(وَهُوَ) أي : جبريل (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ؛ أفق الشمس ، أي : مطلعها ، (ثُمَّ دَنا) جبريل من النّبى صلىاللهعليهوسلم (فَتَدَلَّى) أي : زاد فى القرب ، أو : استرسل من الأفق مع تعلق به. يقال : تدلت الشجرة ، ودلّى رجله من السرير ، وأدلى دلوه ، والدوالي : الثمر المعلّق. (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي : مقدار قوسين عربيين. والقاب : المقدار. قال قتادة وغيره : معناه : من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال مجاهد والحسن : من الوتر إلى العود فى وسط القوس ، أي : فكان بين جبريل والنّبى صلىاللهعليهوسلم مقدار قوسين ، (أَوْ أَدْنى) فى تقديركم ، كقوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) (١) وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم وفهمهم ، وهم يقولون : هذا مقدار قوسين أو أدنى.
(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي : فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلى جبريل (ما أوحى) من الأمور العظيمة التي لا تفى بها العبارة ، وقيل : أوحى إليه : «أنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ويمكن حمل الآية على قصة المعراج ، أي : (علّمه شديد القوى) وهو الله تعالى ، (ذو مرة) أي : شدة ومتانة ، ومنه : اسمه «المتين» ، (فاستوى) بنوره أي : تجلى بنور ذاته من ناحية الأفق ، أي : العلو (فتدلى) ذلك النّور (فكان قاب قوسين أو أدنى) وفى البخاري : «فدنا ربّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده» ويرجع لتجليه لنبيه ، وتنزله له ، وتعرّفه له ، وفى حديث الإسراء عنه ـ عليه الصلاة والسّلام : «سمع النّداء من العلي الأعلى : أدن يا خير البرية ، أدن يا محمد ، فأدنانى ربى حتى كنت كما قال تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)». قال القشيري : ويقال : كان بينه وبين ربه قدر قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى.
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ) أي : فؤاد محمد عليهالسلام (ما رَأى) أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية ، أو : من نور الحق تعالى الذي تجلى له ، أي : ما قال فؤاده لمّا رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ؛ لأنه عرفه بقلبه ، كما عرفه ببصره ، وقيل : على إسقاط الخافض ، أي : ما كذب القلب فيما رآه البصر ، بل ما رآه ببصره حققه ، وفى الحديث : سئل صلىاللهعليهوسلم هل رأيت ربك؟ قال : «رأيت ربى بفؤادى مرتين» (٢) ، حديث آخر : «جعل نور بصرى فى فؤادى ، فنظرت إليه بفؤادى» (٣) ، يعنى أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة ، وجاء
__________________
(١) من الآية ١٤٧ من سورة الصافات.
(٢) أخرجه الطبري ، وعزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١٦٠) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن بعض أصحاب النّبى صلىاللهعليهوسلم. وأخرج مسلم فى (الإيمان ، باب معنى قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ..) رقم ٢٨٤ ح ١٧٦) عن ابن عباس ، قال : «رآه بفؤاده مرتين».
(٣) أخرجه بطوله ، الطبري ، عن ابن عباس ، فى رواية لحديث «اختصام الملأ الأعلى فى الدرجات والكفارات». قال ابن كثير فى التفسير (٤ / ٢٥١) : «إسناده ضعيف».