من تطير أو تطير له (٦).

__________________

(١) ج. عقيب كفر. ل. يعقبه كفر.

(٢) الوسائل ، كتاب النكاح ، الباب ٤٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح ٢.

(٣) الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الحيض ، ح ٦ من زيادة وإن أتاها في آخر أيّام حيضها فعليه ان يتصدّق بنصف دينار ويضرب اثنتي عشرة جلدة ونصفا.

(٤) ج. ل. فإن أكرهها.

(٥) سورة البقرة ، الآية ١٠٢.

(٦) الدر المنثور ، ذيل قوله تعالى في سورة البقرة « فَلا تَكْفُرْ » ج ١ ص ١٠٣.

٥٣٣

والرّسول عليه‌السلام ما سحر (١) عندنا بلا خلاف ، لقوله تعالى « وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ » (٢) وعند بعض المخالفين انه سحر ، وذلك بخلاف التنزيل المجيد.

التعريض بالقذف ليس بقذف ، مثل ان تقول لست بزان ، ولا أمي زانية ، وكقوله يا حلال بن الحلال ، ونحو هذا كله ليس بقذف ، سواء كان هذا منه في حال الرضا ، أو في حال الغضب.

والذي يضرب الحدود إذا زاد على المقدار المستحق ، وجب ان يستقاد منه.

والصبي والمملوك إذا أخطأ أدّبا وضرب (٣) ضرب أدب ، ولا يزاد على عشرة أسواط ، وروى (٤) انه لا يزاد على خمس ضربات الى ستّ. وروى انه ان ضرب إنسان عبده بما هو حدّ ، كان عليه ان يعتقه كفارة لفعله (٥) ، وذلك على الاستحباب (٦) دون الفرض والإيجاب.

وإذا قذف ذميّ مسلما ، قتل لخروجه عن الذمة بسبّ أهل الايمان.

وقد قلنا ان المعتبر في كنايات القذف عرف القاذف دون المقذوف ، وقد قلنا انه إذا كانت الولاية في القذف لاثنين فما زاد عليهما ، فلكل واحد منهما المطالبة بالحد ، فإن أقيم له سقط حق الباقين ، وان عفى بعضهم سقط حقه ، وكان لمن لم يعف المطالبة بالحد واستيفاؤه والعفو عنه ، فان مات المقذوف وليس له ولى ، فعلى سلطان الإسلام الأخذ بحقّه ، لانه وليه ووارثه.

وتوبة القاذف قبل رفعه الى الحاكم أو بعده ، لا تسقط عنه القذف ، سواء قامت به عليه بيّنة ، أو كان قد أقربه دفعتين عندنا.

ولا يسقط ذلك الا بعفو المقذوف أو وليّه أو وارثه من ذوي الأنساب على ما قدمناه وحررناه (٧) والتعزير تأديب تعبدا لله سبحانه به لردع المعزر وغيره من المكلفين ، وهو

__________________

(١) ج. ما سحر له.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٦٧.

(٣) ج. ل. أخطأ أدّبا وضربا.

(٤) الوسائل ، الباب ٨ من أبواب بقية الحدود ، ح ١.

(٥) الوسائل ، الباب ٢٧ ، من أبواب مقدّمات الحدود ، ح ١.

(٦) ج. على طريق الاستحباب.

(٧) في ص ٥١٧.

٥٣٤

مستحق بكلّ إخلال بواجب ، وإتيان كلّ قبيح لم يرد الشرع بتوظيف الحد عليه ، وحكمه يلزم بالإقرار مرتين ، أو شهادة عدلين ، فمن ذلك ان يخل ببعض الواجبات العقلية ، كرد الوديعة وقضاء الدين ، أو الفرائض الشرعية ، كالصّلاة والزكاة والصوم والحج الى غير ذلك من الواجبات ، والفرائض المبتدأة أو المسبّبة والمشترطة فيلزم سلطان الإسلام أو نائبه تأديبه بما يردعه وغيره عن الإخلال بالواجب ، ويحمله وسواه على فعله ، ومن ذلك أن يفعل بعض القبائح.

وحكم تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد ، أو لكل منهم بتعريض يخصّه ، ما قدمناه (١) في حكم القذف الصّريح على ما اختاره شيخنا المفيد في مقنعته (٢).

والأولى عندي ان يعزر لكلّ واحد منهم فإنه قد ألّمه وحمل ذلك على القذف الصريح في الجماعة بكلمة واحدة ، قياس لا نقول به ، وشيخنا أبو جعفر غير قائل بما قاله شيخنا المفيد في هذه الفتيا.

وإذا قذف الإنسان ولده أو عبده أو أمته عزر.

ويعزر من سرق ما لا يوجب القطع ، لاختلال بعض الشرائط كسرقة العبد من سيده ، والوالد من ولده ، ومن يجب نفقته ممن تجب عليه ، والشريك من شريكه ، وما نقص عن ربع دينار ، إذا سرقه السارق من حرز ، وما بلغ ربع دينار فما فوقه من غير حرز ، أو من حرز مأذون فيه أو منه أو اختلس ، أو أسكر ، أو بنج ، أو مكر ، أو زوّر ، أو طفّف في كيل.

ويعزر من أكل ، أو شرب ، أو باع ، أو ابتاع ، أو تعلّم أو علّم ، أو نظر ، أو سعى ، أو بطش ، أو أصغى ، أو أجر ، أو استأجر ، أو أمر ، أو نهى ، على وجه يقبح ، ومعظم هذا ما قدمناه (٣) فيما مضى مجملا ومفصّلا ، وأعدناه ، وزدنا عليه للبيان والإيضاح.

والتعزير لما يناسب القذف من التعريض ، والنبز والتلقيب من ثلاثة أسواط الى

__________________

(١) في ص ٥١٩.

(٢) المقنعة ، باب الحد في الفرية والسب والتعريض بذلك ص ٧٩٦ و ٧٩٧.

(٣) في ص ٤٧٨.

٥٣٥

تسعة وسبعين سوطا ، وكذلك ما يناسب حد الشرب ، من أكل الأشياء المحرمة وشربها ، ولما يناسب الزنا ، واللواط من وطي البهائم ، والاستمناء بالأيدي ، ووجود الرجل والمرأة لا عصمة بينهما في إزار واحد ، الى غير ذلك من ضم ، أو تقبيل ، أو نظر مكرّر غير مباح ، وكذلك حكم الرّجلين في شعار واحد مجرّدين ، وكذلك حكم المرأتين والرّجل والصبيّ مع الريبة ، على كل حال الى غير ذلك ، من ضم وتقبيل.

ومن افتض بكرا بإصبعه ، ومالك الأمة إذا أكرهها على البغاء ، وما شاكل هذه الأفاعيل ، ممّا يناسب الزنا واللواط من ثلاثة أسواط إلى تسعة وتسعين (١) على ما قدّمناه وحررناه من قبل (٢).

والذي يجب تحصيله في ذلك ، ويعتقد صحته ، ان الحاكم يعمل في ذلك ما يرى فيه المصلحة للمكلّفين ، ويعزّر على كل قبيح من فعل قبيح ، أو ترك واجب ما لم يبلغ أعلى الحدود ، وهو حد الزنا الذي هو مائة جلدة ، سواء كان ذلك مما يناسب القذف وأشباهه أو ناسب الزنا وأشباهه ، لأن ذلك موكول الى ما يراه الحاكم صلاحا.

وانما ذكرنا ما فصّلناه أوّلا على ما لوّح به شيخنا في مسائل خلافه (٣) ومبسوطة (٤) ، وذلك فروع المخالفين وتخريجاتهم ، واحد من أصحابنا ما تعرض لذلك بتفصيل.

والذي أعمل عليه وافتى به ، ان التعزير إذا كان للأحرار ، فلا يبلغ به أدنى حدودهم ، وهو (٥) تسعة وسبعون ، وان كان في حق العبيد ، خمسون الّا واحدا لان حده في الزنا على النصف من حد الحرّ فليلحظ ذلك.

__________________

(١) ج. تسعين سوطا.

(٢) في ص ٤٦٦.

(٣) الخلاف ، لا يوجد فيه ما نسبه اليه بل في كتاب الأشربة مسألة ١٣ يقول هكذا ، التعزير الى الامام بلا خلاف إلخ فراجع.

(٤) المبسوط ولا يوجد أيضا فيه ما نسبه اليه بل قوله في ج ٨ ، كتاب الأشربة المسكرة ص ٦٩ هكذا ، والتعزير موكول الى الامام لا يجب عليه ذلك إلخ فراجع.

