أيضا : أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصرا ، وبهذا يرتفع الخلاف ، وأنه رآه ببصر رأسه ؛ وقوله صلىاللهعليهوسلم ، حين سأله أبو ذر : هل رأيت ربك؟ فقال : «نورانى أراه» (١) وفى رواية : «نور أنّى أراه»؟ (٢) بالاستفهام ، وفى طريق آخر : «رأيت نورا» (٣) وحاصلها : أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته ؛ إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات ، كما هو مقرر عند محققى الصوفية ، كما قال الشاعر :
وليست تنال الذات من غير مظهر |
|
ولو هتك الإنسان من شدة الحرص |
وقال كعب لابن عباس : إنّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلّم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين (٤). وقيل لابن عباس : ألم يقل الله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٥) ، قال : ذلك إذا تجلى بنوره (٦). الذي هو نوره الأصلى ، يعنى أن الله تعالى يتجلى لخلقه على ما يطيقون ، ولو تجلى بنوره الأصلى لتلاشى الخلق ، كما قال فى الحديث : «حجابه النّور ، لو كشفه لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره» (٧).
(أَفَتُمارُونَهُ) أي : أفتجادلونه ، من : المراء ، وهو المجادلة ، واشتقاقه من : مرى النّاقة ، وهو استخراج لبنها ، كأنّ كلّ واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه ، أي : يستخرجه. وقرىء فى التواتر : «أفتمرونه» (٨) أي : أفتغلبونه. ولما فيه من معنى الغلبة ، قال تعالى : (عَلى ما يَرى) فعدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا ، وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه ، يقال : مريته حقّه : جحدته ، وتعديته ب «على» على مذهب التضمين ، والمعنى : أفتخاصمونه على ما يرى معاينة ، وحققه باطنا.
__________________
(١) ذكر هذه الرّواية بنصها السيوطي فى الدر المنثور (٦ / ١٦٠) وعزاها لمسلم والترمذي وابن مردويه ، عن أبى ذر ، ولم أقف عليها فى مسلم والترمذي. وقال الإمام النّووى فى شرح صحيح مسلم (٣ / ١٢) : قال الإمام المازري : وروى : «نورانى أراه» بفتح الرّاء وكسر النّون وتشديد الياء ، ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلنا ، أي : خالق النّور المانع من رؤيته ، فيكون من صفات الأفعال.
وقال القاضي عياض ـ رحمهالله : هذه الرّواية لم تقع إلينا ، ولا رأيتها فى شىء من الأصول. ه.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله صلىاللهعليهوسلم : نور أنى أراه ، رقم ٢٩١ ، ح ١٧٨).
(٣) أخرجه مسلم فى الموضع السابق (رقم ٢٩٢).
(٤) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير ، باب ومن سورة النّجم ، ح ٣٧٢٨).
(٥) من الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.
(٦) أخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (ص ٤١٠) وضعّفه ، عن عكرمة عن ابن عباس ، بلفظ : «قال : يا لا أم لك ، ذلك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شىء».
(٧) جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب فى قوله عليهالسلام : «إن الله لا ينام ، رقم ٢٩٣ ح ١٧٩) عن أبى موسى رضي الله عنه.
(٨) «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم بلا ألف. وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ، وخلف. وقرأ الجمهور «أفتمارونه» بضم التاء وفتح الميم وألف بعدها. انظر الإتحاف (٢ / ٥٠١).