(وَلَقَدْ رَآهُ) أي : رأى محمد جبريل على صورته الأصلية ، أو : رأى ربه على تجل خاص وتعرف تام ، (نَزْلَةً أُخْرى) ؛ مرّة أخرى ، والحاصل : أنه عليهالسلام رأى ربه بتجل خاص جبروتى مرتين ، عند خرق الحجب العلوية فوق العرش ، عند السدرة ، وأما رؤيته عليهالسلام لله تعالى فى مظاهر الكائنات ففى كلّ حين ، لا يغيب عنه طرفة عين. والنّزلة : فعلة من النّزول ، نصب نصب الظرف الذي هو «مرّة». (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) ، الجمهور : أنها شجرة النّبق فى السماء السابعة ، عن يمين العرش ، وتسميتها المنتهى ؛ إما لأنها فى منتهى الجنة وآخرها ، أو : لأنها لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهى علم الخلائق ، ولا يعلم أحد ما وراءها ، أو : إليها ينتهى أرواح الخلائق ، أو : أرواح الشهداء ، وفى الحديث : «أنها شجرة يسير الرّاكب فى ظلها ألف عام ، لا يقطعها ، والورقة منها تظل الأمّة ، وتمرها كالقلال الكبار».(١)
(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي : الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها ، أو : تأوى إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء. قال ابن جزى : يعنى أن الجنة التي وعد الله بها عباده هى عند سدرة المنتهى ، وقيل : هى جنة أخرى ، والأول أظهر وأشهر. ه. ويؤيده ما فى الحديث : «إن النّيل والفرات يخرجان من أصلها» وهما من الجنة ، كما فى الصحيح (٢). (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ، ظرف للرؤية ، أي : لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها ، مما لا يكتنهه الوصف ، ولا يفى به البيان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، استحضارا لصورتها البديعة ، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدده ، وقيل : يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة ، يعبدون الله تعالى عندها ، وقيل : يزورونها متبركين بها ، كما يزور النّاس الكعبة ، وقيل : يغشاها فراش من ذهب ، والفراش ـ بفتح الفاء ـ ما يطير ويضطرب. (ما زاغَ الْبَصَرُ) أي : بصر محمد صلىاللهعليهوسلم ، أي : ما عدل عن رؤية العجائب التي مكّن من رؤيتها ، (وَما طَغى) ؛ وما جاوز ما أمر برؤيته ، (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي : والله لقد رآى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفى به نطاق العبارة ، وقد دونت هنا كتب فى عجائب ما رآه صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج.
الإشارة : أقسم الله تعالى بنجم العلم إذا طلع فى أفق سماء القلوب الصاحية ، إنّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله ، وأشرقت عليه شمس الحقائق ، لا يضل صاحبه ولا يغوى ، وما ينطق عن الهوى ؛ لأنه مستغرق فى شهود الحق ، لا يتجلى فيه إلا الحق ، (إن هو) أي : ما يتجلى فيه إلا وحي يوحى من قبل الإلهام الإلهى ، علّمه شديد القوى ، وهو الوارد الرّبانى ، ذو مرة وشدة ؛ لأنه من حضرة قهّار ، ولا يصادم شيئا إلا دفعه ، فاستوى وهو بالأفق
__________________
(١) جزء من حديث الإسراء الطويل ، وأخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، ح ٣٢٠٧) ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء رقم ٢٦٤ ، ح ١٦٤) عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وفيه : «ورفعت لى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها كأنه قلال هجر ، وورقها كأنه آذان الفيول ، فى أصلها أربعة أنهار ، نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فسألت جبريل ، فقال : «أما الباطنان ففى الجنة ، وأما الظاهران النّيل والفرات ..» الحديث.
(٢) قوله : «هما فى الجنة كما فى الصحيح» يشير الشيخ ـ رحمهالله ـ إلى ما أخرجه مسلم فى (الجنة ، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ح ٢٨٣٩) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».