كتاب السرائر - ج ٣

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٣

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٨٠

النفس مائة ، من الإبل (١) ، وهذه نفس ، والدية وان لم تذكر في الآية ، فقد علمناها بدليل آخر ، وهو قوله عليه‌السلام ـ لا يطل دم امرئ مسلم ـ وفي النفس مائة من الإبل.

والأصل فقد انتقلنا عنه بدليل الشرع ، وأيضا فإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، لم يخالف منهم أحد في ذلك ، ولا أودعه كتابا له ما خلا شيخنا أبا جعفر ، وإذا تعين المخالف في المسألة ، لا يعتد بخلافه.

وما اختاره شيخنا في مسائل خلافه ، مذهب بعض المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام ولم يرد خبر عنهم عليهم‌السلام يعضد ما اختاره ، ولا انعقد لهم إجماع ، ولهذا ما استدل رحمه‌الله على ما ذهب إليه بإجماع الفرقة ولا بأخبارهم ، لأنهما معدومان (٢) ، فثبت ما اخترناه ، وذهبنا اليه ، وقويناه.

ثم ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين ، فقال « وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ».

وعند المخالف ان ذلك كناية عن الذمي في دار الإسلام ، وما قلناه أليق بسياق الآية ، لان الكنايات في كان كلها عن المؤمن ، فلا ينبغي ان تصرّفها الى غيره بلا دليل.

فصل في أقسام القتل وما يجب به من الديات

القتل على ثلاثة أضرب ، عمد محض ، وهو ان يكون عامدا الى قتله بآلة تقتل غالبا ، كالسيف ، والسكين ، واللّت ، والحجر الثقيل ، عامدا في قصده ، وهو ان يقصد قتله بذلك ، فمتى كان عامدا في قصده ، عامدا في فعله ، فهو العمد المحض.

والثاني خطأ محض ، وهو ما لم يشبه شيئا من العمد ، بان يكون مخطئا في فعله ، مخطئا في قصده ، مثل ان يرمى طائرا فيصيب إنسانا ، فقد أخطأ في الأمرين معا.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، الباب ١ من أبواب ديات النفس ، ح ١ ، بزيادة المؤمنة بعد النفس.

(٢) ج. ل. مفقودان.

٣٢١

الثالث عمد الخطأ ، أو شبيه العمد ، والمعنى واحد ، وهو ان يكون عامدا في فعله ، مخطئا في قصده.

فامّا عامد في فعله ، فهو ان يعمد إلى ضربه بآلة لا تقتل غالبا ، كالسوط ، والعصي الخفيفة.

والخطأ في القصد ، ان يكون قصده تأديبه وزجره وتعليمه ، لكنه مات منه ، فهو عامد في فعله ، مخطئ في قصده.

فاما الديات فتقسم ثلاثة أقسام أيضا بانقسام القتل ، مغلظة في السن والاستيفاء.

فالعمد المحض مائة من مسان الإبل على أرباب الإبل تستأدى في سنة واحدة من مال القاتل ، دون عاقلته بعد التراضي من القاتل وأولياء المقتول ، لأن عندنا موجب القتل العمد المحض ، القود ، دون الدية.

الثانية مخففة من وجهين السّن والاستيفاء ، فالسن عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن لبون ، ذكر ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة.

والاستيفاء ان تكون مؤجلة ثلاث سنين ، كل رأس حول ثلثها ، على العاقلة خاصة.

وهي كل دية وجبت بالخطإ المحض ، ولا ترجع العاقلة بها على القاتل ، سواء كان في حال الأداء موسرا أو معسرا.

وذهب شيخنا المفيد ، الى ان العاقلة ترجع بها على القاتل (١).

وهذا خلاف إجماع الأمة.

الثالث مغلظة من وجه مخفّفة من وجه (٢) فالتغليظ بالسن على ما قلناه في العمد ، والتخفيف في الأصل عندنا ، تستأدى في سنتين من مال القاتل خاصّة.

قد ذكرنا ان القتل ثلاثة أقسام ، عمد محض ، وخطأ محض ، وخطأ شبيه العمد ، وهكذا الجناية على الأطراف تنقسم هذه الأقسام.

__________________

(١) في المقنعة ، باب البيّنات على القتل ص ٧٣٧.

(٢) ج. ليس فيه عبارة « مخففة من وجه ».

٣٢٢

قد ذكرنا ان الدية تغلظ في العمد المحض ، وعمد الخطأ ، وتخفف في الخطأ المحض ، فهذه مخففة ابدا الّا في موضعين ، المكان والزمان ، فالمكان الحرم ، والزمان الأشهر الحرم ، فعندنا انها تغلظ ، بان توجب دية وثلثا ، ولم يذكر أصحابنا التغليظ إلّا في النفس ، دون قطع الأطراف.

عندنا ان كانت العاقلة من غير أهل البلد ، أخذ منهم ما هم من أهله ، لأن الدية عندنا أما مائة من الإبل أخماسا (١) وأرباعا (٢) روى ذلك أجمع ، (٣) ، أو مأتان من البقر ، أو ألف من الغنم ، أو ألف دينار ، أو عشرة ألف (٤) (٥) درهم أو مائتا حلة ، والحلة إزار ، ورداء ولا تسمّى حلة حتى تكون ثوبين اثنين ، من برود اليمن ، أو نجران.

فعلى هذا التحرير تكون الدية على أصحاب الحلل ، أربعمائة ثوب ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

فكل واحد من هذه الأجناس الستة ، أصل في نفسه ، وليس بعضه بدلا عن بعض ، هذا إذا كانت على العاقلة.

فاما ان كانت على القاتل ، وهو إذا قتل عمدا ، أو اعترف بالخطإ ، أو كان شبيه العمد عندنا ، فالحكم فيه كالحكم في العاقلة سواء ، عندنا.

إذا أوضحه موضحتين ، ففي كل واحدة منهما خمس من الإبل ، لقوله عليه‌السلام في الموضحة خمس من الإبل (٦) ، ولقوله وفي المواضح خمس خمس (٧) ، فان عاد الجاني فخرق ما بينهما ، حتى صارا واحدة ففيها أرش واحدة ، لأنه صيرهما واحدة بفعله ، كما لو أوضحه ابتداء به ، لان فعل الواحد يبنى بعضه على بعض ، بدليل انه

__________________

(١) لم نتحقق نصّا يدل عليه وفي الجواهر ج ٤٣ ، ص ٢٣ ، وامّا ما عن المبسوط والسرائر ـ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن لبون وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة وعشرون جذعة ـ فلم نجد له شاهدا فيما وصل إلينا من النصوص.

(٢) ج. رباعا.

(٣) الوسائل الباب ٢ من أبواب ديات النفس ، ح ١ ـ ١٠.

(٤) ج : عشرة آلاف.

(٥) الوسائل ، الباب ١ من أبواب ديات النفس ، ح ١ ـ ٤ ـ ٩.

(٦) الوسائل ، الباب ٢ من أبواب ديات الشجاج والجراح ، ح ٤ ـ ٥ ـ ٦ ـ ١٠ ـ ١٢ ـ ١٦ ـ ١٨.

(٧) سنن ابن ماجة ، باب الموضحة الرقم ٢٦٥٥ ، ج ٢ ، ص ٨٨٦.

٣٢٣

لو قطع يده ورجله ، ثم عاد فقتله ، فالدية واحدة ، لأن الجاني واحد.

قد قلنا ان قتل العمد المحض موجبة عندنا القود دون الدية بشروط.

منها ان يكون غير مستحق بلا خلاف.

ومنها ان يكون القاتل بالغا كامل العقل ، فان حكم عمد من ليست هذه حاله ، حكم الخطأ لقوله عليه‌السلام المجمع عليه ـ رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه (١).

ومنها ان لا يكون المقتول مجنونا بلا خلاف بين أصحابنا.

ومنها ان لا يكون صغيرا على خلاف بيننا فيه ، الا ان الأظهر بين أصحابنا والمعمول عليه عند المحصلين منهم ، الاستقادة به ، لان ظاهر القرآن يقتضي ذلك.

ومنها ان لا يكون القاتل والد المقتول ، لقوله عليه‌السلام ، لا يقتل والد بولده (٢).

إلا في موضع واحد ، وهو الموضع الذي يتحتم القتل عليه لأجل المحاربة ، فيقتل بقتل ولده لأجل المحاربة الحتم ، لا لأجل الاستقادة ، بدليل ان ولى من قتله المحارب لو عفا لوجب على السلطان قتله حدا للمحاربة.

ومنها ان لا يكون القاتل حرا والمقتول عبدا ، سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره.

ومنها ان لا يكون القاتل مسلما والمقتول كافرا ، سواء كان معاهدا أو مستأمنا أو حربيا ، لقوله تعالى « وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (٣) ولقوله عليه‌السلام لا يقتل مسلم بكافر (٤).

ويقتل الحر بالحرّة ، بشرط ان يؤدي أولياؤها إلى ورثته الفاضل عن ديتها من ديته ، وهو النّصف ، بدليل إجماع أصحابنا.

وقوله تعالى ( وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ) (٥) ـ لا يدل على ان الذكر لا يقتل بالأنثى ، الا من

__________________

(١) الخصال ، ج ١ ص ٩٣ ، ح ٤٠.

(٢) الوسائل الباب ٣٢ من أبواب القصاص في النفس ، ح ٤ ـ ٨ ـ ١١.

(٣) سورة النساء ، الآية ١٤١.

(٤) لا يوجد بعينه في مصادرنا وبمضمونه روايات الباب ٤٧ من أبواب القصاص في النفس من كتاب الوسائل وفي المستدرك في الباب ٤١ من هذا الباب لا يقتل مؤمن بكافر ، ح ٢.

(٥) سورة البقرة ، الآية ١٧٨.

٣٢٤

حيث دليل الخطاب ، وذلك متروك لدليل غيره ، ودليل الخطاب عند المحققين من أصحابنا ، غير معمول به ، ومن عمل به ، يقول إنما أخرجنا من ذلك قتله بها مع الشرط الذي ذكرناه ، بدليل.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : العمد المحض ، هو كل من قتل غيره وكان بالغا كامل العقل ، بأي شي‌ء كان ، بحديد ، أو خشب ، أو حجر ، أو سم ، أو خنق ، وما أشبه ذلك ، إذا كان قاصدا بذلك القتل ، ويكون فعله مما قد جرت العادة بحصول الموت عنده ، حرا كان أو عبدا ، مسلما كان أو كافرا ، ذكرا كان أو أنثى ويجب فيه القود أو الدية على ما نبينه فيما بعد (١).

قوله رحمه‌الله أو الدية ليس الولي بالخيار بين القود وأخذ الدية ، وانما مراده مع تراضى القاتل وولى المقتول ، لا انّه إذا أبى واحد منهما اجبر عليه.

ثمّ قال رحمه‌الله ومتى كان القاتل غير بالغ وحده عشر سنين فصاعدا ، أو يكون مع بلوغه زائل العقل ، اما ان يكون مجنونا ، أو مؤوفا ، فان قتلهما وان كان عمدا ، فحكمه حكم الخطأ المحض.

قوله رحمه‌الله ومتى كان القاتل غير بالغ ، وحده عشر سنين. رواية (٢) شاذة ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ، ولظاهر القرآن ، والسّنة ، لقوله عليه‌السلام رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، ومن بلغ عشر سنين من الصبيان الذكران ، ما احتلم ، فمن استقاد منه ، وقتله بمن قتله ، فما رفع القلم عنه.

وشيخنا أبو جعفر فقد رجع عن ذلك في مبسوطة (٣) ، ومسائل خلافه (٤).

وقاتل العمد المحض ، لا يجوز ان يستقاد منه الّا بالحديد ، وان كان هو قد قتل

__________________

(١) النهاية كتاب الديات ، باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٢) لا يوجد في المصادر الحديثية الّا الشيخ ( قده ) أورده في النهاية كتاب الديات ، باب أقسام القتل.

