يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم ، فبلغ شعياء الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا [ولم تسمع قولنا](١) وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل عمله ، فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة ، فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه [أمرا ونهيا](٢) ، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء قم في قومك حتى أوحي على لسانك ، فلما قام النبي شعياء أنطق الله على لسانه بالوحي ، فقال : يا سماء استمعي ويا أرض انصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين ربّاهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها ، وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها ، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين (٣) لا يدرون أين (٤) جاءهم الحين أن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار لما يذكر الأريّ الذي شبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير وأني ضارب لهم مثلا فليسمعوه وقل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء (٥) زمانا [خربة](٦) أمواتا لا عمران فيها ، وكان لها ربّ حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه وهو قوي ، أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصورا وأنبط نهرا وصنف (٧) فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها وولي ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا ، فلما اطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدرانها وقصرها (٨) ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها ، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيم نبيي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي اطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدعون أن يتقربوا إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم مزملة بدمائها ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ويزوقون إلى المساجد ، ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها؟ وأي حاجة لي إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها ، يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم يرفع تنور صلاتنا وتصدقنا فلم ترك صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا
__________________
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع «التي».
(٤) في المطبوع «أني» والمثبت عن الطبري ٢٢٠٥٩.
(٥) في المطبوع «خرابا».
(٦) زيادة عن المخطوط.
(٧) عند الطبري «صف».
(٨) وقع في العبارة اضطراب ففي المخطوط «تهدم جدارها وقصورها» وفي المطبوع «يهدم جدرها وقصرها» والمثبت عن الطبري ٢٢٠٥٩.