وقد اختلف الناس فى الرائحة : فمنهم من زعم أنها تتأدى بمخالطة شىء من جرم ذى الرائحة متحلل متبخر فيخالط المتوسط. ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط من غير أن يخالطه شىء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه. ومنهم من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شىء آخر من جرمه ومن غير استحالة من المتوسط. ومعنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم عديم الرائحة وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط ، بل يكون المتوسط ممكّنا من فعل ذلك فى هذا ، على ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان.
فحرى بنا أن نحقق هذا ونتأمله.
ولكن لكل واحد من المذعنين (١) بشىء من هذه المذاهب حجة.
فالقائل بالبخار والدخان يحتج ويقول : إنه لو لم تكن الرائحة تسطع بسبب تحلل شىء ، ما كانت الحرارة وما يهيج الحرارة من الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح ولما كان البرد ممّا يحتبسها (٢). فبين أن الروائح أنما تصل إلى الشم ببخار يتبخر من ذى الرائحة ، يخالطه الهواء وينفذ فيه ، ولهذا إذا استقصيت تشمّم التفاحة ذبلت لكثرة ما يتحلل منها.
والقائلون بالاستحالة احتجوا وقالوا : إنه لو كانت الروائح التى تملأ المحافل أنما تكون بتحلل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه ويقلّ حجمه مع تحلل ما يتحلل منه.
وقال أصحاب التأدية : خصوصا إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار
__________________
(١) المدعين ، نسخة.
(٢) لا كان البرد يخفيها ، نسخة.