بِالْوَعِيدِ) فى دار الكسب على ألسنة رسلى ، فلا تطمعوا فى الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة. والجملة فيها تعليل للنهى ، على معنى : لا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت : «لأملان جهنم ..» إلخ ، فاتبعتموه معرضين عن الحق ، فلا وجه للاختصام فى هذا الوقت. والباء إما مزيدة كما فى قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) (١) أو معدية على أن «قدّم» مضارع تقدم.
(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا تطمعوا أن يبدل قولى ووعيدي بإدخال الكفار فى النار ، (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب عبدا بغير ذنب من قبله ، بل بما صدر منه من الجنايات ، حسبما أشير إليه آنفا. والتعبير عنه بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة ، فضلا عن كونه ظلما مفرطا لتأكيد هذا المعنى ، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى معرض المبالغة فى الظلم ، وقيل : هو لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلّام لعبيده ، وقيل : ظلّام بمعنى : ذى ظلم ، كلبّان لذى اللبن. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قرين الإنسان نفسه الأمّارة وروحه المطمئنة ، فإذا غلبت النفس على الروح وصرّفت صاحبها فى الهوى ، تقول يوم القيامة : هذا ما لدىّ عتيد ، مهيأ للعتاب ، فيقال لهما : ألقيا فى نار القطيعة كلّ كفّار للنعم ، جحود لوجود الطبيب ، منّاع للخير ، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه ، معتد على الله بتكبره ، وعدم حط رأسه للداعى إلى الله ، مريب ، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر ، أو : شاك فى وجود الطبيب ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، يحبه ويخضع له ، من الهوى والدنيا ، وكلّ ما أشركه مع الله فى المحبة ، فألقياه فى العذاب الشديد : الحجب عن الله ، وعدم اللحوق بأولياء الله ، أو العذاب الحسى. قال قرينه ـ روحه التي كانت سماوية ، فصيرها أرضية ، بمتابعة هواه : ربنا ما أطغيته ، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأنى ، ولكن كان فى ضلال بعيد ، حيث أطاع نفسه وهواه ، ورمانى فى مزابل الشهوات والغفلة ، قال تعالى : (لا تختصموا لدىّ) اليوم ، قد قدمت إليكم بالوعيد ، حيث قلت : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٣) وقلت فى شأن من جاهد نفسه ، وردها لأصلها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٤) الآية ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) فإنى وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتى ، والتنعم برؤيتى بقولي : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) (٥) الآية ، وأهل الغفلة بالحجاب ، بقولي : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٦) ، وما ظلمت أحدا قط ، لأن الظلم ليس من شأنى ، ولا يليق بملكي.
__________________
(١) من الآية ١٩٥ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٥٣ من سورة يوسف.
(٣) الآيتان ٩ ـ ١٠ من سورة الشمس.
(٤) من الآية ٢٧ من سورة الفجر.
(٥) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.
(٦) الآيتان ١٤ ـ ١٥ من سورة المطففين.