وقوله : (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) قال بعضهم : من كل ناحية من فوق ؛ ومن تحت ؛ [ومن خلف](١) ومن قدام ؛ كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] وقال : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] أخبر أن النار تأتيهم وتأخذهم من كل جانب ومن كل جهة.
ويحتمل (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : أي : ومن كل سبب من تلك الأسباب التي تأتيهم ؛ ما لو كان قضاؤه الموت ـ لماتوا بكل سبب من تلك الأسباب.
وقال بعضهم : أي : ليس من موضع من جسده ومن سائر جوارحه ـ إلا الموت يأتيه منها ؛ من شدة ما يحل بهم ؛ حتى يجدوا طعم الموت وكربه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ وَرائِهِ) أي : ومن وراء ذلك العذاب ـ عذاب غليظ لا ينقطع ولا يفتر ، وصفه بالغلظ والشدة ؛ لدوامه والإياس عن انقطاعه. والله أعلم.
قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)(١٨)
وقوله ـ عزوجل ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) هو ـ والله أعلم ـ : على التقديم [والتأخير](٢) ؛ أي : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
ثم تحتمل (أَعْمالُهُمْ) : الأعمال التي كانت لهم في حال إيمانهم ، ثم كفروا ، بما (٣) أحدثوا من الكفر ؛ أبطل ذلك الأعمال الصالحة في الإيمان ؛ وهو ما ذكر : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥].
أو يكون محاسنهم التي كانت لهم في حال الكفر ؛ طمعوا أن ينتفعوا بتلك المحاسن في الآخرة ؛ فما انتفعوا بها ؛ فصارت كالرماد الذي تذروه الريح الشديدة ؛ لم ينتفع صاحب ذلك الرماد به بعد ما عملت به الريح ما عملت ؛ فعلى ذلك : الأعمال الصالحة التي عملوها في حال كفرهم ، أو أعمالهم الصالحة التي كانت لهم في حال الإيمان ؛ ثم أحدثوا الكفر ـ لا ينتفعون بها.
وقال في آية أخرى : (أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النور : ٣٩] فيشبه أن يكون هذا في أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها صالحة حسنة ؛ كقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] فشبه ما كان في نفسه سببا بالسراب ؛ لأنه لا شيء هنالك ؛ إنما يرى
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) سقط في أ.
(٣) في ب : ما.