(٣) المبسوط ، ج ٧ ، فصل في صفة قتل العمد وجراح العمد ، ص ٥٠.

(٤) الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة ٣٩.

٣٢٥

صاحبه بغير الحديد من الضرب ، أو الرمي ، وما أشبه ذلك.

ولا يمكن أيضا من التمثيل به ، ولا تعذيبه ، ولا تقطيع أعضائه ، وان كان فعل ذلك هو بصاحبه ، لنهيه عليه‌السلام عن المثلة (١) ، بل يؤمر بضرب رقبته ، وليس له أكثر من ذلك ، الّا ان يكون فرق الضرب عليه ، فقطع عضوا منه ، ثم بعد ذلك قتله ، على ما نبينه فيما بعد.

وليس في قتل العمد الدية (٢) ، الّا ان يبذل القاتل من نفسه الدية ، ويختار ذلك أولياء المقتول ، فان لم يبذل القاتل من نفسه ذلك لم يكن لأولياء المقتول المطالبة بها ، وليس لهم إلّا نفسه على ما قدمناه ، ومتى بذل الدية ، ولم يأخذها أولياء المقتول وطلبوا القود ، كان لهم أيضا ذلك.

فإن فادى القاتل نفسه بمال جزيل ، أضعاف أضعاف الدية الواجبة ، ورضى به أولياء المقتول ، كان ذلك أيضا جائزا.

فإن اختلف أولياء المقتول ، فبعض يطلب القود ، وبعض يطلب الدية كان للذي يطلب القود ، القود إذا رد على الذي طلب الدية ما له منها خاصة ، ثم يقتل القاتل.

وكذلك ان اختلفوا فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود ، وبعض يطلب الدية ، كان للذي يطلب القود ان يقتل القاتل إذا ردّ على الذي يطلب الدية ماله منها من ماله خاصة ، وسهم من عفا. ما يرده على القاتل ، ثم يقتل القاتل.

وكذلك إذا اختلفوا فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود ، أو الدية فإنّ الذي طلب القود ، يجب عليه أن يرد على القاتل ، سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، وإن طلب الدية ، كان القاتل مخيرا بين أن يعطيه ذلك بمقدار ما يصيبه من الدية ، وبين ان لا يعطيه ذلك ، لأنا قد بينا ان موجب قتل العمد المحض القود دون الدية ، ولا يجب الدية عندنا ، الا برضى الجميع ، فكيف يجب على القاتل إعطاؤها

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٦٢ من أبواب القصاص في النفس ، ح ٢ ـ ٤ ـ ٥.

(٢) ل. الّا القود.

٣٢٦

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وكذلك ان اختلفوا ، فبعض عفا عن القاتل ، وبعض طلب القود أو الدية ، فإن الذي طلب القود ، يجب عليه ان يرد على أولياء القاتل سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، وان يقتله ، وان طلب الدية وجب على القاتل ان يعطيه مقدار ما يصيبه من الدّية ، هذا أخر كلامه رحمه‌الله (١).

قال محمّد بن إدريس ، لا حاجة بنا ان نردّ على أولياء القاتل ، بل على القاتل نفسه ، كما قدمناه ، لانه لا يمكن من قتله قبل تسليم المال ، لأنه رحمه‌الله قال يرد على أولياء القاتل سهم من عفا عنه ، ثم يقتله ، فإذا كان لا يقتله الّا بعد الرد ، فيكون الرد عليه ، دون أوليائه بغير خلاف.

واما قوله رحمه‌الله ، فان طلب الدية وجب على القاتل ان يعطيه مقدار ما يصيبه من الدية ، فقد قلنا ما عندنا فيه ، وأيضا فهذا ينقض علينا أصلنا المقرر ، لأنا بلا خلاف بيننا ، لا نخيّر ولى المقتول بين القود وأخذ الدية بل ما يستحق إلّا شيئا واحدا ، وهو القود على ما قدمناه فيما مضى والمخالف لنا يخيّره بين القود وأخذ الدية. وهذا لا يذهب أحد من أصحابنا اليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وأولياء المقتول ، هم الذين يرثون ديته ، سوى الزوج والزوجة.

وقد ذكرناهم في كتاب المواريث ، ويكون للجميع المطالبة بالقود ، ولهم المطالبة بالدية ، ولهم العفو على الاجتماع والانفراد ، ذكرا كان أو أنثى ، على الترتيب الذي رتبناه.

وإذا مات ولي الدم قام ولده مقامه في المطالبة بالدم ، والزوج والزوجة ليس لهما غير سهمهما من الدية ، ان قبلها أولياء المقتول ، أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث ، وليس لهما المطالبة بالقود ، ومن ليس له من الدية شي‌ء ، من الاخوة والأخوات من الام ، ومن يتقرب من جهتها ، فليس لهم المطالبة بالدّم ولا الدّية (٢).

__________________

(١) و (٢) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

٣٢٧

وقال في مبسوطة ، واما الكلام في القصاص ، وهو إذا قتل عمدا محضا فإنه كالدية في الميراث يرثه من يرثها ، فالدية يرثها من يرث المال ، والقود يرثه من يرث الدية ، والمال معا ، هذا مذهب الأكثر ، وقال قوم يرثه العصبات من الرجال دون النساء ، وفيه خلاف ، والأقوى عندي الأول ، وان كان الثاني قد ذهب إليه جماعة من أصحابنا ، وذكرناه نحن في النهاية (١) ، ومختصر الفرائض (٢) ، فأما الزّوج والزّوجة ، فلا خلاف بين أصحابنا انه لا حظ لهما في القصاص ، ولهما نصيبهما من الميراث من الدية ، هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، حرفا فحرفا (٣).

قال محمد بن إدريس الذي أعوّل عليه ، وافتى به ، القول الذي قوّاه شيخنا في مبسوطة ، دون ما ذكره في نهايته ، لانه موافق لأصول مذهبنا ، يعضده ظاهر القرآن ، من قوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ » (٤) فلا نرجع عن كتاب الله تعالى باخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، وهي أيضا معارضة بأخبار مثلها ، والإجماع فغير منعقد على ما ذكره في نهايته ، فإذا لم يكن على المسألة إجماع ، فالتمسك فيها بكتاب الله تعالى هو الواجب.

وذهب شيخنا في الجزء الثالث من الإستبصار ، الى ان النساء لا عفو لهن ولا قصاص (٥).

وما ذكره في نهايته ومبسوطة هو الصحيح.

وإذا كان للمقتول أولياء صغار وأولياء كبار ، واختار الكبار الدية ، كان لهم حظهم منها ، فإذا بلغ الصغار كان لهم مطالبة القاتل بالقود ، بعد ان يردوا عليه ما اعطى الأولياء الكبار من الدية ، ولهم أيضا العفو عنه على كل حال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فإذا بلغ الصغار ، كان لهم مطالبة القاتل

__________________

(١) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٢) مختصر الفرائض المطبوع ضمن الرسائل العشر ص ٢٧٧.

(٣) المبسوط ، ج ٧ فصل في صفة قتل العمد وجراح العمد ، ص ٥٤.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية ٦.

(٥) الإستبصار ، ج ٤ ، الباب ١٥٣ ، ص ٢٦٢.

٣٢٨

بقسطهم من الدية ، أو المطالبة له بالقود (١).

وقد قلنا ما عندنا في مثل قوله رحمه‌الله ـ كان لهم مطالبة القاتل بقسطهم من الدية.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله ، واى قسط لهم من الدية ، مع انا أجمعنا على ان قتل العمد المحض موجبه القود ، دون الدية ، بغير خلاف بيننا ، الّا ان يتراضى الجميع بالدية.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ودية العمد الف دينار جيادا ، إن كان القاتل من أصحاب الذهب ، أو عشرة آلاف درهم ان كان من أصحاب الورق جيادا ، أو مائة من مسان الإبل ، ان كان من أصحاب الإبل ، أو مائتا بقرة مسنة ، ان كان من أصحاب البقر ، أو ألف شاة وقد روى (٢) الف كبش ، ان كان من أصحاب الغنم ، أو مائتا حلّة ان كان من أصحاب الحلل ، ويلزم دية العمد في مال القاتل خاصة ، ولا يؤخذ من غيره الّا ان يتبرّع إنسان بها عنه ، فان لم يكن له مال ، فليس لأولياء المقتول الّا نفسه (٣).

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله ، ليس لأولياء المقتول الأنفس القاتل عمدا ، سواء كان له مال ، أو لم يكن.

فما قاله رحمه‌الله ، يوهم ان الأولياء يخيرون بين الدية والمطالبة بها ، وبين القود ، وهذا خلاف مذهبنا.

ثم قال رحمه‌الله تمام الكلام في نهايته ، فاما ان يقيدوه بصاحبهم ، أو يعفوا عنه ، أو يمهلوه الى ان يوسع الله عليه (٤) ثم قال ومتى هرب القاتل عمدا ولم يقدروا عليه الى ان مات ، أخذت الدية من ماله ، فان لم يكن له مال ، أخذت من الأقرب فالأقرب من أوليائه الذين يرثون

__________________

(١) و (٣) و (٤) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٢) لا يوجد بعينه ويدل بمضمونه رواية من الباب ١ من أبواب ديات النفس في الوسائل.

٣٢٩

ديته ، ولا يجوز مؤاخذتهم بها مع وجود القاتل (١).

قال محمّد بن إدريس هذا غير واضح ، لانّه خلاف الإجماع وظاهر الكتاب ، والمتواتر من الاخبار ، وأصول مذهبنا ، وهو ان موجب القتل العمد ، القود ، دون الدية ، على ما كررنا القول فيه بلا خلاف بيننا ، فإذا فات محله وهو الرقبة ، فقد سقط لا الى بدل ، وانتقاله الى المال الذي للميت ، أو الى مال أوليائه ، حكم شرعي يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، ولن يجده ابدا ، وهذه اخبار آحاد شواذ أوردها شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا لانه رجع عن هذا القول في مسائل خلافه وافتى بخلافه وهو الحق اليقين.

فقال مسألة إذا قتل رجل رجلا ، ووجب القود عليه ، فهلك القاتل قبل ان يستفاد منه ، سقط القصاص إلى الدية ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يسقط القصاص لا الى بدل ، دليلنا قوله عليه‌السلام ـ لا يطل دم امرئ ، مسلم ـ (٢) فلو أسقطناه لا الى بدل ، لأطلنا دمه ، ولو قلنا بقول أبي حنيفة لكان قويا ، لأن الدّية لا تثبت عندنا إلا بالتراضي بينهما ، وقد فات ذلك ، هذا أخر كلامه رحمه‌الله (٣).

ويجب على القاتل العمد ، ان يتوب الى الله تعالى مما فعله ، وحدّ التوبة ان يسلم نفسه إلى أولياء المقتول ، فامّا ان يستقيدوا منه ، أو يعفوا عنه ، أو يقبلوا الدية ، أو يصالحهم على شي‌ء يرضون به عنه ، ثم يعزم بعد ذلك على ان لا يعود الى مثل ما فعل في المستقبل ، ويعتق بعد ذلك رقبة ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويطعم ستين مسكينا ، فإذا فعل ذلك كان تائبا ، على ما رواه (٤) أصحابنا ، هذا مع قدرته على كفارة الجمع المقدم ذكرها.

فإذا لم يقدر على شي‌ء منها ، أو على (٥) بعضها ، فعله ولا شي‌ء عليه ، وصحت

__________________

(١) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٢) الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب القصاص في النفس ، ح ١.

(٣) الخلاف ، كتاب الجنايات ، مسألة ٥٠.

(٤) الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الكفارات.

(٥) ج. أو قدر على.

٣٣٠

توبته أيضا ، وكان تائبا.

وانما يلزم هذه الكفارة من عفا عنه ، أو صالحه الأولياء على الدية ، وامّا إذا قتل فلا كفارة عليه ، لان من جملتها الصوم ، فإذا قتل من يصوم عنه.

وتصح توبته سواء قتل مؤمنا متعمدا على إيمانه ، أو الأمور الدنياوية على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (١) ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، لأن التوبة موقوفة على الجسد ما دامت الحياة والعقل فيه ، وقوله تعالى « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » (٢) الآية وقوله ـ يغفر الذنوب جميعا ـ (٣) وقوله « غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ » (٤).

فاما قوله تعالى ـ ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) ـ (٥) فليس في ظاهرها انه تاب ، ويمكن العمل بها إذا لم يتب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى انه لا تقبل توبته ، ولا يختار التوبة ، ولا يوفق للتوبة ، معتمدا على اخبار آحاد (٦) ، والإجماع فغير منعقد ، حتى يرجع في هذه المسألة اليه ، ويعوّل عليه.

ولا كفارة إلّا في قتل نفس المسلم ، أو من في حكمه.

ولا كفارة على قاتل اليهودي والنصراني ، ومن لا يقرّ بالشهادتين.

ولا كفارة على المجنون والصبي إذا كانا قاتلين ، لأنهما غير مكلّفين ، والخطاب من الحكيم يتناول المكلفين البالغين العاقلين.

فأما دية قتل الخطأ فإنها تلزم العاقلة ، وهي تلزم العصبات من الرجال ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، الأقرب فالأقرب ، ويدخل فيها الولد والوالد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فأما دية قتل الخطأ ، فإنها تلزم العاقلة الذين يرثون دية القاتل ، ان لو قتل ، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا على حال (٧).

__________________

(١) المبسوط ، ج ٧ ، كتاب الجراح ، ص ٤.

(٢) سورة هود ، الآية ١١٢.

(٣) سورة الزمر ، الآية ٥٣.

(٤) سورة الغافر ، الآية ٣.

(٥) سورة النساء ، الآية ٩٣.

(٦) الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القصاص في النفس ، ح ١ ـ ٥.

(٧) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

٣٣١

وقال في مسائل خلافه ، العاقلة كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين ، وهم الاخوة وأبناؤهم إذا كانوا من جهة أب وأم ، أو من جهة أب ، والأعمام وأبناؤهم ، وأعمام الأب وأبناؤهم ، والموالي ، هذا أخر كلامه في مسائل الخلاف (١).

وهذا قول الشّافعي اختاره شيخنا في مسائل خلافه ، ولم يذكر في استدلاله إجماع طائفتنا ، ولا اخبارهم ، بل ذكر اخبار آحاد من طريق المخالف التي استدل بها الشافعي ، وباقي أصحابنا على خلاف شيخنا في ذلك ، فهو المنفرد بالقول.

وما ذكره في نهايته ، هو أخبارنا (٢) ، وروايتنا ، ومن طريقنا.

وما يذهب إليه في المبسوط. ومسائل خلافه ، معظمه من فروع المخالفين ، بل إجماعنا منعقد على ان العاقلة ، جماعة الورّاث من الرجال ، دون من يتقرب بالأم ، فليلحظ ذلك ويتحقق.

وقد رجع شيخنا في جواب مسائل الحائريات ، فإنه سئل عما أودعه نهايته ، أن الأب إذا تبرّأ من ميراث ولده ، ومن ضمان جريرته ، صحيح أم لا؟ فقال الجواب لا يصحّ (٣) انه ليس له التبري ، والشرع إذا حكم به لم ينفع التبري ، وثبت حكمه (٤).

والرواية (٥) بتبري الأب من جريرة الابن ، رواية شاذة ، فقد رجع كما تراه.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه الى ان الموسر من العاقلة ، عليه نصف دينار ، والمتوسط ربع دينار ، يوزع على الأقرب فالأقرب ، حتى تنفد العاقلة (٦).

وهو مذهب الشافعي اختاره شيخنا ، والذي يقتضيه مذهبنا ، انه لا تقدير ولا توظيف على أحد منهم ، بل تؤخذ منهم على قدر أحوالهم ، حتى يستوفى النجم الذي هو ثلثها ، لان تقدير ذلك يحتاج الى دليل ، ولا أحد من أصحابنا ذهب الى تقدير ذلك ، فمن قدّره يحتاج الى دليل.

__________________

(١) الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة ٩٨.

(٢) ل. اختيارنا.

(٣) ج. الجواب الصحيح.

(٤) الوسائل العشر ، ص ٢٨٨.

(٥) الوسائل ، الباب ٧ من أبواب ميراث ولد الملاعنة ، ح ٢ ـ ٣.

(٦) الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة ١٠٥.

٣٣٢

وشيخنا فقد رجع في مبسوطة عما ذكره في مسائل خلافه ، فقال في مبسوطة ، والذي يقتضيه مذهبنا انه لا يقدر ذلك ، بل يقسم الامام على ما يراه من حاله من الغنى والفقر ، وان يفرقه على القريب والبعيد ، وان قلنا يقدّم الأولى فالأولى كان قويا ، لقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » (١) وذلك عام هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٢).

والذي يتحمل العقل عن القاتل من العاقلة ، من كان منهم غنيا أو متجملا ، واما الفقير فلا يتحمل شيئا منها ، ويعتبر الغنى والفقر حين المطالبة والاستيفاء ، وهو عند حئول الحول ، ولا يعتبر ذلك قبل المطالبة ، لأنه يحل عند انقضاء كل حول منها ثلثها.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، ان العاقلة ترجع بالدّية على القاتل (٣) وهذا خلاف إجماع المسلمين قاطبة ، ولانه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، وقال بعض أصحابنا ان العاقلة ترجع على القاتل بالدية ، ولست اعرف به نصا ولا قولا لأحد (٤).

