وقال فى القوت : هذه الذنوب تدخل على النّفوس من معانى صفاتها ، وغرائز جبلاتها ، وأول إنشائها من نبات الأرض ، وتركيب الأطوار فى الأرحام ، خلق من بعد خلق ، ومن اختلاط الأمشاج بعضها مع بعض ، ولذلك عقبه بقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ ...) الآية. ه.
ثم قال تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) ، فاكتفوا بعلمه عن علم النّاس ، وبجزائه عن ثناء النّاس. وبالله التوفيق.
الإشارة : ولله ما فى سموات الأرواح من أنوار الشهود ، وما فى أرض النّفوس من آداب العبودية ، رتّب ذلك ليجزى الذين أساءوا بوقوفهم مع أرض النّفوس فى العالم المحسوس ، ويجزى الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان ، بالحسنى ، وهى المعرفة ، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح ، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم ، وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم ، ووقوفهم مع عالم الحس ، والفواحش ، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عنصر قدرته ، وتصغيرهم شيئا مما عظّم الله ، إلا اللمم ؛ خواطر تخطر ولا تثبت.
قال القشيري : كبائر الإثم ثلاث ؛ محبة النّفس الأمّارة ، ومحبة الهوى النّافخ فى نيران النّفس ، ومحبة الدنيا ، التي هى رأس كلّ خطيئة ، ولكلّ واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها ، أما فاحشة محبة النّفس : فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة ، وأما فاحشة محبة الهوى : فحب الدنيا وشهواتها ، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله ، والإقبال على ما سواه. وقوله (إِلَّا اللَّمَمَ) أي : الميل اليسير إلى الهوى والنّفس والدنيا ، بحسب ضرورته البشرية ؛ من استراحة البدن ، ونيل قليل من حظوظ الدنيا ، بحسب الحقوق ، لا بحسب الحظوظ ، فإنّ مباشر الحقوق مغفور ، ومباشر الحظوظ مغرور. ه.
(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) يستر العيوب ، ويوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية ، ورقّاكم إلى عالم الرّوحانية ، وإذ أنتم أجنة فى أول بدايتكم فى بطون أمهاتكم ، فى بطون الهوى والغفلة ، ودائرة الكون ، فأخرجكم منها بمحض فضله ، فلا تزكّوا أنفسكم ، فتنظروا إليها بعين الرّضا ، أو تنسبوا إليها شيئا من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري : تزكية المرء نفسه علامة كونه محجوبا ؛ لأنّ المجذوب عن بقائه ، المستغرق فى شهود ربّه ، لا يزكّى نفسه. ه. قلت : هذا مادام فى السير ، وأما إن حصل له الوصول ؛ فلا نفس له ، وإنما يزكّى ربه إذا زكّاها ، هو أعلم بمن اتقى ما سواه.