(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : فاعبده تعالى مخلصا دينه من شوائب الشرك والرّياء ، حسبما بيّن فى تضاعيف ما أنزل إليه. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة ؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية ، التي من جملتها : الاطلاع على السرائر والضمائر.
الإشارة : قال القشيري : كتاب عزيز ، نزل من ربّ عزيز ، على عبد عزيز ، بلسان ملك عزيز ، فى شأن أمة عزيزة ، بأمر عزيز. وأنشدوا :
ورد الرّسول من الحبيب الأول |
|
بعد البلاء ، وبعد طول الأمل (١) |
تنزيل تنزهت قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها ، فى كتاب الأحباب ، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سرورا بوصولها ، وارتياحا بحصولها ، وكتاب موسى فى الألواح ، ومنها كان يقرأ موسى ، وكتاب نبينا صلىاللهعليهوسلم نزل به الرّوح ، الأمين ، على قلبك ، وفصل بين من يكون خطاب ربه مكتوبا فى ألواحه ، وبين من يكون خطاب ربه محفوظا فى قلبه ، وكذلك أمته ، (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٢) ه.
وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، قال القشيري : العبادة : معانقة الطاعات على نعت الخضوع ، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح ، فالتى بالنفس ـ أي : بالجوارح ـ الإخلاص فيها : التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب ، أي : كالفكرة والنّظرة ، الإخلاص فيها : التباعد عن رؤية الأشخاص ـ أي : الحس من حيث هو ـ والتي بالروح ، الإخلاص فيها : التنقّى عن رؤية طلب الاختصاص (٣).
قوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) هو ما يكون جملته لله ، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد ، اللهم إلا أن يكون بأمره ، فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته ، فأطاعه ، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به ، ولو لا هذا ما صحّ أن يكون فى العالم مخلص ، يعنى : أن جل النّاس إنما يطيعون لاحتساب الأجر ، إلا الفرد النّادر ، فمن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله ، شكرا ، وإظهارا للأدب ، فإن قصد الاحتساب ، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص ، فلا يضر ، يدل عليه قوله صلىاللهعليهوسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله» (٤) وهذا فى أصل القصد ، والعوارض غير مضرة ، كما هو صريح حديث آخر. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) البيت غير موجود فى لطائف الإشارات المطبوع.
(٢) الآية ٤٩ من سورة العنكبوت.
(٣) بتصرف.
(٤) بعض حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا ، ح ٨١٠) ومسلم فى (الإمارة ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا ، ٣ / ١٥١٢ ، ح ١٩٠٤) من حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. وأول الحديث : (أن أعرابيا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل ليذكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن فى سبيل الله؟ ...) الحديث.