الأعلى من سماء الغيوب ، ثم دنا من القلب فتدلى ، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله تعالى بواسطة ذلك الوارد إلى عبده ما أوحى من علوم الحقائق والأسرار ، ومن مكاشفات غيوب الأقدار ، ما كذب الفؤاد فيما رأى لأنه حق ، لكن قهرية العبودية غيّبت عنه تعيين وقت وقوعه. ولقد رآه ، أي : رأى القلب أسرار ذات الحق ، نزلة أخرى فى عالم الجبروت ، الخارج عن دائرة التجليات الكونية ، وهى الأسرار اللطيفة ، المحيطة فى الأنوار الملكوتية والملكية ، عند سدرة المنتهى ، وهى شجرة القبضة المحمدية ، التي انتهى إليها علم العلماء ، وأرواح الشهداء ، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين. عندها جنة المأوى التي يأوى إليها أفكار العارفين وأسرار الرّاسخين ، إذ يعشى السدرة ـ أي : شجرة الكون ـ ما يغشى من الفناء والتلاشى عند سطوع شمس الحقائق ، ما زاغ بصر البصيرة عن شهود تلك الأسرار ، وما حجبه عنها أرض ، ولا سماء ، ولا عرش ، ولا كرسى ؛ لتلطف تلك العوالم فى نظر العارف ، وما طغى : وما جاوز العبودية حتى يطمع فى الإحاطة بعظمة كنه الرّبوبية ، فإنّ الإحاطة لا تمكن ، لا فى هذه الدار ، ولا فى تلك الدار ، بل يبقى الترقي فى الكشوفات ، والمزيد من حلاوة الشهود أبدا سرمدا ، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى ، حيث وسع من لم تسعه أرضه ولا سماؤه.
وقال الورتجبي : بعد كلام : فى هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه ، إذ رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، ظن صلىاللهعليهوسلم أنّ ما رآه فى الأول لا يكون فى الكون ـ أي : فى مظهر الكون ـ لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانيا علم أنه لا يحجبه شىء من الحدثان ، وعادة الكبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريما ، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حبه لحبيبه. وحقيقة الإشارة : أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس [الأمر] (١) ، وظهر المكر ، وبان الحقّ من شجرة سدرة المنتهى ، كما بان من شجرة العناب لموسى ، ليعرفه حبيبه بكمال المعرفة ، إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه فى لباس مختلفة ، وبيان ذلك فى قوله : (إذ يغشى السدرة ما يغشى) وأبهم ما غشيه ؛ لأن العقول لا تدرك حقائق ما يغشاها ، وكيف يغشاها ، والقدم منزّه عن الحلول فى الأماكن؟! كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه ، ما ألطف ظهوره ، لا يعلم تأويله إلا الله ، والرّاسخون فى العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به. ه.
ولمّا فرغ من ذكر عظمة الله وكبريائه ، ذكر حقارة من عبد من دونه ، ترهيبا وترغيبا ، فقال
(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
__________________
(١) زيادة أثبتها من الورتجبي.