على الناس وزيغهم عن المراد ، وتعين على العلماء حينئذ أن لا يهملوا البيان ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ولا بد في إيضاح البيان الزيادة فنقول : قد قررنا أن الاستواء مشتق من السواء وأصله العدل ، وحينئذ الاستواء المنسوب إلى ربنا تعالى في كتابه بمعنى اعتدل أي قام بالعدل ، وأصله من قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى قوله (قائِماً بِالْقِسْطِ) فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعدله كل شيء خلقه ، موزونا بحكمته البالغة في التعرف لخلقه بوحدانيته ، ولذلك قرنه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والاستواء المذكور في كتابه استواءان : استواء سماوي واستواء عرشي ، فالأول تعدى بإلى قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وقال (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ومعناه ـ والله أعلم ـ اعتدل أي : قام بقسطه وتسويته إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ونبّه على أن استواءه هذا هو قيامه بميزان الحكمة ، وتسويته بقوله أولا عن الأرض (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وبقوله آخرا (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وأما الاستواء العرشي : فهو أنه تعالى قام بالقسط ، متعرفا بوحدانيته في عالمين : عالم الخلق ، وعالم الأمر وهو عالم التدبير ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فكان استواؤه على العرش للتدبير بعد انتهاء عالم الخلق لقوله تعالى : (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) وبهذا يفهم سر تعدية الاستواء العرشي بعلى ، لأن التدبير للأمر لا بد فيه من استعلاء واستيلاء (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وعلمه تعالى ذاته ، فإنه يستحيل عليه أن يقوم بذاته أمر زائد ، أو عين زائدة ما هي ذاته ، تعطيها حكما لا يصح لها ذلك الحكم دونها مما يكون كمالا لها في ألوهيتها ، بل لا تصح الألوهة إلا بها وهو كونه عالما بكل شيء ، ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ، ودل عليه دليل العقل. ـ رقيقة ـ لما خلق الله الثقلين في المقام الذي قصده بخلقهم وهو أجلية الحق ، من قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فرغهم لذلك
____________________________________
من هذه العناية ، التي لأجلها خلق هذا الخلق العظيم الكبير ، ومصداق كونه من أجلنا أنه إذا انتقلنا إلى الدار الآخرة مارت السماء وانشقت ، وزالت الأرض وسارت الجبال بزوالنا من الدنيا ،