اختلفوا في معنى تسمية أهل العقل بأنهم عاقلة.

منهم من قال العقل اسم للدية وعبارة عنها ، وسمى أهل العقل عاقلة ، لتحملهم ذلك ، يقال عقلت عنه إذا تحملتها عنه ، وعقلت له إذا دفعت الدية اليه.

ومنهم من قال انما سميت بالعاقلة ، لأنها مانعة ، والعقل المنع ، وذلك ان العشيرة كانت تمنع عن القاتل بالسيف في الجاهليّة ، فلما جاء الإسلام منعت عنه بالمال ، فلهذا سميت عاقلة.

وقال أهل اللغة العقل الشد ، ولهذا يقال عقلت البعير إذا ثنيت ركبته وشددتها ، وسمى ذلك الحبل عقالا ، فسمّي أهل العقل عاقلة ، لأنها تعقل الإبل بفناء وليّ المقتول

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية ٧٥.

(٢) المبسوط ، ج ٧ ، كتاب الديات ، ص ١٧٨.

(٣) المقنعة ، باب البينات على القتل ص ٧٣٧.

(٤) المبسوط ، ج ٧ ، كتاب الديات ، ص ١٧٤.

٣٣٣

والمستحق للدية ، يقال عقل يعقل عقلا ، فهو عاقل ، وجمع العاقل عاقلة ، وجمع العاقلة عواقل ، والمعاقل جمع الديات ، وايّ هذه المعاني كان فلا يخرج ان معناه هو الذي يضمن الدية ، ويبذلها لولي المقتول.

واجمع المسلمون على ان العاقلة تحمل دية الخطأ المحض ، إلّا الأصمّ فإنه قال على القاتل ، وبه قالت الخوارج.

والعاقلة لا تعقل البهائم.

ولا تعقل الّا بنى أدم في قتل الخطأ المحض ، على ما قدمناه ، إذا قامت به البينة العدول ، ولا يعقل إقرارا ولا صلحا.

وإذا حال الحول على موسر من أهل العقل ، توجهت المطالبة عليه ، فان مات بعد هذا لم يسقط بوفاته ، بل يتعلق بتركته كالدين.

الدية الناقصة ، مثل دية المرأة ، ودية اليهودي والنصراني ، والمجوسي ، ودية الجنين ، تلزم أيضا في ثلاث سنين ، كل سنة ثلثها.

والقدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني ، هو قدر جنايته ، قليلا كان أو كثيرا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته ، إلى انها لا تحمل ما دون الموضحة (١).

الا انه رجع في مسائل خلافه ، فقال مسألة : القدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني ، هو قدر جنايته ، قليلا كان أو كثيرا ، ثم قال وروى (٢) في بعض أخبارنا انها لا تحمل إلا نصف العشر (٣) أرش الموضحة فما فوقها ، وما نقص عنه ففي مال الجاني ، ثم قال دليلنا عموم الأخبار التي وردت في ان الدية على العاقلة ، ولم يفصلوا (٤).

قال محمّد بن إدريس ، ما قاله وذهب إليه في مسائل خلافه ، هو الحق اليقين ، والإجماع منعقد عليه ، ولا يرجع عن ذلك الى رواية شاذة لا توجب علما ولا عملا.

__________________

(١) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٢) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب العاقلة ، الحديث ١.

(٣) وفي المصدر ، الا نصف العشر الموضحة.

(٤) الخلاف ، كتاب الديات ، مسألة ١٠٦.

٣٣٤

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وقال بعض أصحابنا انّ العاقلة ترجع بها على القاتل ، ان كان له مال ، فان لم يكن له مال ، فلا شي‌ء للعاقلة عليه ، ومتى كان للقاتل مال ولم يكن للعاقلة شي‌ء ، ألزم في ماله خاصة الدية (١).

قال محمّد بن إدريس هذا غير مستقيم ، لانه خلاف إجماع المسلمين على ما قدمناه ، لان القاتل لا يدخل في العقل ، ولا يعقل عن نفسه ابدا.

ثم قال شيخنا أبو جعفر أيضا في نهايته ، ومتى لم يكن للقاتل خطأ عاقلة ، ولا من يضمن جريرته من مولى نعمة ، أو مولى تضمن جريرة ، ولا له مال ، وجبت الدية على بيت مال المسلمين (٢).

وهذا أيضا غير مستقيم ، لانه خلاف إجماع أصحابنا ، بل تجب الدية على مولاه الذي يرثه ، وهو امام المسلمين ، في ماله وبيت ماله ، دون بيت مال المسلمين ، لانه ضامن جريرته وحدثه ، ووارث تركته ، وهذا إجماع منّا لا خلاف فيه ، وقد أحكمنا ذلك وحررناه في باب الولاء (٣) فلا حاجة بنا إلى إعادته.

وقال شيخنا في نهايته ، وامّا دية الخطأ شبيه العمد ، فإنها تلزم القاتل نفسه في ماله خاصّة ، فان لم يكن له مال ، استسعي فيها ، أو يكون في ذمته الى ان يوسع الله عليه ، فان مات أو هرب ، أخذ أولى الناس اليه بها ممن يرث ديته ، فان لم يكن له أحد أخذت من بيت المال (٤).

قال محمّد بن إدريس هذا غير واضح ، لانه خلاف الإجماع ، وضد ما يقتضيه أصول مذهبنا ، لأن الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها يحتاج الى دليل ، والإجماع حاصل على ان الأولياء وبيت المال لا تعقل الا قتل الخطأ المحض ، فاما الخطأ شبيه العمد فعندنا بغير خلاف بيننا لا تعقله العاقلة ، ولا تحمله ، بل بحب الدية على القاتل نفسه ، فمن قال بموته ، أو هربه ، تصير على غيره يحتاج الى دليل قاهر ، ولا يرجع في ذلك الى اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

__________________

(١) و (٢) و (٤) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

(٣) في ص ٢٦٦.

