ثم حكى القرآن بعد ذلك أن موسى ـ عليهالسلام ـ ترك فرصة البدء لهم ، واستبقى لنفسه الجولة الأخيرة ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَ بَلْ أَلْقُوا ، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). والتخيل : هو إبداء أمر لا حقيقة له. ومنه الخيال ، وهو الطيف الطارق في النوم.
أى : قال موسى ـ عليهالسلام ـ للسحرة في الرد على تخييرهم له ، ابدءوا أنتم بإلقاء ما معكم من حبال وعصى.
والفاء في قوله : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ...) فصيحة وهي معطوفة على كلام محذوف ، وإذا هي الفجائية.
أى : قال لهم موسى بل ألقوا أنتم أولا ، فامتثلوا أمره وألقوا ما معهم ، فإذا حبالهم وعصيهم التي طرحوها ، جعلت موسى ـ لشدة اهتزازها واضطرابها ـ يخيل إليه من شدة سحرهم ، أن هذه الحبال والعصى حيات تسعى على بطونها.
قال ابن كثير : وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد ، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كانت حيلة ، وكانوا جمّا غفيرا ، وجمعا كبيرا ـ أى السحرة ـ فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات ، يركب بعضها بعضا .. (١).
ويبدو أن فعل السحرة هذا ، قد أثر في موسى ـ عليهالسلام ـ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى).
والإيجاس : الإخفاء والإضمار ، والخيفة : الخوف. أى ؛ فأخفى موسى ـ عليهالسلام ـ في نفسه شيئا من الخوف ، حين رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى على بطونها ، وخوفه هذا حدث له بمقتضى الطبيعة البشرية عند ما رأى هذا الأمر الهائل من السحر ، وبمقتضى أن يؤثر هذا السحر في نفوس الناس فيصرفهم عما سيفعله.
وهنا ثبته الله ـ تعالى ـ وقواه ، وأوحى إليه ـ سبحانه ـ بقوله : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى).
أى : قلنا له عند ما أوجس في نفسه خيفة من فعل السحرة : لا تخف يا موسى مما فعلوه ، إنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة والظفر. أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل.
وقد أكد الله ـ تعالى ـ هذه البشارة لموسى بجملة من المؤكدات أحدها : إن المؤكدة ،
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٩٤ ـ طبعة دار الشعب ـ.