سياق قوله ـ تعالى ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ..) ثم قيل : فناداها نسقا على ذلك ، ولعلة أخرى وهي قوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ..) ولم تشر إليه ـ إن شاء الله ـ إلا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك ..» (١).
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير من كون الذي نادى مريم هو ابنها عيسى ، أقرب إلى الصواب ، لأن هذا النداء منه لها في تلك الساعة ، فيه ما فيه من إدخال الطمأنينة والسكينة على قلبها.
أى : فناداها ابنها عيسى الذي كان أسفل منها عند ما وضعته. مطمئنا إياها بعد أن قالت : يا ليتني مت قبل هذا الذي حدث لي .. ناداها بقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) يا أماه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أى جدولا صغيرا من الماء ، لتأخذى منه ما أنت في حاجة إليه ، وسمى النهر الصغير من الماء سريا ، لأن الماء يسرى فيه.
وقيل : المراد بالسرى : عيسى ـ عليهالسلام ـ مأخوذ من السّرو بمعنى الرفعة والشرف.
يقال : سرو الرجل يسرو ـ كشرف يشرف ـ فهو سرىّ ، إذا علا قدره وعظم أمره ومنه قول الشاعر :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم |
|
ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
أى : قد جعل ربك تحتك يا مريم إنسانا رفيع القدر ، وهو ابنك عيسى ، والجملة الكريمة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى بقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) قال بعض العلماء ما ملخصه : «وأظهر القولين عندي أن السرى في الآية النهر الصغير لأمرين :
أحدهما : القرينة من القرآن ، لأن قوله بعد ذلك (فَكُلِي وَاشْرَبِي) قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
الثاني : ما جاء عن ابن عمر من أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن السرى الذي قال الله لمريم : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهر أخرجه الله لها لتشرب منه».
فهذا الحديث ـ وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف ـ أقرب إلى الصواب من دعوى أن السرى عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه» (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ). معطوف على ما قاله عيسى لأمه
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ١٦ ص ٥٢.
(٢) تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ـ رحمهالله ـ ج ٤ ص ٢٤٨.