٣٣٥

وعلى قاتل الخطأ المحض والخطأ شبيه العمد ، بعد إعطاء الدّية الكفارة ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فان لم يجد كان عليه صيام شهرين متتابعين ، فان لم يستطع اطعم ستين مسكينا ، لأنّها مرتبة ، وقد ذكرناها فيما تقدم (١) ، فان لم يقدر على ذلك أيضا ، تصدق بما استطاع ، أو صام ما قدر عليه.

وقال شيخنا في نهايته ، ومن قتل عمدا ، وليس له ولي ، كان الامام ولي دمه ، ان شاء قتل قاتله ، وان شاء أخذ الدية وتركها في بيت المال ، وليس له ان يعفو ، لان ديته لبيت المال ، كما ان جنايته على بيت المال (٢).

قال محمّد بن إدريس ، هذا غير صحيح ولا مستقيم ، بل الامام ولي المقتول المذكور ، ان شاء قتل ، وان شاء عفا ، فإن رضي هو والقاتل واصطلحا على الدية ، فإنها تكون له ، دون بيت مال المسلمين ، لأن الدية عندنا يرثها من يرث المال والتركة ، سوى كلالة الأم ، فإن كلالة الأم لا ترث الدية ولا القصاص ولا القود ، بغير خلاف ، وتركته لو مات كانت لإمام المسلمين ، بغير خلاف بيننا ، ولان جنايته على الإمام ، لأنه عاقلته.

وشيخنا رجع في غير نهايته من كتبه عن هذه الرواية الشاذة ، ان كانت رويت ، فقد أوردها في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فان روى ذلك ، فقد ورد للتقية ، لأنه مذهب بعض المخالفين.

ومن قتل خطأ أو شبيه عمد ، ولم يكن له أحد ، كان للإمام ان يأخذ ديته ، ليس له أكثر من ذلك.

ومن عفا عن القتل فليس له بعد ذلك المطالبة به ، فان قتل بعد ذلك القاتل ، كان ظالما متعديا ، وقيد بالقاتل.

ومن قبل الدية ، ثم قتل القاتل ، كان كذلك ، وكان عليه القود.

وإذا قتل الأب ولده خطأ كانت ديته على عاقلته ، يأخذها منهم الورثة الذين

__________________

(١) في ص ٦٩.

(٢) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود والدية.

٣٣٦

لا يعقلون ، دون الأب القاتل ، لأنا قد بينا ان القاتل ان كان عمدا لا يرث من التركة ، ولا من الدية شيئا ، وان كان خطأ فإنه أيضا لا يرث من الدية شيئا على ما بيناه (١) ، ومتى لم يكن له وارث غير الأب ممن لا يحمل العقل ، فلا دية له على العاقلة على حال ، لأنهم يؤدّون إلى أنفسهم لأنهم حينئذ ورثته ، فلا قائدة ، ولا معنى في ذلك.

فان قتله عمدا أو شبيه عمد ، كانت الدية عليه في ماله خاصة ، ولا يقتل به على وجه قودا ، لأجل قتله إيّاه فحسب ، الا ان يكون محاربا قتل ولده ، فيقتل الوالد حدا لا قودا ، لأجل المحاربة ، لأن القتل هاهنا يتحتّم على القاتل كائنا من كان ، لقوله تعالى « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا » (٢) وقد حررنا ذلك فيما تقدم (٣).

وتكون الدية لورثته خاصة ، فان لم يكن له وارث غير الأب القاتل ، كانت الدية عليه لإمام المسلمين.

وقال شيخنا أبو جعفر لبيت المال ، وأطلق (٤).

وقد اعتذرنا له فيما مضى (٥) ، وقلنا انه قال في المبسوط إذا قلت بيت المال ، فمقصودي بيت مال الامام.

وإذا قتل الابن أباه عمدا ، قتل به إن كانا ممن يجري بينهما القود على ما نبيّنه ان شاء الله تعالى (٦).

فان قتله خطأ ، كانت الدية على عاقلته ، ولم يكن له منها شي‌ء على ما بيّناه.

فان لم يكن للأب من يرثه إلا العاقلة ، فلا شي‌ء لها على أنفسها.

وإذا قتل الولد امه ، أو قتلت الأم ولدها عمدا محضا ، قتل كل واحد منهما بصاحبه ، وان قتله خطأ ، كانت الدية على عاقلته على ما بيّناه ، ولا يرث هو شيئا منها على ما بينا القول فيه وشرحناه.

__________________

(١) في ص ٢٧٤.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٣٣.

(٣) في ص ٣٢٤.

(٤) النهاية كتاب الديات باب أقسام القتل وما يجب فيه من القود.

(٥) و (٦) لم نتحقّقه.

٣٣٧

باب البيّنات على القتل وعلى قطع الأعضاء

الحكم في القتل يثبت بشيئين ، أحدهما قيام البيّنة ، وهما شاهدان عدلان في قتل العمد المحض الموجب للقود على القاتل ، بأنه قتل.

فاما قتل الخطأ المحض ، أو الخطأ شبيه العمد ، فشهادة شاهد واحد ، ويمين المدعي ، لانه يوجب المال دون القود ، وفي المال أو المقصود منه المال ، يقبل شهادة واحد ويمين المدعي.

والثاني إقراره على نفسه ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، أو شبيه العمد.

فان لم يكن لأولياء المقتول نفسان يشهدان بذلك ، وكان معهم لوث بفتح اللام وتسكين الواو ، وهو التهمة الظاهرة ، لأن اللّوث القوّة ، يقال ناقة ذات لوث ، اى قوّة ، وكأنّه قوة الظن كان عليهم القسامة ، خمسون رجلا منهم ، يقسمون بالله تعالى ، ان المدعى عليه قتل صاحبهم ، ان كان القتل عمدا ، وان كان خطأ خمسة وعشرون رجلا ، يقسمون مثل ذلك ، ولا يراعى فيهم العدالة.

والأظهر عندنا ان القسامة خمسون رجلا ، يقسمون خمسين يمينا ، سواء كان القتل عمدا محضا أو خطأ محضا أو خطأ شبيه العمد.

وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن النعمان ، قد ذكره في مقنعته (١).

والأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر (٢) فإنه فصّل ذلك.

وما اخترناه عليه إجماع المسلمين.

واللوث أيضا عندنا يراعى في الأعضاء والأطراف ، لأن القسامة لا تكون إلّا إذا كان لوث.

وشيخنا ذهب في مبسوطة الى ان الدعوى إذا كانت دون النفس فلا يراعى فيها ان يكون معه لوث (٣).

__________________

(١) المقنعة ، باب البيّنات على القتل ص ٧٣٦.

(٢) الخلاف كتاب القسامة مسألة ٤.

(٣) المبسوط ، ج ٧ ، كتاب القسامة ، ص ٢٢٣.

٣٣٨

وهذا قول بعض المخالفين ، ذكره في هذا الكتاب ، لأنّ معظمه فروعهم.

والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين ، وسميت قسامة ، لتكثير اليمين فيها.

وقال أهل اللغة القسامة عبارة عن أسماء الحالفين من أولياء المقتول ، فعبر بالمصدر عنهم ، وأقيم المصدر مقامهم ، يقال أقسمت اقسم أقساما ، وقسامة ، وذلك من القسم الذي هو اليمين.

فامّا إذا قامت البيّنة بشهادة غيرهم ، فليس فيه أكثر من شهادة نفسين عدلين ، إذا كان القتل عمدا ، أو شهادة عدل ويمين المدعي إذا كان القتل خطأ ، لأنّ المقصود من هذا القتل المال دون القود.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فاما إذا قامت البيّنة بشهادة غيرهم ، فليس فيه أكثر من شهادة نفسين عدلين ، ايّ ضرب كان من أنواع القتل ، لا يختلف الحكم فيه (١).

وليس إطلاقه رحمه‌الله ذلك ، يدل على ان في قتل الخطأ لا يقبل إلا شهادة عدلين ، ولا تقبل شهادة عدل ويمين المدعي ، الّا من حيث دليل الخطاب ، وذلك عندنا غير معمول عليه ، وان كان قد أفصح وفصّل وذهب في مبسوطة (٢) ، ومسائل خلافه (٣) ، الى ما اخترناه ، وذهبنا اليه.

وقد قلنا ان القسامة انما تكون مع اللوث الذي هو قوة الظن ، وهو التهمة الظاهرة ، ولا تكون القسامة مع ارتفاعها ، فان لم يكن لوث ولا تهمة ظاهرة ، فان المدعى عليه ، لا يلزمه سوى يمين واحدة ، بأنّه ما قتل المقتول ، ولا تجب اليمين هاهنا على المدعي ، مثل سائر الدعاوي فليلحظ ذلك.

ومتى أقاموا نفسين تشهدان لهم بالقتل أو أقاموا القسامة على ما قدّمناه ، وجب على المدعى عليه إن كان القتل عمدا القود ، الّا أن يتراضيا على أخذ الدية حسب ما قدّمناه ، وان كان القتل خطأ محضا أو شبيه العمد ، وجب عليه أو على عصبته الدية على ما بيّناه.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الديات باب البيّنات على القتل.

(٢) المبسوط ج ٦ كتاب القسامة ص ٢١١.

(٣) الخلاف كتاب الشهادات مسألة ٢٣.

٣٣٩

ومتى لم يكن لأولياء المقتول من يشهد لهم من غيرهم ، ولا لهم قسامة من أنفسهم ، وكان هناك لوث ، كان على المدعى عليه ان يجي‌ء بخمسين ، يحلفون أنه بري‌ء مما ادعي عليه ، فان لم يكن له من يحلف عنه ، كررت عليه الايمان خمسين يمينا ، وقد برئت عهدته ، فان امتنع من اليمين ، الزم القتل ، وأخذ به على ما يوجبه الحكم فيه.

والبينة في الأعضاء ، مثل البيّنة في النفس ، من شهادة نفسين عدلين ، ان كان عمدا أو عدل ويمين المدعى ، على ما قدمناه وحررناه.

والقسامة فيها واجبة مثلها في النفس.

وكل شي‌ء من أعضاء الإنسان يجب فيه الدية كاملة ، مثل الأنف ، والذكر ، والسمع والشم ، واليدين ، والعينين ، وغير ذلك ، كان فيه القسامة مثل ما في النفس سواء.

وفيما نقص من الأعضاء ، القسامة فيها على قدر ذلك ، وبحسبه من الايمان ، من حساب الخمسين يمينا ان كانت الجناية عمدا ، أو خمسة وعشرين ان كانت الجناية خطأ.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والبيّنة في الأعضاء مثل البيّنة في النّفس ، من شهادة نفسين مسلمين عدلين ، والقسامة فيها واجبة مثلها في النّفس ، وكل شي‌ء من أعضاء الإنسان يجب فيه الدية كاملة ، مثل العينين والسمع وما أشبههما ، كان فيه القسامة ستة رجال ، يحلفون بالله تعالى ، ان المدعى عليه قد فعل بصاحبهم ما ادعوه ، فان لم يكن للمدعي قسامة ، كررت عليه ستة أيمان ، فإن لم يكن له من يحلف ، ولا يحلف هو ، طولب المدعى عليه بقسامة ستة نفر يحلفون عنه أنه بري‌ء من ذلك ، فإن لم يكن له من يحلف ، حلف ستة أيمان ، أنه بري‌ء مما ادعي عليه ، وفيما نقص من الأعضاء ، القسامة فيها على قدر ذلك ، ان كان سدس العضو فرجل واحد ، يحلف كذلك ، وان كان ثلثه فاثنان ، وان كان النصف فثلاثة ، ثم على هذا الحساب ، وان لم يكن له من يحلف ، كان عليه بعدد ذلك ، ان كان سدسا فيمين واحدة ، وان كان ثلثا ، فمرتين ، وان كان النصف ، فثلاث مرّات ، ثم على

٣٤٠