وهذه الآية الأخيرة تفهّمنا أن كتاب الله جل جلاله يعلّم المؤمنين «إباء الضيم» ، وهو خلق يفيد معنى الاستمساك بالعزة والقوة ، والثورة على المذلة والهوان ، وإذا كنا قد عرفنا أن القرآن قد كرر وصف ذات الله القدسية بصفة «العزيز» ما يقرب من تسعين مرة ، فكأنه أراد بذلك ـ وهو أعلم بمراده ـ أن يملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة ، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم استشعروا القوة في أنفسهم ، واعتزوا بمن له الكبرياء وحده في السموات والأرض ، وتأبوا على الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق ، وفزعوا إلى واهب القوى والقدر ، يرجونه أن يعزهم بعزته ، وكأن الله عزوجل قد أراد أن يؤكد هذا المعنى في نفوس عباده حين جعل كلمة «الله أكبر» تتردد كلّ يوم في أذان الصلاة مرات ومرات ، ثم يرددونها في صلواتهم كلّ يوم مرات ومرات ، فتشعرهم بأن الكبرياء لله جل علاه ، وأن عباده يلزمهم أن يلتمسوا العزة من لدنه ، وأن يستوهبوا القوة من حماه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ). (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ولقد أراد القرآن المجيد أن يهدي المؤمنين إلى الطريق الذي يصون لهم العزة ، ويحصنهم ضد الرضا بالهوان ، أو السكوت على الضيم ، فأمرهم بالإعداد والاستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزة ، فقال لهم : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) لأن القوة تجعل صاحبها في موطن الهيبة والاقتدار ، فلا يسهل الاعتداء عليه من غيره من الضعفاء.
وعلّمهم القرآن الإقدام والاحتمال والثبات في مواطن اليأس ، موقنين أن الله معهم ، فقال لهم :
(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ، وَتَرْجُونَ