أما جواب الأول : فإنه احتج عليهم ؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة ، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة ؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدين وسمعا في أمر الدين وحياة الدين ، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم ، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء ؛ كقوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤].
والثاني : نفى عنهم هذه الحواس ؛ لأنهم لم ينتفعوا بها ؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها ، وهو المقصود بإنشائها ، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم.
وأما جواب ما قالوا : إنا [بصراء وسمعاء](١) وأنتم العميان والصم ، فيقال لهم : إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم (٢) من الآيات والنظر فيها ، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا ، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء و [سمعاء وأحياء](٣) ، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات.
والثاني : أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة ، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء ، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء ، فصاروا صمّا عميانا أمواتا ؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن ، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما ؛ فدل أنهم بما ذكر أولى.
وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام ؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ
__________________
ـ عبارة مشهورة في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللف والنشر ، أشار لقول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا |
|
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي |
أصل الكلام : أن الرطب من قلوب الطير : العناب ، واليابس منها : الحشف ، فلفّ ونشر.
ينظر اللباب (١٠ / ٤٦٤).
(١) في ب : سمعاء وبصراء.
(٢) في ب : أسماعهم.
(٣) في ب : وأحياء وسمعاء.