كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)
قوله جلّت قدرته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ...) الآية : (كُتِبَ) : معناه فرض ، والصيام ؛ في اللغة : الإمساك ، ومنه قوله سبحانه : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] وفي الشرع : إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن ؛ من مراعاة أوقات ، وغير ذلك.
وقوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : اختلف في موضع التشبيه : قالت فرقة : التشبيه : كتب عليكم كصيام قد تقدّم في شرع غيركم ، ف «الّذين» عامّ في النصارى (١) وغيرهم.
و (لَعَلَّكُمْ) : ترجّ في حقهم.
و (تَتَّقُونَ) : قيل على العموم ؛ لأن الصيام ؛ كما قال صلىاللهعليهوسلم : «جنّة (٢) ووجاء ، وسبب
__________________
(١) هذا قول ، والقول الثاني : أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره ، وهذا ضعيف ؛ لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور ، فأما أن يقال : إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا. ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها. أحدها : أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود ، والنصارى ، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة ، وزعموا أنه يوم غرق فيه فرعون ، وكذبوا في ذلك أيضا ؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان ، فصادفوا فيه الحر الشديد ، فحولوه إلى وقت لا يتغير ، ثم قالوا عند التحويل : نزيد فيه ، فزادوا عشرا ، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم ، فنذر سبعا ، فزادوه ، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال : ما بال هذه الثلاثة ، فأتمه خمسين يوما ، وهذا معنى قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) [التوبة : ٣١] وهذا مروي عن الحسن. وثانيها : أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا ، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما ، ولهذا كره صوم يوم الشك ، وهو مروي عن الشعبي ، وثالثها : أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم. واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] يفيد نسخ هذا الحكم ، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ، ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى ، قال أصحاب القول الأول : قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه ، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان ، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما ، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
ينظر : «الفخر الرازي» (٥ / ٦٠)
(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٢٥) ، كتاب «الصوم» ، باب فضل الصوم حديث (١٨٩٤) ، ومسلم (٢ / ٨٠٦) كتاب «الصيام» ، باب فضل الصيام حديث (١٦٢ / ١١٥١). ومالك (١ / ٣١٠) كتاب «الصيام» ، باب.