وفي هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه : فقراءة العامة (رَبَّنا) ـ بالنصب ـ على أنه نداء مضاف .. (باعِدْ) ـ بزنة فاعل ـ سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (رَبَّنا) كذلك على الدعاء بعد ـ بتشديد العين ـ من التبعيد.
وقرأ يعقوب وغيره ربنا ـ بالرفع ـ (باعِدْ) ـ بفتح العين والدال ـ على الخبر. أى : لقد باعد ربنا (بَيْنَ أَسْفارِنا) (١).
وقوله : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أى : قالوا ذلك القول السيئ ، وظلموا أنفسهم بسببه ، حيث أجيب دعاؤهم ، فكان نقمة عليهم ، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان ، صاروا يسافرون بمشقة وخوف.
وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) بيان لما آل إليه أمرهم.
والأحاديث : جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدث به الناس على سبيل التلهي والتعجب أى : قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر ، فكانت نتيجة ذلك. أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم ، ويضربون بهم المثل ، فيقولون : تفرقوا أيدى سبأ ، ومزقناهم كل ممزق في البلاد المتعددة ، فمنهم من ذهب إلى الشام ، ومنهم من ذهب إلى العراق ... بعد أن كانوا أمة متحدة ، يظلها الأمان والاطمئنان ، والغنى والجاه ...
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم (لَآياتٍ) واضحات بينات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على طاعة الله ـ تعالى ـ (شَكُورٍ) له ـ سبحانه ـ على نعمه.
وخص ـ سبحانه ـ الصبار والشكور بالذكر. لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه.
ثم بين ـ عزوجل ـ الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ولفظ (صَدَّقَ) قرأه بعض القراء السبعة بتشديد الدال المفتوحة ، وقرأه البعض الآخر بفتح الدال بدون تشديد. وقوله : (عَلَيْهِمْ) متعلق بصدق.
وقوله (ظَنَّهُ) مفعول به على قراءة التشديد ، ومنصوب بنزع الخافض على القراءة بالتخفيف ، وضمير الجمع في (عَلَيْهِمْ) وفي (فَاتَّبَعُوهُ) يعود إلى قوم سبأ.
والمعنى على القراءة بالتشديد : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه في قدرته على إغوائهم ، وحقق ما كان يريده منهم من الانصراف عن طاعة الله ـ تعالى ـ وشكره ، فاتبعوا خطوات الشيطان ،
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٩٠.