فكأن في داخله ميزانا دقيقا عميقا ، يتأثر بما يمر عليه أو يصل إليه ، فإذا هو يتذكر جمال الفضائل ويسعى إليها. ويتذكر قبح الرذائل وينفر منها ، وإذا حاول الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس أن يدخل على الإنسان بخديعة أو تغرير ، ليضله عن السواء السبيل ، أو ليشغله عن واجباته الدينية والدنيوية تنبه وتيقظ وتذكر ، فإذا التذكر يصده عن الخطأ ، ويصونه عن الانحراف ، ويثبته على طريق الاستقامة ، وكأن هذا التذكر قد صار ناقوس تحذير مستمر ، فهو شبيه بالساعة الالهية الدقاقة في صدر الانسان ، وهي «القلب» لا تزال دقاتها تشعر صاحبها بأنه من الأحياء.
ولقد حدثنا ربنا جل جلاله بأن وظيفة القرآن الكريم في الوجود هي إحياء التذكر في النفوس حتى تعقل وتؤمن وتعمل وتستقيم وتلتزم الخير وتجتنب الشر فقال في سورة ص : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). وقال في سورة الأنعام : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). وقال في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا). وقال في سورة طه : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). وقال في سورة الدخان : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وقال في سورة طه : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى). وقال في سورة الحاقة : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). والتذكرة هي ما يتذكر به الانسان الشيء المنسيّ ، أو يستديم به تذكر الشيء المذكور المستحق لدوام تذكره ، فيكون من المتجملين بفضيلة التذكر ، ويكون قد استجاب لنداء الحق المكرر في سورة القمر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
والقرآن المجيد يحدثنا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن وظيفته هي التذكير المحقق للتذكر عند كل مستجيب مؤمن ، فيقول الله جل جلاله لرسوله في سورة الطور : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ، ويقول في سورة الغاشية : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ).