بسبب انغماسهم في الفسوق والعصيان ، إلا فريقا من المؤمنين ، لم يستطع إبليس إغواءهم لأنهم أخلصوا عبادتهم لخالقهم ـ عزوجل ـ ، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
والمعنى على القراءة بالتخفيف : ولقد صدق إبليس في ظنه أنه إذا أغواهم اتبعوه ، لأنه بمجرد أن زين لهم المعاصي أطاعوه ، إلا فريقا من المؤمنين لم يطيعوه.
قال القرطبي ما ملخصه : وقوله : (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نصب على الاستثناء وفيه قولان : أحدهما : أنه يراد به بعض المؤمنين ـ فتكون من للتبعيض ـ ، لأن كثيرا من المؤمنين يذنبون وينقادون لإبليس في بعض المعاصي. أى : ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق ، وهو المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.) ...
والثاني : أن المراد بهم جميع المؤمنين ، فعن ابن عباس أنه قال : هم المؤمنون كلهم.
وعلى هذا تكون (مِنَ) للبيان لا للتبعيض .. (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ أن إغواء الشيطان لأهل سبأ ولأشباههم من بنى آدم ، لم يكن عن قسر وإكراه ، وإنما كان عن اختيار منهم ليتميز الخبيث من الطيب فقال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) ...
والمراد بالسلطان هنا : التسلط بالقهر والغلبة والإكراه. والمراد بالعلم في قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إظهار هذا العلم للناس ليتميز قوى الإيمان من غيره.
أى : وما كان لإبليس عليهم من سلطان قاهر يجعلهم لا يملكون دفعه ، وإنما كان له عليهم الوسوسة التي يملكون صرفها ودفعها متى حسنت صلتهم بنا ، ونحن ما أبحنا لإبليس الوسوسة لبنى آدم ، إلا لنظهر في عالم الواقع حال من يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب وحساب ، ولنميزه عمن هو منها في شك وريب وإنكار ...
قال الشوكانى ـ رحمهالله ـ : والاستثناء في قوله (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) منقطع أى : لا سلطان له عليهم ، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم.
وقيل : هو متصل مفرغ من أعم العلل. أى : ما كان له عليهم من تسلط بحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل ، إلا ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن ، لأنه ـ سبحانه ـ قد علم ذلك علما أزليا. وقال الفراء : إلا لنعلم ذلك عندكم. والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار (٢).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٩٣.
(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٣٢٢.