وساق الكتاب بحر في التعريف والعهد ، فذلك الكتاب هو الكتاب المرقوم ، لأن أمهات الكتب ثلاثة : الكتاب المسطور والكتاب المرقوم والكتاب المجهول. والكتاب ضم معنى إلى معنى ، والمعاني لا تقبل الضم إلى المعاني حتى تودع في الحروف والكلمات ، فإذا حوتها الكلمات والحروف قبلت ضم بعضها إلى بعض فانضمت بحكم التبع لانضمام الحروف ، وانضمام الحروف تسمى كتابة ، فذلك الكتاب المرقوم المنزل عليك هو علمي لا علمك (لا رَيْبَ فِيهِ) عند أهل الحقائق أنزله في معرض الهداية (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فهو في معرض الهداية لمن اتقاني وأنت المنزل فأنت محله ، ولا بد لكل كتاب من أم ، وأمه ذلك الكتاب المجهول لا تعرفه أبدا ، وقال تعالى (ذلِكَ) ولم يقل تلك آيات الكتاب ، فالكتاب للجمع والآيات للتفرقة ، وذلك مذكر مفرد ، وتلك مفرد مؤنث ، فأشار تعالى بذلك الكتاب أولا لوجود الجمع أصلا قبل الفرق ، كما أشار بالآيات إلى محل الأحكام والقضايا. ـ إشارة ـ الكتاب المرقوم هو هذا القرآن ، والكتاب المسطور هو الوجود كله ، والكتاب المجهول هو علم الله تعالى.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)
بحث في الإيمان : إن الإيمان عبارة عن نور حاصل من قبل الحق تعالى ، قابل لكل ما
____________________________________
(فِيهِ) ويجوز الابتداء به فيقرأ : فيه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) هدى أي بيان ، أي أن الكتاب يتضمن بيان ما أراد الله أن يخبر به عباده ، من طريق السعادة التي من سلك عليها نجا ، وخص المتقين بالذكر ، فإن المتقي هو الذي يحذر ويخاف ، فيؤديه حذره إلى البحث والتفتيش عن الأمر الذي تكون فيه سعادته ، فيتبين له من القرآن ذلك ، فيما هو معجز يحصل له التصديق بالمخبر به ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم ، وبما يتضمنه من المعاني يحصل له التصديق بها ، فإن الله هو الصادق في خبره ، لا يجوز عليه الكذب ، ولا يشترط في المتقي هنا أن يكون مؤمنا في حال تقواه ، فإنه صاحب نظر وطلب واستكشاف عن بيان الأمر ، فإذا تبين له آمن ، وإذا آمن استصحبه التقوى والحذر من مخالفة الله فيما أمر به ونهى ، وفيما يطرأ على القلوب من الشكوك والشبه المضلة ، فلا تزال التقوى له صفة ، قوله (٤) (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هو نعت للمتقين ، وقد يكون مبتدأ ، ويكون الخبر الجملة من قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ). ثم اعلم أن المعلومات على قسمين :