(٥) ج. وهي.

٥٣٦

فصل في تنفيذ الاحكام وما يتعلق بذلك ممن له اقامة الحدود

والآداب

المقصود في الأحكام المتعبد بها ، تنفيذها ، وصحة التنفيذ يفتقر إلى معرفة من يصح حكمه ، ويمضى تنفيذه ، فإذا ثبت ذلك فتنفيذ الأحكام الشرعية ، والحكم بمقتضى التعبد فيها (١) من فروض الأئمة عليهم‌السلام المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوا لذلك ، فان تعذر تنفيذها بهم عليهم‌السلام وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب ، لم يجز لغير شيعتهم المنصوبين لذلك من قبلهم عليهم‌السلام تولى ذلك ، ولا التحاكم اليه ، ولا التوصّل بحكمه إلى الحقّ ، ولا تقليد الحكم مع الاختيار ، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الامام عليه‌السلام في الحكم من شيعته ، وهي العلم بالحق في الحكم المردود اليه ، والتمكن من إمضائه على وجهه ، واجتماع العقل والرأي ، والحزم (٢) ، والتحصيل ، وسعة الحلم ، والبصيرة بالوضع ، والتواتر بالفتيا ، والقيام بها ، وظهور العدالة والتدين بالحكم ، والقوة على القيام به ، ووضعه مواضعه.

ومنعنا عن صحة الحكم لغير أهل الحق ، لضلالهم عنه ، وتعذر العلم عليهم بشي‌ء منه لأجله ، وتدينهم بالباطل ، وتنفيذه ، وفقد الاذن من ولى الحكم بالحق فيما يحكمون به منه ، وذلك مقتض لاختلال معظم الشروط فيهم ، ولبعض ذلك حرّم على من لم يتكامل شروط الحكم فيه من أوليائهم ، النيابة في تنفيذ بعض الاحكام ، وتقليده ذلك ، والتحاكم اليه.

واعتبرنا العلم بالحكم ، لما بيناه من وقوف صحة الحكم على العلم ، لكون الحاكم مخبرا بالحكم عن الله تعالى ، ونائبا في إلزامه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبح الأمرين من دون العلم.

واعتبرنا التمكن من إمضائه على وجهه ، من حيث كان تقليد الحكم بين الناس

__________________

(١) ج. التعبد بها.

(٢) ج. ل. الجزم.

٥٣٧

مع تعذر تنفيذ الحق ، يقتضي الحكم بالجور (١) ، مع كونه كذلك ينافي الحكم بغير علم واعتبرنا اجتماع العقل والرأي ، لشديد (٢) حاجة الحكم إليهما ، وتعذره صحيحا من دونهما.

واعتبرنا سعة الحلم ، لتعرضه بالحكم بين الناس للبلوى بسفهائهم ، فيسعهم بحلمه.

واعتبرنا البصيرة بالوضع ، من حيث كان الجهل بلغة المتحاكمين اليه يسد طريق العلم بالحكم عنه (٣) ويمنع من وضعه موضعه.

واعتبرنا الورع ، من حيث كان انتفاؤه لا يؤمن معه الحيف في الحكم لعاجل رجاء أو خوف من غيره سبحانه.

واعتبرنا الزهد لئلا تطمح نفسه (٤) ما لم يؤته الله تعالى ، فيبعثه ذلك على تناول أموال الناس ، لقدرته عليها ، وانبساط يده بالحكم فيها.

واعتبرنا التدين ، من حيث كان تقليد الحكم رئاسة دنيوية ، أو الاستعلاء على النظراء ، أو للمعيشة لا يؤمن معه جوره ، ولا يتقى (٥) ضرره.

واعتبرنا القوة وصدق العزيمة في تنفيذ الاحكام ، من حيث كان الضعف مانعا من تنفيذ الحكم على موجبه ، ومقصرا بصاحبه عن القيام بالحق ، لصعوبته وعظيم المشقة في تحمله.

فمتى تكاملت هذه الشّروط ، فقد اذن له في تقلّد الحكم ، وان كان مقلّده ظالما متغلبا.

وعليه متى عرض لذلك ان يتولّاه لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ، ونهيا عن منكر ، تعين غرضهما بالتعريض للولاية عليه ، وهو ان كان في الظّاهر من قبل المتغلّب ، فهو في الحقيقة نائب عن ولى الأمر عليه‌السلام في الحكم ، ومأهول له لثبوت الاذن منه ومن آبائه عليهم‌السلام لمن كان بصفته في ذلك ، فلا يحلّ له

__________________

(١) ج. بالجور وفيه مع. ل. بالجور فيه وهو مع.

(٢) ج. ل. لشدة.

(٣) ج. عنده.

(٤) ج. ل. نفسه الى ما لم.

(٥) ج. ل. لا ينفى.

٥٣٨

القعود عنه ، وان لم يقلد من هذه حاله النظر بين الناس ، فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر عليهم‌السلام وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم ، وحمل حقوق الأموال (١) اليه ، والتمكن من أنفسهم لحدّ ، أو تأديب ، تعيّن عليهم ، ولا يحل لهم الرغبة عنه ، ولا الخروج عن حكمه ، وأهل الباطل محجوجون بوجود من هذه صفته ، ومكلّفون الرجوع اليه ، وان جهلوا حقه ، لتمكّنهم من العلم به ، لكون ذلك حكم الله سبحانه الذي تعبّد بقبوله ، وحظر خلافه ، ولا يحلّ له مع الاختيار وحصول الأمن من مضرة أهل الباطل ، الامتناع من ذلك ، فمن رغب عنه ولم يقبل حكمه من الفريقين ، فعن دين الله رغب ، ولحكمه سبحانه ردّ ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالف ، ولحكم الجاهلية ابتغى ، والى الطاغوت تحاكم.

وقد تناصرت الرّوايات عن الصّادقين عليهم‌السلام بمعاني ما ذكرناه ، فروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام انّه قال ، أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق ، فدعاه الى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ، فأبى الا ان يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (٢) و (٣) وعنه صلوات الله عليه انه قال إياكم ان يخاصم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا اليه (٤).

وروى عن عمر بن حنظلة ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فيتحاكمان الى السّلطان ، والى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ فقال من تحاكم الى الطاغوت ، فحكم له ، فإنما يأخذ سحتا ، وان كان حقه ثابتا ، لأنه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله وعزوجل ان

__________________

(١) من هنا سقط من نسخة الأصل.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٠.

(٣) و (٤) الوسائل ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢ ـ ٥.

٥٣٩

يكفر بها ، قلت كيف يصنعان ، قال انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فلترضوا به حكما ، فانى قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا ، فلم يقبله منه ، فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا ردّ والراد علينا كالراد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله (١).

واعلم ان فرض هذا التحاكم ، مشترط بوجود عارف من أهل الحق ، وكون المتنازعين من أهله ، فاما ان فقد العارف المحصل ، وكان الخصم الدّافع للحق مخالفا ، جاز التوصّل بحكم المنصوب من قبل الظالمين الى المستحق ، فلا يحل ذلك بين أهل الباطل مع وجود العارف المفتي ، فإن فقد العارف بالحكم من إخوانهم في مصرهما ، فليرحلا اليه ، أو يصطلحا.

وروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، انه قال لشريح القاضي قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصي أو شقي (٢).

يعني عليه‌السلام بالشقي من جلس بغير اذن من الله ورسوله وولى الأمر من بعده ، لأن المأذون له في الحكم ، بحكم الله يحكم ، فمجلسه للحكم مجلسهما.

وروى عن أبي جعفر عليه‌السلام ، انه قال الحكم حكمان ، حكم الله وحكم الجاهلية ، وقد قال الله تعالى « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » (٣) واشهد على زيد بن ثابت ، لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله ، حكم بحكم الجاهلية (٤).

وروى عن أبي جعفر عليه‌السلام انه قال من افتى الناس بغير علم ولا هدى من الله ، لعنته ملائكة الرضاء وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من يعمل بفتياه (٥).

وروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، انه قال من أفتى في درهمين بغير ما انزل الله

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤ ، وتمامه في التهذيب ، ج ٦ ، كتاب القضاء والاحكام ، ح ٦.

(٢) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢ ، وفيه أو وصىّ نبيّ.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٥٠.

(٤) و (٥) الوسائل ، الباب ٤ ، من أبواب صفات القاضي ، ح ١ ـ ٨.

٥٤٠