عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية : وتحرير القول فى الكبائر : أنها كلّ معصية يوجد فيها حدّ فى الدنيا ، أو توعّد عليها بنار فى الآخرة ، أو بلعنة ونحوها. وقرأ الأخوان : (كبير الإثم) على إرادة الجنس ، أو الشرك ، (وَ) يجتنبون (الْفَواحِشَ) وهو ما فحش من الكبائر ، كأنه قيل : يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصا ، فيحتمل أن يريد بالكبائر : ما فيه حق الله وحده ، والفواحش منها : ما فيه حق الله وحق عباده ، (إِلَّا اللَّمَمَ) أي : إلا ما قلّ وصغر ، فإنه مغفور لمن يجتنب الكبائر ، وقيل : هى النّظرة والغمزة والقبلة ، وقيل : الخطرة من الذنب ، وقيل : كل ذنب لم يجعل الله فيه حدّا ولا عذابا. والاستثناء منقطع ؛ لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش.
(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو : حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة ، وهذا أحسن ، (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ) فى ضمن إنشاء أبيكم آدم عليهالسلام (مِنَ الْأَرْضِ) إنشاء إجماليا ، حسبما مرّ تحقيقه مرارا ، (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) أي : يعلم وقت كونكم أجنة (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) على أطوار مختلفة ، لا يخفى عليه حال من أحوالكم ، ولا عمل من أعمالكم.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ؛ فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال ، وزيادة الخير والطاعات ، أو : إلى الزكاة والطهارة من المساوئ ، ولا تثنوا عليها ، واهضموها ، فقد علم الله الزكىّ منكم والتقىّ ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ، ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت.
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرّياء ، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة ، والتحدث بها ، فإنه جائز ؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكرها. والأحسن فى إيراد الاعتراف والشكر أن يقدم ذكر نقصه ، فيقول مثلا : كنا جهالا فعلّمنا الله ، وكنا ضلّالا فهدانا الله ، وكنا غافلين فأيقظنا الله ، وهكذا فنحن اليوم كذا وكذا.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون نهيا عن أن يزكّى بعض النّاس بعضا ، وإذا كان هذا ، فإنما ينهى عن تزكية السّمع (١) ، أو القطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث فى «عثمان بن مظعون» عند موته (٢) ، وأما تزكية القدوة أو الإمام ، أو أحدا ، ليؤتم به أو ليتهمّم النّاس بالخير ، فجائز ، وقد زكّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود فى الحقوق جائزة ؛ للضرورة إليها ، وأصل التزكية : التقوى ، والله تعالى أعلم بتقوى النّاس منكم. ه (٣).
__________________
(١) فى ابن عطية : السمعة والمدح للدنيا.
(٢) حديث عثمان بن مطعون رضي الله عنه ـ سبق ذكره وتخريجه عند التعليق على إشارة الآية ٩ من سورة الأحقاف ، فراجعه إن شئت.
(٣) ببعض المعنى