الخاص وهو العقاب (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ نقمة أخرى أصابتهم بسبب جهلهم وحمقهم ، وكيف أن هذه النقمة قد حلت محل نعمة كانوا فيها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ).
أى : وجعلنا ـ بقدرتنا ورحمتنا بين أهل سبأ (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) كمكة في الجزيرة العربية ، وكبيت المقدس في بلاد الشام ، جعلنا بينهم وبين تلك القرى المباركة ، (قُرىً ظاهِرَةً) أى : قرى متقاربة متواصلة ، بحيث يرى من في إحداها غيرها.
(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أى : وجعلنا زمن السير من قرية إلى أخرى مقدرا محددا ، بحيث لا يتجاوز مدة معينة قد تكون نصف يوم أو أقل.
وقالوا : كان المسافر يخرج من قرية ، فيدخل الأخرى قبل حلول الظلام بها.
وقوله : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) مقول لقول محذوف. أى : وقلنا لهم : سيروا في تلك القرى المتقاربة العامرة بالخيرات ، والتي توصلكم إلى القرى المباركة .. سيروا فيها ليالي وأياما آمنين من كل شر سواء سرتم بالليل أم بالنهار ، فإن الأمن فيها مستتب في كل الأوقات : وفي كل الأحوال.
فالآية الكريمة تحكى نعمة عظمى أخرى أنعم الله ـ تعالى ـ بها على أهل سبأ ، وهي نعمة تيسير سبل السفر لهم إلى القرى المباركة ، وتهيئة الأمان والاطمئنان لهم خلال سفرهم ، وهي نعمة عظمى لا يدرك ضخامتها إلا من مارس الأسفار من مكان إلى آخر.
ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة ، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر ، أنهم دعوا الله ـ تعالى ـ بقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا).
أى : مع أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة ، ومكانهم منها ، وهي نعمة تيسير وسائل السفر ، ومنحهم الأمان والاطمئنان خلاله .. إلا أنهم ـ لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم ـ تضرعوا إلينا وقالوا : يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة ، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار ، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة ، فهم ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ : بطروا النعمة ، وبشموا. أى : سئموا ـ من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا النكد والتعب ، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم ، مكان المن والسلوى (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧٦.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧٧.