وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي : ركبتم الفلك ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي : تجري بهم السفن بريح طيبة.
يخبر أن السفن ليست تجري في البحار بجريان الماء ؛ لأن ماءها [راكد](١) في الظاهر ، ولكن الريح هي التي تجريها وتسيرها ؛ وكذلك الأمواج التي تكون فيها ليست لشدة جريان الماء ، ولكن الريح هي التي تهيج [الأمواج وتزعجها لا بنفس الماء (وَفَرِحُوا بِها) قيل : فرحوا بها : سروا بها. ويحتمل فرحوا بها ، أي : بطروا بها وأشروا.
وقوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ)](٢) ، أخبر أن من الريح ما هي طيبة تجرى بها السفن ، ومنها ما هي عاصفة قاصفة تكسر وتفرق السفن وتهلك أهلها ؛ ليعلم أن الأشياء تصلح تارة وتفسد تارة لا لأنفسها ، ولكن لحفظ الحدود فيها ، وكذلك النار تحرق مرة وتفسد ومرة تصلح وذلك لحفظ الحدود فيها ، وكذلك الماء مرة يصلح ومرة يفسد ، وذلك إذا حفظ فيه الحد أصلح ، وإن لم يحفظ أفسده ، وإلا لا يحتمل الشيء الواحد لنفسه يصلح مرة ويفسد تارة ، ولكن لحفظ الحدود فيه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) قيل : أيقنوا أنهم مهلكون ، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا يدرى لعل الله يصرف ذلك عنهم ، فلا يقع به الإيقان ، ولكن جعل غالب الظن فيه في كثير من الأشياء كالإيقان به ألا ترى أن الله أباح الميتة في حال الضرورة لغالب الظن ؛ إذ قد يجوز ألا يهلك بذلك ، وكذلك ما أبيح للمكره بالقتل أن يجري كلمة الكفر على لسانه لغالب الظن ، وإلا ليس يعلم بالإحاطة أنه يقتله لا محالة ، لكن جعل لغالب الظن في بعض المواضع حكم اليقين والإحاطة فعلى ذلك قولهم أيقنوا أنهم أحيط بهم لغالب الظن.
وقوله ـ عزوجل ـ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أنهم لما أيسوا عن الأصنام التي عبدوها في دفع ما حل بهم عنهم ، فزعوا إلى الله ، وأخلصوا الدعاء له ، وقالوا : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، ثم أخبر عن سفههم بعودهم إلى ما كانوا من قبل ، (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، وهكذا كانت عادتهم كانوا يفزعون إلى الله عند خوف الهلاك والإياس عن آلهتهم التي عبدوها ، ويخلصون الدعاء له ، فإذا كشف ذلك الكرب عنهم ودفع ، عادوا إلى ما كانوا من قبل.
والبغي في الأرض هو الفساد فيها.
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.
(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.