يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا ، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس ، وفي الحديث : «إن الله يحب المؤمن المحترف المتعفف ، ويبغض السائل الملحف» (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من نعمه على سليمان بن داود فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها).
وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) معطوف على معمول «سخرنا» في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) و «عاصفة» حال من الريح.
أى : وسخرنا لسليمان الريح حال كونها عاصفة أى : شديدة الهبوب ، كما سخرنا مع أبيه الجبال يسبحن والطير.
يقال : عصفت الريح تعصف إذا اشتدت ، فهي عاصف وعاصفة وعصوف سميت بذلك لتحطيمها ما تمر عليه فتجعله كالعصف وهو التبن.
وقوله ـ تعالى ـ : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أى : جعلناها مع قوتها وشدتها تجرى بأمر سليمان وإذنه إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام. وقيل : يحتمل أن يكون المراد بها ما هو أعم من أرض الشام.
ووصفت الريح هنا بأنها عاصفة ، وفي آية أخرى بأنها رخاء قال ـ تعالى ـ : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٢). لأنها تارة تكون عاصفة ، وتارة تكون لينة رخاء. على حسب ما تقتضيه حكمته ـ سبحانه ـ.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «فإن قلت : وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما؟.
قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة ، على ما قال : «غدوها شهر ورواحها شهر» فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان على حسب ما يريد» (٣).
وقال ـ سبحانه ـ هنا : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أى تجرى بأمره إلى تلك الأرض في حال إيابه ورجوعه إليها ، حيث مقر مملكته ومسكنه. فالمقصود من الآية الكريمة الإخبار عن جريانها في حال عودته إلى مملكته.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٣٢١.
(٢) سورة ص الآية ٣٦.
(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٣٠.