أما ترتيب التلاوة التعبديّ فباق ؛ لأنه في ذات الكلام ، يدركه كلّ واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة ، بينما الترتيب التاريخيّ لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن ... وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا إلى معرفتها معرفة نقلية تصوّرية ، ليتمكّن الآتون من استعمال القرائن والأحوال ، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وأما السبب الثاني : فهو أنّ دلالات القرآن الأصليّة ، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب ـ تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محلّ إجمال أو محلّ إبهام ؛ إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة ، يتصوّر فيها معناه الأصليّ ولا يتبيّن المراد منها ، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها ، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصّها ، أو أحد لوازمها ... ؛ فينشأ عن ذلك إجمال يتطلّب بيانا ، أو إبهام يتطلّب تعيينا ... ولما كان الذين اتصلوا أوّلا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلّغ صلىاللهعليهوسلم في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها ؛ فتلقّوا عند ما أفادهم ؛ فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لتتّضح لهم تلك المعاني ؛ كما اتضحت لمن قبلهم ...» (١).
وبذا تبيّن أن التفسير نشأ منذ بدء الوحي ؛ إذ احتاج إليه الصحابة ، ثم زادت حاجة التابعين إلى التفسير ، ولا سيّما ما رآه الصحابة وسمعوه من الرسول صلىاللهعليهوسلم ولم يتمكّنوا هم من رؤيته ولا سماعه ... ثم اشتدّت حاجة تابعي التابعين.
وهكذا كلّما بعد الناس عن عصر نزوله ، زادت الحاجة إلى التفسير بمقدار ما زاد من غموض (٢) ...
فهم الصّحابة للقرآن الكريم
نزل القرآن عربيّا على رسول عربيّ ، وقوم عرب ؛ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ...) [الجمعة : ٢] ، فكانوا أخبر بلغتهم ، وفهموا القرآن حقّ فهمه ، وقد يشكل عليهم فهم آية منه ؛ فيرجعون إلى القرآن نفسه ، فقد يجدون فيه توضيحا أو تفصيلا ، وإلا رجعوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ليفسّر لهم ما أشكل عليهم ...
__________________
(١) «التفسير ورجاله» من ١٠ ـ ١٣.
(٢) راجع «التفسير والمفسرون» / للذهبي ١ / ١٠١ ـ ١٠٢.