وأما المعقول فمن وجوه منها : أن من جوز على الرسول صلىاللهعليهوسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلىاللهعليهوسلم كان نفى الأوثان.
ومنها : أننا لو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه .. فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحى وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر. وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة (١).
وقال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها ، لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج به ، وصرح بعد ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب.
والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه صلىاللهعليهوسلم شرعا ولو على سبيل السهو.
والذي يظهر لنا أنه الصواب : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر أو أساطير الأولين ..
والدليل على هذا المعنى : أن الله ـ تعالى ـ بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ...) ثم قال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ...) فهذا يدل على أن الشيطان يلقى عليهم ، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق ، فيصدقه الأشقياء ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ، كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه ...» (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ أن الكافرين سيستمرون على شكهم في القرآن حتى تأتيهم الساعة ، وأنه ـ تعالى ـ سيحكم بين الناس يوم القيامة ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا. ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فقال ـ عزوجل ـ :
(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(٥٥)
__________________
(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٦٧.
(٢) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٧٣١ لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى وراجع تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١٧٥.