ثم ذكر له ـ سبحانه ـ ما هو أعجب مما سأل عنه فقال : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).
أى : لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة ، فإنى أنا الله الذي أوجدتك من العدم ، ومن أوجدك من العدم ، فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور.
فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقي برهاني ، ما يدل على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ وما يزيد في اطمئنان قلب زكريا ـ عليهالسلام ـ.
ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما التمسه زكريا ـ عليهالسلام ـ من خالقه فقال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ...).
أى : اجعل لي علامة أستدل بها على وقوع ما بشرتني به ، لأزداد سرورا واطمئنانا. ولأعرف الوقت الذي تحمل فيه امرأتى بهذا الغلام فأكثر من شكرك وذكرك.
فأجابه الله ـ تعالى ـ بقوله : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا).
أى : قال الله ـ تعالى ـ لعبده زكريا : يا زكريا. علامة وقوع ما بشرتك به ، أنك تجد نفسك عاجزا عن أن تكلم الناس بلسانك ، لمدة ثلاث ليال بأيامهن حال كونك سوى الخلق ، سليم الحواس ليس بك من خرس ، أو بكم ، ولكنك ممنوع من الكلام بأمرنا وقدرتنا على سبيل خرق العادة.
فقوله : (سَوِيًّا) حال من فاعل «تكلم» وهو زكريا أى : حال كونك يا زكريا سوى الخلق ، سليم الجوارح ، لا علة تمنعك من ذلك سوى قدرتنا. ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من زكريا بعد ذلك فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
والمحراب : المصلى ، أو الغرفة التي كان يجلس فيها في بيت المقدس ، أو هو المسجد ، فقد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. لأنها الأماكن التي تحارب فيها الشياطين.
أى : فخرج زكريا ـ عليهالسلام ـ على قومه من المكان الذي كان يصلى فيه ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أى : فأشار إليهم أو كتب لهم دون أن ينطق بلسانه (أَنْ سَبِّحُوا) الله ـ تعالى ـ وقدسوه (بُكْرَةً) أى : في أوائل النهار (وَعَشِيًّا) أى : في أواخره.
وقد ذكر ـ سبحانه ـ في آية أخرى ، ما يشير إلى أن هذا المحراب الذي خرج منه زكريا ـ عليهالسلام ـ على قومه. هو ذلك المكان الذي بشره الله ـ تعالى ـ فيه بيحيى.
قال ـ تعالى ـ : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ،